دعوة الإرهاب ليكون ضيفا ثقيلا يهدد الأمن والاقتصاد والسياحة، وقبل كل ذلك أنموذج فرنسا العلمانية المحايدة والمتسامحة والتعددية، يمكن أن تترك آثارا سلبية على خيارات الناخب الخائف على أمنه اليومي.
ضرب الإرهاب قلب باريس قبل يومين من الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية الفرنسية التي ستنتظمُ يوم الثالث والعشرين من أبريل الحالي، وكأن بعض صناع الإرهاب أو منفذيه العبثيين والمتعصبين، أو من يحرك خيوط عملياتهم وراء الستار، أرادوا ممارسة التشويش وربما التأثير على المسار الانتخابي والإسهام بإيصال أحد رموز القطيعة أو الفاشية المقنعة علّ وجه فرنسا يتغير وتتبدل سياستها الخارجية النشطة والفعالة.
قبل هذا الحادث كان الاستحقاق الرئاسي محط كل الأنظار لجهة غموض التوقعات وحساسية المعركة مع ما تحمله من انعكاسات على فرنسا في الداخل وعلى دورها الأوروبي والعالمي.
ومما لا شك فيه أن تفاقم التحدي الإرهابي سيزيد من حدة التنافس وربما يدفع بالمترددين والممتنعين من الناخبين إلى المشاركة، وهكذا لن تنبع الخيارات من القناعات الأيديولوجية والفئوية فحسب، بل سيكون هناك تنازع بين إغراء الخطاب الأمني المتشدد، وبين الطرح الواقعي المتماسك الذي يحاكي مشاكل البلاد وأهمية وحدة نسيجها الاجتماعي في مواجهة الإرهاب وكل رفض للاعتراف بالآخر.
تكتسب انتخابات الرئاسة في فرنسا أهميتها الفائقة لكونها حجر العقد في بنية النظام السياسي وفق دستور الجمهورية الخامسة التي أسسها الجنرال شارل ديغول.
ويتمتع الرئيس بصلاحيات شبه مطلقة في ميداني الدفاع والسياسة الخارجية وهو الحكم ورأس السلطات في نظام شبه رئاسي. بيد أن التعديل الدستوري في سبتمبر 2000 والذي قضى بتقصير ولاية الرئاسة من سبع إلى خمس سنوات مما يتلاءم مع مدة ولاية الجمعية الوطنية، ربط الرئيس بالأكثرية البرلمانية، وقلص من دوره الحيادي في اللعبة السياسية الداخلية. ولذا تكون المسائل التي تمس حياة المواطنين اليومية والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية في صلب الحملات الانتخابية. لكن في حملة 2017 احتلت مواضيع السياسة الخارجية ومكافحة الإرهاب حيزا معقولا في الجدل الانتخابي وذلك بسبب الهزات والتحولات في السنتين الأخيرتين.
في العام 2016 شهد الفرنسيون كما غيرهم انهيارا في العالم “القديم” المرتسم بعد الحرب العالمية الثانية مع تلاحق أحداث مفصلية: البريكست بالتوازي مع تداعيات ظاهرتي اللجوء والإرهاب وصعود الشعبوية في أوروبا ونهجي التطرف والقطيعة حول العالم، انتخاب دونالد ترامب، الاختراق الروسي الاستراتيجي مع فلاديمير بوتين، المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا وتتماتها، الفوضى التدميرية في العالم العربي، صعود الصين كقوة شاملة وتصرف كوريا الشمالية المريب.
أمام هكذا تحولات متسارعة مع ما تنطوي عليه من تصدع في الجوانب الإيجابية للعولمة، واهتزاز في القناعات وكل ما هو يقيني، يحل الاستحقاق الرئاسي الفرنسي حيث هناك الكثير من المواقف اللفظية أو العبارات الحادة من هذا المرشح أو ذاك حيال هذا الحدث أو تلك الدولة. لكن لم نلاحظ في العمق نقاشا رصينا حول تحولات 2015-2016 وأثرها المباشر والمستقبلي، وعدم وجود برامج انتخابية وأطروحات مقنعة بخصوص مصير فرنسا وتموضعها الأوروبي واستقلاليتها الإستراتيجية.
ما لا يتنبه له ربما الكثير بين المرشحين الأحد عشر ومريديهم، أن هذه المعركة ليست ببساطة معركة عادية وتنافسا تقليديا بين اليسار واليمين، وقطبيه الحزب الاشتراكي (بونوا هامون) والجمهوريين (فرنسوا فيون)، وليست فقط المجال لبروز المرشح الوسطي المغمور إيمانويل ماكرون وقطبي أقصى اليمين (مارين لوبن) وأقصى اليسار (جان لوك ميلونشون)، بل إنها معركة استثنائية ومميزة لجهة مستقبل الديمقراطية الليبرالية وتقرير مصير الاتحاد الأوروبي، حيث أن تأييد البقاء في الاتحاد الأوروبي لا يتحمس له إلا ماكرون بالدرجة الأولى وفيون بالدرجة الثانية، بينما يقاربه من تبقى من المرشحين بديماغوجية، أو تغييب للواقعية والبدائل.
إن مسألة الانتماء الأوروبي لفرنسا لا تنحصر بالجانب الاقتصادي والربط باليورو، لكنها قبل كل شيء خيار حضاري لأنموذج من السلام والاستقرار والاندماج الإقليمي. ينسى البعض أن أوروبا كانت مسرحا لحربين عالميتين في القرن العشرين، وأن فرنسا نفسها تعرضت للغزو ثلاث مرات في القرنين السابقين، والخطر الداهم يتمثل في نهاية تجربة البناء الأوروبي لأنها يمكن أن تعيد القارة العجوز إلى حقبة الأمم القومية أي حقبة العام 1939 وكل ما يعنيه.
والملفت للنظر أن المرشحين المعادين للبناء الأوروبي هم الأكثر تفاعلا وانفتاحا على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي استقبل مارين لوبن في الكرملين، والذي له أيضا صلات مع فرنسوا فيون إبان تولي الأخير رئاسة الحكومة في عهد نيكولا ساركوزي.
أما بالنسبة إلى التفاعل مع ظاهرة دونالد ترامب فبدل أن تكون الذريعة لتبني المزيد من التضامن الأوروبي، فقد جرت مقاربتها بشكل عرضي دون استخلاص الدروس حول مصير حلف شمال الأطلسي والنفوذ الأوروبي والفرنسي حول العالم.
تلقي هذه “الحيرة الإستراتيجية” لفرنسا في هذه اللحظة من التحولات العالمية بثقلها على الاستحقاق الرئاسي ولو بشكل غير مباشر. بيد أن دعوة الإرهاب نفسه ليكون ضيفا ثقيلا يهدد الأمن والاقتصاد والسياحة، وقبل كل ذلك أنموذج فرنسا العلمانية المحايدة والمتسامحة والتعددية، يمكن أن تترك آثارا سلبية على خيارات الناخب الخائف على أمنه اليومي والمتوجس من غد لا يرى فيه الحلول الآتية لمعضلة البطالة المزمنة.
ومما لا شك فيه أن خطابات اليمين بكل اتجاهاته (أسهمت الجبهة الوطنية في جعل اليمين يقلدها وأن يصبح المشهد السياسي ذا غلبة يمينية) يمكن أن تعدل خيارات بعض المترددين لصالحها. لكن معركة الدورة الأولى للاستحقاق الرئاسي تبقى أم المعارك وأم المفاجآت.
العرب – خطار ابو دياب -أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس
اترك تعليقاً