تزامن وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم في تركيا عام 2002 مع انتعاش ملحوظ للعلاقات التركية-السورية، وكان واضحاً اهتمام أنقرة بإيجاد علاقات ذات بعد استراتيجي مع دمشق خاصة على المستوى الاقتصادي والتجاري، ذلك أن تركيا تنظر دائماً إلى سوريا من خلال منظارين أساسيين، يتمثل الأول في أولوية أمنية ذات صلة برفض تركيا لقيام أي كيان كردي على حدودها الجنوبية، وهذا الرفض التركي يقتضي إقامة تفاهمات أمنية مع نظام دمشق، ولعل هذه التفاهمات تجسدت باتفاق أضنة عام 1998، الذي ضمن لتركيا التوغل داخل الحدود السورية مسافة قدرها 5 كيلومترات لملاحقة قيادات وعناصر حزب العمال الكردستاني، فضلاً عن تعهد نظام دمشق بعدم إيواء عناصر الحزب المذكور، وعدم إفساح المجال السوري لأي نشاط كردي معادٍ لتركيا.
ويتمثل المنظار الثاني بكون سوريا هي الرئة الاقتصادية التركية نحو الوطن العربي، ولعل هاتين المسألتين كانتا البوصلة التركية تجاه دمشق، الأمر الذي جعل السنوات الممتدة من عام 2002 حتى بداية العام 2011 حافلة بزخم من العلاقات التجارية والاقتصادية وخاصة في مجال الاستثمار التركي داخل سوريا.
حين انطلقت الثورة السورية في آذار 2011، كانت تركيا في طليعة الدول الحريصة على ألا يؤدي الحراك الشعبي في البلاد السورية إلى حالة من الفوضى والخراب، وبدأت مساعيها الجدية بإبداء النصح لحكومة الأسد بالتجاوب مع مطالب الشعب السوري، وفي هذا السياق قام وزير الخارجية آنذاك احمد داوود أوغلو بزيارتين إلى دمشق ناصحاً رئيس النظام بشار الأسد بتجنب الحل الأمني والاستجابة لمطالب المواطنين أملاً بقيام عملية إصلاحية سياسية تحافظ على سوريا ومقدراتها، إلا أن إصرار النظام على اتباع الحل الأمني والعسكري تزامناً مع ارتفاع منسوب العنف، عزّز القناعة لدى الجانب التركي بأن نظام الأسد ماضٍ في تحديه ليس للشعب السوري فحسب، بل لجميع شرائع حقوق الانسان والحقوق الإنسانية العالمية، عندها لم تجد القيادة التركية بداً من التماهي مع الموقف الدولي العام الرافض لسياسة العنف والمندد بشدة بالممارسات الوحشية تجاه المواطنين.
ولعل ما عزز القناعة التركية آنذاك بموقفها المناهض لممارسات الأسد، هو اعتقادها بأن الموقف الدولي العام ماضٍ في طريقه لوضع حدٍ لوحشية النظام السوري، وذلك من خلال المواقف السياسية والإعلامية لدول أوروبا وأميركا بنزع الشرعية عن نظام دمشق.
إلا أن سيرورة الحرب على مدى أكثر من عشرة سنوات أظهرت أن سوريا باتت مسرحاً لصراع المصالح الدولية والإقليمية، وأن الموقف الدولي من نظام دمشق بات مرهوناً بتغير المصالح وتبدلها، كما لم تعد القضية السورية من ضمن أولويات المجتمع الدولي إلا بقدر ما تؤثر على سيرورة مصالحها، وفي هذا السياق يمكن التأكيد على أن شهر تشرين الأول/أكتوبر من العام 2015 وهو التاريخ الذي تم فيه الإعلان عن تشكيل قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، من جانب التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، كان تاريخاً مفصلياً لتغيير الاستراتيجية التركية حيال سوريا، ذلك أن ما كانت تسعى تركيا لاستبعاده من حدودها الجنوبية، جاءت واشنطن لتعمل على تثبيته وترسيخه وذلك من خلال قسد لمحاربة تنظيم “داعش”، الأمر الذي جعل من أولويات الحكومة التركية هو مواجهة هذا الخطر الجديد، ومنذ ذلك الحين بات تعاطي أنقرة مع الشأن السوري محكوماً باستراتيجيتها حيال قسد.
ولعل تمسك واشنطن بحليفها القسدي قد دفع أنقرة لإيجاد تحالف ثلاثي موازي للتدخل الأميركي في سوريا، وهو محور أستانة الذي تشكل مطلع العام 2017 على أعقاب اقتحام جيش النظام لأحياء حلب الشرقية بدعم وإسناد روسي قوي.
جسد مسار أستانة محوراً سياسياً يرعى مصالح الدول الراعية له، تلك المصالح التي لم تعد محصورة بالشأن السوري، وبعد خمس سنوات لانطلاقة هذا المسار أُنتجت الكثير من التفاهمات بين الدول الثلاث، تلك التفاهمات التي أفضت الى تغييرات كبيرة في المشهد السوري، كان السوريون هم الخاسر الأكبر فيها.
اليوم ومع وقوع نظام دمشق وقوعاً تاماً في قبضة حليفيه الروسي والإيراني، وكذلك مع استمرار نأي الإدارة الأميركية عن القضية السورية وانشغالها باحتواء الخطر النووي الإيراني من جهة، وكذلك الخطر الاقتصادي الصيني من جهة أخرى، بالإضافة طبعاً للمواجهة مع روسيا، لا تجد تركيا ما يمنعها من اعتماد نهج أكثر براغماتية مع نظام الأسد، ولئن لم تستطع أنقرة التوصل إلى تفاهمات مع روسيا وإيران تفضي إلى إبعاد قسد عن حدودها، فلماذا لا يكون الطريق إلى دمشق هو وسيلة ذلك؟َ!
وربما ظهرت إرهاصات هذا التوجه التركي بشكل أوضح في أعقاب قمة طهران الأخيرة، حين طالب الرئيس التركي رجب طيب اردوغان بخروج الولايات المتحدة من سوريا.
ربما كانت هذه المطالبة، مصحوبة بتصريحات وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو، تجسد رغبتين لتركيا، تتمثل الأولى بالحاجة الملحة إلى تحقيق إنجاز على مستوى الأمن القومي التركي تمهيداً لمواجهة الاستحقاق الانتخابي في صيف العام القادم 2023، ولعل إبعاد الخطر الكردي هو الإنجاز الأفضل في هذا المقام، وتتمثل الرغبة الثانية بتصدير رسالة قوية إلى واشنطن مفادها أن تركيا عازمة على إبعاد قسد عن حدودها، بجميع الوسائل، بما في ذلك التنسيق مع نظام دمشق، هذا التنسيق الذي حتماً سيزعج واشنطن التي تدرك أن أي انفتاح تركي على نظام الأسد من شأنه أن يجعل العقوبات عليه فاقدة للكثير من مفاعيلها، كما أنه سيضعف استراتيجية واشنطن حيال محاصرة النفوذ الإيراني في سوريا، فهل ستدرك إدارة بايدن هذه الرسالة؟
مما لا شك فيه أن هذه الانعطافة في السياسة التركية تجاه نظام دمشق سوف تكشف الغطاء عن المعارضة السورية الرسمية، بل ربما تجعلها أكثر شعوراً باليتم، ولعل مبعث هذا الشعور لا يكمن بالتوجهات السياسية التركية التي تصوغها المصالح بقدر ما يكمن في خلل كبير في التفكير لدى هذه المعارضة ذاتها التي لم تميز يوماً بين طبيعة كل علاقة تقيمها مع الآخر، فهي لم تميز بين الشريك السياسي والحليف والظهير والنصير،الخ…، ولم تدرك أن العلاقة مع الآخر مهما ارتفعت فإنها لن تكون البديل عن الاعتماد على الذات والإمساك دوماً بزمام المبادرة الوطنية.
ويبقى السؤال الأخير هل فقدت تركيا جميع الخيارات الضامنة لمصالحها ولم يبقَ أمامها سوى “تقديم الدعم السياسي لدمشق”، وهل يمكن لمن هو مصدر الإرهاب والتوحش والمخدرات وراعي لكل هذه التنظيمات الإرهابية أن يكون محارباً للإرهاب؟
لا شك أن الإجابة على هذا السؤال ليست بالمتناول السهل، لأن محدداتها لا تبدو قياسية بالمنظور السياسي التاريخي حيث يرتبط حزب العمال الكردستاني ارتباطاً عضوياً بكل من نظامي الأسد وطهران، لكن هذه المحددات تقاس على ما يبدو بواقعية سياسية تركية مغرقة، تنظر إلى معطيات هذا الخيار التي تلجأ إليه من زوايا علاقاتها المعقدة مع الدول الفاعلة بالملف السوري، بما في ذلك الغرب والولايات المتحدة بطبيعة الحال، التي لا تزال عاجزة حتى الآن عن إرضاء صانع القرار التركي في هذا الملف.
العقيد عبد الجبار العكيدي – المدن
اترك تعليقاً