هذه المقالة ليست رداً على مقال “فهم التقارب العربي مع النظام السوري من منظور النظرية البنائية في العلاقات الدولية” لوسام الدين العكلة والمنشور في موقع حرمون بتاريخ 17 أيار/أغسطس 2023، إنما هي مقاربة جديدة لفهم ذاك التقارب من وجهة نظر علم النفس السياسي. وإذ تُستبدل جملة “التقارب العربي” الواردة في عنوان ومتن مقال العكلة بـ “التقارب السعودي” إنما تفرضه عوامل مؤثرة عديدة، منها أن ذلك التقارب العربي حدث في مؤتمر القمة العربية التي استضافته مدينة جدة السعودية برئاسة ولي العهد السعودي، بتاريخ 19 أيار/مايو 2023. ولا يخفى على أحد السطوة السعودية في فرض ذلك التقارب حيث “السعودية استثمرت دبلوماسيتها الضاغطة لإقناع جميع الدول العربية بالحضور بغض النظر عن مستوى علاقاتها الثنائية”[1]، لذلك ما كان لبشار الأسد أن يعود من جديد لشَغل مقعد سورية في الجامعة العربية بعد مقاطعة استمرت اثنتي عشرة سنة لولا رفع الڤيتو السعودي عنه، وكلّنا يعرف أن الجزائر حاولت دعوة بشار الأسد في القمة التي انعقدت على أراضيها في العام الماضي لكنها فشلت[2]. وهذا يعني أن السعودية بقيادة ولي عهدها هي من يقود ذلك التطبيع وهذا التقارب مع النظام السوري.
لذلك، هذه الورقة تحاول فهم الدوافع التي قادت ولي العهد السعودي لاستقبال بشار الأسد بتلك الحفاوة البالغة التي شهدناها عبر شاشات التلفزة، مع غض النظر عن جرائمه والتي باتت موثّقة ولا تحتاج لإثبات. ومما لا شك فيه أن تحليل أي ظاهرة سياسية تتطلب من التحليل العلمي الموضوعي النظر إليها في كل أبعادها وزواياها، إلا أن هذه الورقة تستعين فقط بعلم النفس السياسي كحقل أكاديمي يهتم بدراسة الشخصيات القيادية والنخب المؤثرة في صناعة القرار السياسي وبالتنبؤ بطبيعة القرارات التي يمكن أن يتخذها قائد ما – محمد بن سلمان النموذج الذي نحلله هنا.
مقدمة
علم النفس السياسي، هو الحقل العلمي الذي يدرس الآليات، والنظم النفسية، لتحديد الوعي السياسي للأشخاص، والجماعات، والجماهير. مورتون دويتش – وهو دكتور في علم النفس بجامعة كولومبيا يعرّفه بأنه: “دراسة تفاعل علم النفس، لاسيما أثر علم النفس على السياسة”[3]. ويُعرّفه أيضاً بأنه استخدام الأساليب والمفاهيم والنظريات المعمول بها في علم النفس في تحليل سلوك الجهات الفاعلة في العملية السياسية، وتفسير المواقف، والقرارات السياسية، باستخدام مصطلحات علم النفس.
نشأ “علم النفس السياسي” بوصفه علماً أكاديمياً وتطبيقياً في تقدير مورتون دويتش في الفترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية نتيجةً لما ظهر خلالها من اضطرابات سياسية متلاحقة، وقيام نظم شمولية استعانت بوسائل الدعاية، وقيام نظم ديمقراطية بالرد عليها[4]. وفي الطرف المقابل يُعرف عن علم السياسة بأنه حقل أكاديمي يتشكل وفقاً لمعطيات وعوامل كثيرة حيث يتأثر بالعوامل النفسية مثل الإدراك والمواقف والمعتقدات وتأثير الثقافة وآليات التنشئة السياسية ومجمل الصفات الشخصية التي تتشكل ضمن محيط نفسي واجتماعي معين. ويُجمل دارسو السياسية الخارجية كل تك العوامل بما يسمى “البيئة النفسية”، ويرون أنها تمثل “المتغير الوسيط” الذي تُمثّل من خلاله البيئة الموضوعية على السياسة الخارجية. ولن يحدث ذلك التغيير – وفقاً لأولئك الدارسين- إن لم يدرك صانع القرار السياسي متغيرات البيئة الموضوعية تلك المتمثلة بنسق النظام الدولي وخصائص أخرى متعددة وكثيرة[5]. ومهم هنا لدارس السياسة الخارجية توافر الضرورة القصوى في التمييز فيما يتعلق بصناعة القرار السياسي بين الدول الديموقراطية والدول الشمولية. وهنا في هذه الورقة نحاول تطبيق تأثير تلك “البيئة النفسية” وتلك التنشئة لولي العهد السعودي في كيفية اتخاذه للقرار السياسي، ذلك القرار المتمثل باستقبال بشار الأسد، وذلك العناق بينهما الذي شاهده العالم.
أثر البعد النفسي في رسم السياسة الخارجية
يتعامل القائد السياسي مع معطيات السياسة الخارجية وفقاً لطبيعة مكونات شخصيته الفكرية وكيفية بنائه النفسي والثقافي وتجربته التاريخية. تلك المكونات تدفع لاتخاذ القرار السياسي. وكلما كان القرار يخضع لحسابات علمية ومنطقية ويحوز على دقة درجه عالية من الحسابات والمفاضلة بين الخيارات المتاحة والموجودة وفهم طبيعة النظام الدولي فإنه يحصل على الصوابيّة والمعقولية. مع ذلك تتفاوت سلطة القائد السياسي في صناعة السياسة الخارجية من نظام سياسي إلى آخر. “ففي حالة النظم التسلطية تكاد تكون سلطة القائد السياسي مطلقةً في إدارة كافة شؤون الدولة بما فيها السياسة الخارجية للدولة، أما في النظم الديمقراطية فتكون هناك قيود كبيرة على القائد، وذلك نظراً لطبيعتها وعدم قدرة القائد السياسي على اتخاذ أي قرار سياسي دون الرجوع للبرلمانات الموجودة فيها”[6]. ورغم ذلك، يخطئ من يعتقد أن الدول المُسماة ديموقراطية تخلو من أثر ذلك البعد النفسي الذي يتحكم في صانع القرار، وهناك الكثير من الأمثلة، وكيف لعب ذلك العامل دوراً كبيراً في رسم السياسات الخارجية. ألكسندر جورج وجولييت جورج أجريا دراسة تبحث عن دوافع الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون وأثرها على سياسته الخارجية يقول الباحثان: “إن طفولة ويلسون تميزت بسيطرة والده عليه سيطرة كاملة وأن ذلك قد أتاح لديه دافعاً قوياً نحو الإنجاز والقوة وممارستها بمفردة وعدم قبول أي سلطة فوق إرادته”[7]. انطلاقاً من تلك الدوافع أصر الرئيس الأمريكي السابق في مؤتمر فرساي عام 1919 على قبول الحلفاء وجهة نظره في كيفية تسوية مشكلات ما بعد الحرب العالمية الأولى، وهدد بالانسحاب إن لم تنفذ إرادته[8]. وهناك الكثير من الأبحاث والدراسات التي تتناول سياسيين حول العالم وأثر البعد النفسي في اتخاذهم قرارتهم المتعلقة بالسياسة الخارجية.
أثر الدوافع الشخصية في صناعة القرار الخارجي
يُقصد بالدوافع الشخصية مجموعة العوامل المرتبطة بالحاجات الأساسية للإنسان، وتملي عليه تصرفات محددة. وتتنوع تلك الدوافع كالدافع نحو القوة، والحاجة إلى الانتماء، والحاجة إلى الإنجاز، وحب السيطرة والإخضاع. كل تلك الدوافع تتفاعل مع التكوين المعرفي والعاطفي والتنشئة فتنتج قرارات مختلفة. على سبيل المثال، فقدان جمال عبد الناصر الإحساس بالأمن في طفولته نتيجة وفاة والدته عندما كان طفلاً وسرعة زواج أبيه مرة أخرى أنتج لديه ميلاً للشك في الآخرين، ونزعه نحو إنتاج سياسات تنطوي على تأكيد الكرامة واحترام الذات. في نفس السياق، إنما في اتجاه آخر، فإن أنور السادات، منذ كان صغيراً، كانت لديه رغبة جامحة ليصبح نجماً شهيراً في الحياة. تلك الرغبة الجامحة في النجومية تفسر الكثير من سلوكياته في السياسة الخارجية[9]، وما زيارته لإسرائيل وإلقائه خطابه الشهير في الكنسيت الإسرائيلي عام 1977 إلا دليلاً واضحاً على ذلك.
المتغير المستقل والمتغير التابع ودورهما في رسم السياسة الخارجية السعودية
بعد أن قدمنا إطاراً مفاهيمياً موجزاً لهذه الورقة لتنير للقارئ الإطار العام لموضوعنا، لابد من أن ندلف إلى جوهره الرئيس، أي دوافع ولي العهد السعودي في التقارب من النظام السوري، ذلك التقارب الذي سبقته بعض اللقاءات الرسمية وكانت ذروته حضور بشار الأسد إلى مدينة جدة مشاركاً على قدم المساواة مع أي زعيم عربي في قمة الجامعة العربية. إن التقارب مع بشار الأسد ليس معزولاً عن سياقه العام وهو “سياق سعودي راديكالي” تعتقد هذه الورقة أنه ابتدأ منذ مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في مدينة إسطنبول التركية. وهذا السياق الراديكالي وذروته المتمثلة باغتيال الخاشقجي فرض على ولي العهد السعودي اتخاد جملة من القرارات محركها الرئيس رد الفعل وليس الفعل، أي معظم تلك السياسات الخارجية متغير تابع؛ المتغير المستقل هو مقتل الخاشقجي.
وفي تحليل تلك “المتغيرات” وذلك البعد النفسي، استند الباحث إلى مقابلة مهمة وشاملة أجرتها مجلة “ذي أتلنتيك” الأمريكية مع ولي العهد السعودي بتاريخ 2 آذار/مارس عام 2022 حملت عنوان “قوة مطلقة”، وكذلك على تحقيق شامل أجراه الصحافي فرانك غاردنر من مؤسسة بي بي سي البريطانية بعنوان “محمد بن سلمان: كيف تمكّن من تولي مقاليد الحكم في السعودية؟” في أيلول/سبتمبر عام 2013، بالإضافة إلى بعض المصادر المهمة الأخرى.
محمد بن سلمان والخصائص السيكولوجية
“نشأ محمد بن سلمان – الذي ولد في 31 آب/أغسطس 1985- وترعرع، حاله حال زهاء خمسة آلاف من الأمراء السعوديين في عالم مغلق يتسم بالرفاه. كان محمد بن سلمان واحداً من 13 ابناً، وقضى طفولته في قصر محاط بجدران عالية وتفرض عليه حماية قوية يقع في حي المعذر في العاصمة الرياض. وكان جيش من الخدم والطهاة والسائقين وغيرهم من الموظفين الأجانب يلبون كل طلباته دون نقاش”[10]. وعندما منحه والده فرصة الدراسة في الولايات المتحدة أو بريطانيا، مثله مثل الكثيرين من أقرانه الأمراء، رفض محمد بن سلمان، ونال عوضاً عن ذلك شهادة بكالوريوس في القانون من جامعة الملك سعود. يقول مراقبون إن ذلك القرار الغريب (أي الامتناع عن الدراسة في الخارج) ساعد حظوظه من جهة وعرقلها من جهة أخرى. ساعده في أنه ظل في تواصل مع محيطه التقليدي، في حين خسر فرصة التعرف بالغرب وفهمه أكثر[11].
يروي رشيد سكاي، وهو معلم لغة إنكليزية سابق لولي العهد السعودي في صغره، أن الأمير محمد أحضر مرة جهاز اتصال لاسلكي أخذه من أحد الحراس إلى الصف، وقضى فترة الدرس في إبداء “ملاحظات نابية” وإطلاق نكات عن المعلم – رشيد سكاي – أمام إخوانه والحديث عبر الجهاز مع الحراس. ويتذكر معلم الأمير أن طالبه كان مهتماً أكثر بقضاء الوقت مع حراس القصر بدلاً من متابعة الدروس. يقول رشيد سكاي إنه لم يعد يشعر بالراحة بالتدريس عندما اكتشف أن هناك كاميرات مراقبة مثبتة في الصف بشكل سري، وقد علم ذلك من الأمير محمد نفسه. وبعد خطأ بروتوكولي مع والد الأمير، سلمان بن عبد العزيز، الذي كان يشغل آنذاك مدير منطقة الرياض، تم صرفه من عمله وعاد إلى بريطانيا حيث عمل في بي بي سي نيوز البريطانية[12].
ودائماً في محاولتنا التعرف على الصفات والخصائص السيكولوجية لولي العهد، يقول دبلوماسي بريطاني إنه التقى بمحمد بن سلمان في عدة مناسبات “لمحمد بن سلمان اعتقاد استثنائي بقدراته. فهو يشبه الوهج الشمسي، إذ ينفجر آنيّاً بالأفكار والطاقة. ولكنه قد يكون يتمتع بثقة زائدة في النفس، وفي ذلك شيء من عدم الاحتراف”[13].
مما لا شك فيه أن ولي العهد السعودي قد دخلت السعودية معه عصراً جديداً. فالاختلاط بين الجنسين، وقيادة المرأة للسيارات، ووسائل الترفيه كان مجرد التفكير فيها سابقاً من المحرّمات، أما الآن فالحفلات الموسيقية في كل أرجاء المملكة، والفنانون عرباً وأجانب يقيمون حفلاتهم في أجواء صاخبة. فالسعودية قبل محمد بن سلمان كانت تتسم بوجه قاتم وزاهد. كانت الدولة التي يقوم فيها “المطاوعة” أو قوات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بتحريم كل شيء. لكن هذا أصبح من الماضي والفضل فيه لولي العهد. “نتيجة لتلك الخطوات، ارتفعت شعبية محمد بن سلمان في السعودية، وخصوصاً في أوساط الشباب الذين سئموا أن يحكمهم رجال مسنون يزيدونهم عمراً بأكثر من نصف قرن. لم يبلغ محمد بن السلمان من العمر إلا 34 عاماً، ولذا أصبح أول زعيم يمكن للجيل الشاب أن يتواصل ويتفاعل معه”[14] . رغم ذلك، قالت منظمة هيومان رايتس ووتش لحقوق الإنسان إن “السلطات السعودية صعّدت من وتيرة الاعتقالات العشوائية (…) والمحاكمات والأحكام بحق المعارضين السلميين بما في ذلك حملة قمع منظمة كبرى استهدفت حركة حقوق المرأة”[15] ويفسر مراقبون أن محمد بن سلمان يريد أن يأتي التغيير من البلاط الملكي وليس من ضغط الشارع. ويؤكد أحد الديبلوماسيين أن “محمد بن سلمان لا يهمه ما يقال وبأنه لا يكترث للمعارضة. ففي العديد من المقابلات الصحافية التي أُجريت معه اعترف بأن هناك العديد من المعارضين يقبعون في غياهب السجون، ولكنه قال إن ذلك ثمناً يجب أن يُدفع من أجل تنفيذ رؤيته لبرنامج إصلاحي شامل”[16].
ضمن هذا الإطار المكثف لنشأة ولي العهد السعودي، وما يتمتع به من خبرات اجتماعية وسياسية عايشها وكيف أثرت فيه، وفي كيفية إدارته للمملكة؛ أين يمكننا وفقاً لأنماط الشخصية التي يرسمها علم النفس من حيث الخصائص السيكولوجية، لشخصية القائد كمدخل لفهم كيف يصنع قراره السياسي؛ هل شخصية محمد بن سلمان شخصية تسلطية، شخصية ذات عقل منفتح، أم شخصية قائمة فقط على تحقيق الذات؟
كنا افترضنا منذ بداية هذا البحث أن مقتل الخاشقجي شكّل المتغير المستقل الذي جرّ وراءه معظم تلك التحولات في السياسة السعودية. لذلك دعونا نقرأ ما يقوله ولي العهد السعودي في إجابته على سؤال ذي اتلنتيك: “من بين الأشياء الأخرى، أضرت عملية قتل خاشقجي بالعلاقات مع الولايات المتحدة، هل تريد أن يعرف عنك جو بايدن شيئًا قد لا يعرفه عنك؟” يجيب ولي العهد: “إن هذا لا يهمني” ويهز كتفيه دلالة على اللامبالاة؛ ثم يتابع “إن هذا الأمر يعود إليه، ومتروك له للتفكير في مصالح أمريكا، فليفعل ذلك إذن”[17]. يُظهر ولي العهد السعودي – عند فتح ملف اغتيال الخاشقجي – أن حقوقه الشخصية هو قد انتُهكت ويشعر بالألم، ويجيب مسترسلاً إن “قوانين حقوق الإنسان لم تطبّق علي، حيث تنص المادة الحادية عشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن كل شخص بريء حتى تثبت إدانته، وأنا لم أنل هذا الحق، لذلك كيف تتحدث معي عن حقوق الإنسان دون أن تتعامل معي وفقاً للمادة الحادية عشرة من إعلان حقوق الإنسان؟”[18]. وبعد إغلاق الصحافي المحور المتعلق بمقتل الخاشقجي؛ يُرسل ولي العهد رسائل واضحة للإدارة الأمريكية عندما سئل عن ماهية المصالح الأمريكية في المملكة العربية السعودية. يسترسل ولي العهد بالحديث عن أهمية المملكة الاقتصادية، وبأنها “من بين أسرع الدول نمواً في العالم”، لذلك المصالح الرئيسية للولايات المتحدة الأمريكية هي حسب ولي العهد “اقتصادية وسياسية وأمنية، وهذا هو الأساس الرئيس الذي تقوم عليه السياسة الخارجية لأي دولة”[19]. هل استمع بايدن لتلك الرسائل؟ لا يبدو أن الرئيس الأمريكي في وارد التّنصّل من وعوده الانتخابية في حملته الانتخابية قبل أن يصبح رئيساً فيما يتعلق بعلاقته مع ولي العهد بعد اغتيال الخاشقجي. صحيح أن الحرب الروسية – فيما بعد – على أوكرانيا أحدثت تغيرات في المشهد الدولي ودفعت بايدن لزيارة المملكة ولقاءه بمحمد بن سلمان، إلا أن جبل الجليد بين الرجلين لم يذب، حتى أن بايدن استبق زيارته تلك بتصريحات خرجت عن مألوف البرتوكولات والأعراف الديبلوماسية[20]. بعد تلك الزيارة، الكثير من التحولات حدثت في السياسة السعودية محركها العامل النفسي لدى ولي العهد، وهو ما سوف نناقشه في الصفحات القادمة.
إنه الاقتصاد يا غبي[21]
يرفض الأمريكيون معاملته – أي محمد بن سلمان – ويصرون أن نظير بايدن هو الملك؛ ذلك “وخز لاسع”[22]. إنما “لدى المملكة إمكانات هائلة وإن كنتم تريدون تفويتها، أعتقد أن هناك أناس في الشرق سيكونون مبتهجين جداً”[23]. هكذا رد ولي العهد على الصحافي الأمريكي في مقابلته مع ذي أتلنتيك. ثم، مع إلحاح الصحافي في العودة إلى الموضوع الصيني، يسترسل ولي العهد في إجابته “…. وإجمالي الاستثمارات السعودية في أمريكا هو 800 مليار دولار، وفي الصين، حتى هذا الوقت، استثمرنا أقل من 100 مليار دولار، ولكن يبدو أنها تنمو هناك بسرعة كبيرة، كما أن لدى الشركات الأمريكية تركيزاً كبيراً على المملكة العربية السعودية إذ لدينا أكثر من 300 ألف أمريكي في السعودية، وبعضهم يحملون كِلا الجنسيتين، ويقيمون فيها، والعدد يزداد كل يوم، لذا فالمصالح واضحة، والأمر يعود لكم سواء كنتَ تريد الفوز بالسعودية أو الخسارة”[24].
لا شك أن الاقتباسات السابقة من كلام ولي العهد تعطي فكرة واضحة على أن العلاقات بينه وبين الرئيس الأمريكي ليست بأفضل أحوالها، وهي مختلفة جداً عما كانت عليه من حميمية في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب الذي دافع عنه وبرأه من جريمة اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي. لذلك حسب مراقبين فإن السعودية بقيادة ولي عهدها كانت تفضل فوز ترامب ووضعت كل ثقلها لإنجاحه، إنما جاءت النتائج على غير ما ترغب [25]، وربما هذا ما يفسر تلك الانعطافة السعودية باتجاه روسيا والصين. ثم جاءت الحرب الروسية على أوكرانيا فرصة “ذهبية” “اقتنصتها القيادة السعودية في تعزيز حضورها الدولي عن طريق المشاركة في حل أزمات النزاع المسلح في أوربا”[26]. كذلك أسهم الارتفاع الحاد في أسعار الطاقة الناجم عن الحرب الروسية عدداً من القادة الغربيين على السفر إلى السعودية لمناشدتها زيادة إنتاج النفط، ولا سيما رئيس الوزراء البريطاني آنذاك بوريس جونسون، وبعده بايدن الذي تراجع عن تعهد سابق بنبذ القيادة السعودية[27].
هل نضجت الظروف؟
في تلك الأجواء – التي تمت الإشارة إليها فيما سبق – وُلد الاتفاق السعودي-الإيراني، بتاريخ 15 آذار/مارس 2023 برعاية صينية.
في علم الدبلوماسية هناك مصطلح معروف وهو “Rib moment” أي التوقيت المناسب لبدء مفاوضات مع خصم أو عدو؛ بمعنى تراقب خصمك وتحلّل كلّ ظروفه ونقاط ضعفه وعندما تراه في أسوأ أحواله تقتنص تلك “اللحظة” وتبدأ مفاوضاتك. ومن ثم تدخله في سلسلة من الجلسات الماراثونية لتنتزع منه فيما بعد كل مطالبك. يحدث هذا كثيراً في العلاقات بين الدول، وبين أطراف متصارعة، وربما أبرز الأمثلة اتفاق أوسلو بين ياسر عرفات وإسرائيل. كان عرفات، وبعد حرب الخليج وخسارة حليفه صدام حسين، في أسوأ الظروف. شعر أن دوره الشخصي يكاد ينتهي، لذلك هو من بادر وطلب من النرويجيين فتح قناة تفاوض سرية. التقطت إسرائيل تلك اللحظة ببراعة، ونتائج أوسلو ربما كلّكم يعرفها، وما الانقسام الفلسطيني حالياً إلا واحداً من نتائج ذلك الاتفاق المذل. إنما في هذا الذي نشاهده الآن بين السعودية وإيران، من الذي يقتنص من؟
لا زلنا نعتقد أن المتغير المستقل – اغتيال الخاشقجي – يشكل عاملاً رئيسياً في إنتاج ذلك الاتفاق. بمعنى ما هو “نوع من المناورة مع الإدارة الأميركية عبر التقرّب من الصين”[28]. إنّما هذا لا يمنع من القول “لكلّ من الطرفين دوافعه، فإيران تريده كسباً للوقت، نتيجة للضغوط الواقعة عليها خارجياً وداخلياً، ونتيجة الأزمة الاقتصادية والاضطرابات الداخلية التي شهدتها، في حين أن السعودية تبحث عن تهدئة تؤسس لاستقرار في المنطقة تراه ضرورياً بحكم التحديات التي تواجهها خارجياً على أكثر من جبهة، وداخلياً للتفرّغ لوضعها الداخلي وضمان استقراره وخطط تنميته الطموحة لوليّ العهد محمد بن سلمان”[29]. وفقاً لذلك، وبعد إنجاز الاتفاق، ليس مبالغةً القول إن الاندفاعة السعودية نحو النظام السوري هو “تنفيذ لأحد بنود تلك الاتفاقية”[30] ، وهنا وجود رأس النظام السوري بشار الأسد في مدينة جدة لحضور مؤتمر القمة العربية يغدو تفصيلاً بسيطاً، مجرد بيدق صغير، ولا داع للخوض فيه.
الخاتمة
لا شك في أهمية العامل الشخصي والبيئة النفسية لصانع القرار في بيئة محافظة كالمملكة العربية السعودية. “وقد يكون لهما ديمومة في دول ذات توجه سلطوي ويحكمها فرد واحد”[31]. هذا مرهون في انتفاء الصراع داخل الأسرة الحاكمة؛ حجم ووزن المعارضة؛ كذلك القدرات الفكرية والمعرفية والكاريزما لولي العهد الحالي، وأيضاً آفاق التحولات السياسية والاجتماعية للمجتمع السعودي، وإلى أين ستصل، ومدى حجمهما وتأثيرهما. أما فيما يتعلق بالعلاقة مع الولايات المتحدة، فالدولتين لديهما تحالف راسخ، والفتور الحالي هو بين جو بايدن ومحمد بن سلمان ولا يمسّ العلاقة الجوهرية المتينة بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية في المستقبل المنظور. وفي المحصلة، يبقى “القرار السيادي الخارجي” مرهوناً بتطور هذان العاملان صعوداً أم هبوطاً؛ فنحن في النهاية إزاء عوامل و”محددات غير رسمية لصانع القرار”؛ وعلم النفس يصارع جاهداً منذ عقود ليحتل مكانه بين العلوم الأخرى التي ترفضه ولم تتقبّله حتى اللحظة.
المراجع باللغتين العربية والإنكليزية:
الاتفاق السعودي الإيراني: آثاره ودلالاته. )نيسان/أبريل،2023 ) مركز حرمون للدراسات المعاصرة.
علاء الدين حواش، محمود. (2021 ).” دور القيادة السياسية في السياسة الخارجية للدولة”، المركز الديموقراطي العربي.
غاردنر، فرانك. (2013) “محمد بن سلمان: كيف تمكن من تولي مقاليد الحكم في السعودية؟”، BBC. https://www.bbc.com/arabic/extra/bXJSGfsahH/mohammed_bin_salman_arabic#orbit-more-drawer
ولد الصديق، ميلود. (2018). “أهمية البيئة النفسية لصانع القرار في توجيه السياسة الخارجية الأمريكية دراسة حالة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب”، جامعة الدكتور مولاي طاهر السعيدة، الجزائر.
ولد الصديق، ميلود. (2013). “أثر البعد النفسي لصناعه القرار في اتخاذ القرار الخارجي: دراسة في اسهامات المقاربة السايكولوجية لهارولد وسبراوت في اتخاذ القرار الخارجي”، مجلة البحوث القانونية والسياسية.
Wood, Graeme. (March 3, 2023). “Absolute Power”, The Atlantic. https://www.theatlantic.com/magazine/archive/2022/04/mohammed-bin-salman-saudi-arabia-palace-interview/622822/
[1] – الحرة، 19/5/2022. بعد “الحدثين اللافتين” في قمة جدة.. ماذا أرادت السعودية إثباته “للعالم”؟ https://l8.nu/qaXR
[2] – الشرق الأوسط، 17 تشرين الثاني/نوفمبر 2021. “الجزائر تتريث في دعوة سوريا للقمة العربية”. https://l8.nu/rszE
[3] – علم النفس السياسي، الموسوعة السياسية، 21 تشرين الأول/أكتوبر 2021. https://l8.nu/rszN
[4] – المرجع نفسه.
[5] – ميلود ولد الصديق، “أثر البعد النفسي لصانه القرار في اتخاذ القرار الخارجي: دراسة في اسهامات المقاربة السايكولوجية لهارولد وسبراوت في اتخاذ القرار الخارجي”، مجلة البحوث والقانونية والسياسية، ديسمبر 2013، ص 230.
[6] – محمود علاء الدين حواش، ” دور القيادة السياسية في السياسة الخارجية للدولة”، المركز الديموقراطي العربي، نوفمبر 2021.
[7] – ميلود ولد الصديق، “أثر البعد النفسي لصانه القرار في اتخاذ القرار الخارجي: دراسة في اسهامات المقاربة السايكولوجية لهارولد وسبراوت في اتخاذ القرار الخارجي”، مجلة البحوث والقانونية والسياسية، ديسمبر 2013، ص 232.
[8] – المرجع نفسه.
[9] – ميلود ولد الصديق، “أثر البعد النفسي لصانه القرار في اتخاذ القرار الخارجي: دراسة في إسهامات المقاربة السايكولوجية لهارولد وسبراوت في اتخاذ القرار الخارجي”، مجلة البحوث والقانونية والسياسية، ديسمبر 2013، ص 234.
[10] – فرانك غاردنر، “محمد بن سلمان: كيف تمكن من تولي مقاليد الحكم في السعودية؟”، BBC، أيلول/سبتمبر 2013.
[11] – المرجع نفسه.
[12] – MBS: My strange experience of teaching the Saudi Crown prince, BBC, December 2018
[13] – فرانك غاردنر، “محمد بن سلمان: كيف تمكن من تولي مقاليد الحكم في السعودية؟”، BBC، أيلول/سبتمبر 2013.
[14] – المرجع نفسه.
[15] – المرجع نفسه.
[16] – المرجع نفسه.
[17] – Graeme Wood, “Absolute Power”, The Atlantic, March 3, 2023
[18] – Ibid.
[19] – .Ibid
[20] – DW، “بايدن: لن أعقد اجتماعا ثنائيا مع محمد بن سلمان”، https://l8.nu/qa-F
[21] – عبارة في السياسة الأمريكية استُخدمت على نطاق واسع خلال الحملة الانتخابية الناجحة لبيل كلينتون ضد جورج بوش الأب عام 1992. اكتسبت العبارة شعبيتها من جيمس كارفيل – إستراتيجي في حملة كلينتون.
[22] – Graeme Wood, “Absolute Power”, The Atlantic, March 3, 2023
[23] – Ibid.
[24] – .Ibid
[25] – BBC، 31 تشرين الأول/أكتوبر/ 2022، “الانتخابات الأمريكية 2020: هل تفضل السعودية فوز ترامب؟”
[26] – منى المنجومي، “السعودية إحدى الدول التي اقتنصت فرص الحرب الأوكرانية”، INDEPENDENT عربية، 17/9/2022.
[27] المرجع نفسه.
[28] – “الاتفاق السعودي الإيراني: آثاره ودلالاته”، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 13 نيسان/أبريل، 2023.
[29] – المرجع نفسه.
[30] – المرجع نفسه.
[31] – ميلود ولد الصديق، أهمية البيئة النفسية لصانع القرار في توجيه السياسة الخارجية الأمريكية. دراسة حالة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، جامعة الدكتور مولاي طاهر السعيدة، الجزائر، 2018، ص 810.
اترك تعليقاً