Views: 190 الثورة وثقافة الكراهية – الرقة بوست-Raqqa Post

الثورة وثقافة الكراهية

معبد الحسون

 

مدخل وتصور عام للبحث:

الكراهية ظاهرة شعبوية إيديولوجية، جماعياً، وطُفالية عاطفية، فردياً.. وفي هذا البحث الذي يزاوج في أدواته البحثية جاهداً لكشفها والتنويه إلى جذرها الوجودي، لا أدعي تشريحها التشريح المكتمل من الوجهة العلمية، فالبحث واضح بأنه قاصر ومقصر لسببين رئيسيين: الأول: أنه غير مألوف ومعتاد، بل وغير مقبول لأول وهلة، في أجواء صخب الثورة والاقتتال والتحكم الشامل للحظة تاريخية لا يمكن تحييد العاطفة الإنسانية فيها، والتي تضبط إيقاع التفكير بالنسبة لغالبية السوريين، أو على الأقل تشارك العقل وتأخذ معظم وظائفه، أكثر مما يصدر التفكير في المعالجات عن عقل بحثي بارد ومنسجم مع أغراض التفتيش عن الحقائق المعرفية. والثاني: هو أن هذا الموضوع بالذات ينتمي إلى صنف المسكوتات عنه في التفكير والجدل المجتمعي، أي صنف الحقائق الأقرب إلى الرفض والمواجهة، فهو يشتغل بأدوات التحليل النفسي دون أن يتورط ويوغل فيه، وينصرف إلى أن مثل هذه الحقائق المعرفية قد تتضافر مجموعة من المؤثرات والعوامل في تكوين بنيتها العامة.

قسمت البحث إلى فقرات ثلاث، الأول تناول الشق السايكولوجي الذي لا أجد مندوحة من تقدمه وبروزه، والثاني تفسير الكراهية بإحالتها الى ظاهرة معرفة حدسية(فينومنولوجية)؛ أي أن عوامل تكونها مرجوعة إلى محيطها الجامع على وجه الحصر، والثالث يجتهد في رد العلة إلى معلولها السياسي والإجتماعي؛ مع أنني أعترف سلفاً بأن هذا المنهج غير المسبوق في التفسير البحثي، والذي لايستطيع أن يلتزم أدوات موحدة في سياق موحد؛ هو مخاطرة حقيقية.. يبقى للبحث أخيراً فضيلة الإجتهاد الأول الذي لم يتكأ في تطويره على جهد سابق ومؤسس، وأنه يؤسس لنواة أفكار وحقائق ينبغي تطويرها والعمل عليها بمزيد من التوسع في المستقبل.

 

مقدمة:

لفتت ظاهرة كراهة السوريين ومقتهم لبعضهم بعضاً، العالم أجمع، ولدى مكونات سورية كثيرة، مخالفة لبعضها أو حتى موافقة، قبل أن ينتبه السوريون أنفسهم للظاهرة الأكثر إثارة للغرابة والجدل، وأبعث على إنذارات بالخطر.. مع العلم أن الخوض في هذا المبحث البغيض على نفوس كثيرين لم يجد باحثين متشجعين للخوض فيه ـ ربما لما فيه من حرج شخصي ـ وهي ظاهرة عمومية رسمت سمة من العلاقة المجتمعية القائمة بين السوريين بقواسمها المشتركة القاطعة، وسلوكاً عاماً ظاهراً ومجاهراً به، وشكلت بنية لايمكن التنكر لها وصفاً وتحليلاً.. حتى أن معظم الدوائر الخارجية الممسكة بالملف السوري والمتابعة له منذ بداية الثورة، قد هالها حجم الكراهية المتبادلة والتحاسد المُنكَر بين السوريين أنفسهم.. ومما زاد الدهشة في هذا التفصيل الذي بات مستصعباً طرحُه على العلن؛ كأنه عرض عُصابي مرضي، يخجل المرءُ أن يجاهرَ به علناً أمام الملأ، أنه أميل شَبَهاً بما يُحرِج المعصوب من ظاهرات عصابِهِ الهيجانية أو انفلاتاته غير المتحكم بها..

إن بروز الواقعة النفسية بكل وضوح ومنتهى الصراحة، ومتابعة السكوت عنها بعد مرور كل هذا الوقت، لم يعد متاحاً ولا ممدوحاً فيه الاستمرار كظاهرة للتعمية على الكراهية فيما بينهم، ولا كذلك الإنكار والتعالي تحت غطاء من الكلام والصراخ والادعاءات المرسلة والمحفوظة للتمويه على ظاهرة خطيرة وغير مفهومة حتى اليوم.. السوريون يتبادلون الكراهية كمسلحين، ويتبادلون الكراهية كعاملين على الأرض في المجالات الإنسانية الشديدة الخصوصية، وكسياسيين ومفكرين ومُنَظِّرين ومشتغلين في الشأن العام.. بل وحتى كلاجئين في أقسى المواقع التي تستدعي المساعدة والمعاضدة والعطف على بعض.. هذا أحد الأسباب التي منعت حتى اليوم كل قوى المعارضة من إنتاج جسم سياسي له معنى وذو حجم وقدرة مكافئة لما يقتضيه الواقع الذي وصلوا اليه.. فالموضوع إذن متصل بجوهر مشكلتهم البنيوية الوجودية، وليس ترفاً نظرياً يسمح لرصد ظاهرات سيكولوجية لا وقت للبحث فيها في أتون المعركة اليومية المشتعلة.. المعركة السياسية والعسكرية التي يحترق الجميع فيها.. وفي المجمل العام نستطيع تلخيص الظاهرة في أقوال مستخلصة من خلال حصرها استبيانياً في ملخصات الأقوال التالية:

أولاً: إنني، كسوري، أحب جميع السوريين بصفة عامة.. أحبهم كمجموع عام، لكنني أبغضهم وأكرههم كراهة شديدة كأفراد متعينين.. فأنا أحب الكيان السوري كوطن وأحب السوريين كشعب، لكنني لا أستطيع أن أحتملهم أو أطيقهم كأفراد.

ثانياً: إنني، كسوري،  أحب السوريين كأفراد وكمجموع، ولكن فقط حين أبتعد في التفكير عن مساحة الثورة والعمل السياسي والشأن العام.. تزداد محبتي لهم حين أفصلهم عن السياسة وما يتصل بالشأن الوطني والوطن، وتزداد كراهيتي لهم كلما ارتبطوا في تفكيري بالثورة والشأن العام.

ثالثاًـ أشعر، كسوري، بالغرابة من إعجابي وترحيبي واحترامي لأية فكرة أو مقترح ذي أهمية يصدر من غرباء أو أجانب غير سوريين، أياً كانوا.. لكن نفس الأفكار التي أوليتها كل هذا الاحترام والتوقير تثير اشمئزازي وكراهيتي حين تصدر من سوريين مثلي.

رابعاًـ في حالات الخطر العام المهدد بالموت، كالقصف الجوي والحصار مثلاً.. تزول تلك الكراهية المتبادلة فيما بيننا كسوريين مؤقتاً.. لكنها كلما زال الخطر وقلَّت احتمالاتُه، عادت تلك الكراهية تلقائياً.

يمكن بداية ـ وكقاعدة عامة أساسية معتمدة في فهم سايكولوجيا الجموع ـ أن نثبت الحقيقة التالية:”إن(الجماعة) ليست محصلة لمجموع(الأفراد)، وإن مجموع الصفات الفردية لا تنجمع بالتراكم لتشكل مجموع الصفات الجمعية”.. كما أنه من المجازفة والتهور إرجاع مجمل الظواهر، خاصة المشكلة مناط بحثنا هذا، إلى علم النفس وحده، وإن تكن في حقيقتها ظاهرة نفسية بامتياز، أو بالأحرى هي نفسية بدرجة عالية وأولى، ومعللاتُها الأخرى ربما كانت تأتي في درجة ثانية أو أقل .. ويمكن تأويل أسباب الظاهرة وصفاً وتحليلاً إلى خبرات قديمة، متمكنة ومتعتقة، لايمكنها أن تتآكل وتزول بالتقادم التدريجي لما لها من كيان أصيل مستقل ومتميز في الخافية الجمعية أو في الشخصية السورية، فهي أشبه بمضامين استقلت بنفسها ونأت جانباً، حتى بات يصحُّ فيها القول إنها تعمل باستقلالية تامة عن بعضها من جهة، وعن النفس الكلية العامة من جهة أخرى.. وباستطاعتنا أن نلاحظها توصيفاً دون أن ننكر أنه قد يكون هنالك مايفسرها من عوامل مَرَضِيّة أخرى لم نستطع الوصول إليها بعد، فهي معرفياً قد لاتكون وحيدة وحاسمة، مع إقراري الصريح بأنني حتى اليوم لا أستطيع أن أجد مبررات توصيفي العام إلا من خلالها.

الجانب “السايكولوجي” للظاهرة:

في التوصيف العام يمكن ملاحظة أن هذه الكراهية غالباً ماتُرَدُ زوراً إلى أسباب إيديولوجية ومواقف سياسية(لغاية إخفائها والتنصل من الإعتراف بها)، وهذا ما يُعرفُ في التحليل النفسي بمصطلح(التحويل)، وهو نوعٌ من التحايل يبذلُ فيه المريض النفسي جهداً مكافئاً في قمع وكبت مظاهر وأسباب العصاب الباطنة، وأنْ يردَّها غالباً إلى غير أسبابها الحقيقية.. أي أن “يحولها” إلى جهة أخرى ليست حقيقية، لابسبب الخجل من العَرَض العُصابي المستَنْكَر اجتماعياً في الأغلب، بل بسبب(الحفاظ عليه والدفاع عنه)، فالتحويل أحدُ آليات الدفاع عن المرض المجربة والممتازة والشائعة.. كـأن يُحدِث”إسقاط” العشق الباطني للأم على امرأة أخرى، للتمسك بهذا العشق البديل عن عشق الأم اللاشعوري والمحافظة عليه، أو إسقاط الكراهية العميقة للأب على رجل آخر أو شخصية عامة، لديمومة تلك الكراهية في شكلها الرمزي الجديد المستحدث والإصرار عليه دون خوف من المجتمع؛ مادام يتم إسقاطه، أي “تحويله” وتحققه تمثيلاً رمزياً على شخصية أخرى سوى الأب.. فيتم التعبير عن ذلك الحب والكراهية خارج إطار مسرحهما الحقيقي، وبذلك يبذل أكبر ضمان على إخفائهما والمحافظة عليهما لسنين طويلة.

تأخذ أشكال كراهية السوريين لأنفسهم أشكالاً وتجلياتٍ متعددة: فمن جهة يتم رفع الدافع و”تصعيده” تحت ذرائع سياسية(التصعيد: هو تحويل دوافع الطاقة النفسية واستبدال مضامينها الحقيقية بغايات نبيلة في نظر المجتمع، والتسفيل استبدالها بغايات وضيعة مرذولة)، ومن جهة أخرى يتم خفضه وتسفيله بنفس الذرائع، ولكن عن طريق التعابير المختلفة المعبرة عن “انحطاط الآخرين وخيانتهم وخستهم، ومخالفتهم وخلافهم السياسي”، لأنه يَمنحُ في الحالة هذه مجالاً واسعاً لتعبيرات فظة غير متحرجة بالأحرى.. تعابير يمكن بسهولة أن يتاح فيها الكلامُ النابي والعامي الفضائحي والقاسي، بل وحتى المبتذل.. وكل هذا(التسفيل) يتم بسلاسة وسهولة لا يمكن التشكك في دوافعها أو التقاط مغزاها طالما أن الموضوع المتعارض عليه هو موضوع (سياسي) يتقاطع مع غايات نبيلة، (مادته وأسبابه المعلنة هي الوطن والثورة وقضايا سياسية متخالف فيها رأياً).. بذلك تسهل تعبيرات تسفيل الدافع بنفس السهولة التي تم فيها تصعيده، أي إخفاؤه والمحافظة عليه كعَرَضٍ مرضي يتم الدفاع عنه لاشعورياً.

لن نحتاج الى بذل جهد للوصول إلى عشرات، بل ومئات الأمثلة، فقد يكفينا ما يُكتَبُ ويُعبَّر عنه على صفحات(الفيس بوك)، لنحصي الكم الهائل من تلك العدوانية ومبلغ الكراهية التي لا تقف عند حدٍ من الحدود، خاصة أن لـ(الفيس بوك) صفة متلازمة ومميزة، ومناسبة للحالة موضوع بحثنا، وهي(اختفاء)الشخصية خلف الصفحة، وعدم المواجهة وجهاً لوجه بين الشخصيتين، مما يتيح تلقائية لا تتيحُها المواجهة المباشرة، تلك هي إذن حرية التعبير المطلقة في الاسترسال القريب من اللاشعور(كالمنام تقريباً) بعيداً عن الآخر المخالف، وهذا مايمنحُ اللاشعور القريب من الوعي، والسطحي، حرية في تجلي التعبير أكبر من الحرية التي تعطيها المواجهة وجهاً لوجه.. أي إطلاق الدوافع إلى مَدَيَاتِهِا النهائية دون حرجٍ أو اقتصاد في التعابير.. ومن هنا تنحل مشكلة الغرابة الكامنة في أن كثيراً من السوريين لا يُحسنون عرْضَ قضيتِهم أو يحددون بالضبط ماذا يريدون إلا عبر نظرية العكس؛ أي مهاجمة الآخرين وتحقيرهم كنوع من(إنتاج مايريدونه هم)، أو يسعون لشرحه للآخرين.. كأن يتم التعبير بالطريقة التالية:( يالقائد الكتيبة الفلانية أو السياسي الفلاني .. إنه لصٌ سافل حقيرخائن للوطن وعدو للثورة)، فمثلُ هذه التعابير هي تعويض عن إسقاط على الذات، في غالب الحالات التي لا تملك حتى الحد الأدنى من الموضوعية للتحاور وطرح أفكارها بوضوح وأدلة ضافية ساطعة، فيتم شرح الذات والدفاع عنها وتفسيرها بقدح الآخرين والتشهير بهم، أي إبراز ميزة البياض بمد مساحات السواد من حوله..

كذلك اللافت للنظر أكثر أن هذه الكراهية العميقة ليست حادثاً يحدثُ في معسكر أهل فكرين متعارضين، بل الأدهى والأكثر لفتاً للنظر، أنها أشد ماتكون بين أهل الفكر الواحد والموقف السياسي الموحد، فهي بين الإسلاميين والعلمانيين ليست أشدَّ شراسة واحتداماً منها بين العلمانيين فيما بينهم، وبين الإسلاميين فيما بينهم، بل بين أهل اليسار واليسار، وأهل اليمين واليمين، وبين سكان البلدة الواحدة والمنطقة والطائفة والقومية الواحدة، وحتى المؤسسة أو التنظيم الجامع لكلا الشخصيتين، ولن تكون أية بينة أو فائدة للذريعة القائلة بأن هذه الجموع كانت محرومة لسنوات من حرية التعبير، أمَا وقد انفتحت لها كلُّ هذه المنافذ والفرص الحرة، فإنها تبددُهُا، وإن يكن في شيءٍ من الإسراف والتبذير الذي لايعرف حرَجَاً أو اقتصاداً.

ويمكننا أن نسجلَ بهذا الصدد ملاحظة كاشفة ذات أهمية خاصة، وهي أن هذه الكراهية ليست ثابتة، بل إنها لتزولُ في الحالات الإنسانية والعلاقات الشخصية العامة، بعيداً عن مواضيع السياسة والأزمة العامة الشاملة، حتى لتكادُ تختفي، لكنها تبرز وتتوهج حين يتعلق الأمرُ بالشأن العام، أي بالسلطة والموقف منها وفي الصراع الدائر في سوريا، وفي التصور الأولي لبنية السلطة في سوريا وما يجب أن تكون عليه حسب وجهة نظر كل فرد أو جماعة على حدة. وهذا ماسوف يُضطرُّنا أن نفسرَها بـ(عقدة قايين)، أي عقدة كراهية الأخ، مع أنها ليست بعيدة الحدوث والأسباب عن عقدة أوديب، أي عقدة كراهية الأب، وإن كانت كلا العقدتين متلازمتين، كأن إحداهما قد تسلسلت من الأخرى.

من المشتهر أن أفضل تعبير لعقدة قايين قد سطّرته لنا الرمزيات القديمة، وظل خالداً في اللاشعور الإنساني العام، مما قد تأصل  في حكاية هابيل وقابيل، ذلك الأخير الذي(طوّعت له نفسُه قتْلَ أخيه فقتله..)، وإلى كراهية أخوة يوسف لأخيهم يوسف.. لكن الحكاية القديمة لا تُفسرُ لنا الحدث كما هو، ولا تشرح مسوغاته اللاشعورية العميقة، فهي تردُّ أسبابَ تلك الكراهية إلى بواعث سببية سطحية غير مقنعة كثيراً ومتقنعة بإحكام؛ بحيث يتم تغييب السبب الحقيقي: ألا وهوعقدة كراهية الأب نفسه، والتنافس في وراثته الإعتبارية والشخصية وأخذ مكانته، أي إن عقدة كراهية الأخ ماهي في الحقيقة إلا عقدة كراهية الأب نفسه ولكن امتداداً إلى مابعد موته:(أنا أكره أخي لأن أخي يمكنُ فرضياً أن يحلَّ بديلاً عن الأب المكروه كاحتمال)، وهكذا فإن سحب الاستنتاج الأولي لكراهية السوريين لأنفسهم لا يمكن فهمها أو ربطها إلا بالسلطة الحاكمة نفسها، أي سلطة نظام الأسد.. فكل سوري هو رمزياً يمثلُ بديلاً موضوعياً عن”الأب القائد في حال غيابه أو تغييبه لسبب من الأسباب”، لا كراهيةً لشخص المكروه فقط، وإنما لمرموز متعلقات رمزيته ومشتقات تلك الرمزية: حزبه، شلته، التجمع الذي ينتمي إليه، طائفته، كتيبته المقاتلة..الخ.. خاصة أن مايقوي هذا الزعم هو أن مظاهر هذه الكراهية لم تبرز كل هذا البروز المتحامل والشديد الفجاجة إلا بعد الثورة، أي بعد أن ضعفت أوتلاشت سلطة الأب الحقيقي(نظام الأسد)، وأصبح احتمالاً أن يكون هذا الأخ، أيَّ أخٍ سوري، بديلاً محتملاً موضوعياً في موقع الأب، ويمتلك كامل سلطاته.

ملاحظات على الهامش:

ــ التعبيرات المتبادلة كثيراً فيما يختص بالمهاجرين البعيدين، خاصة السوريين الذين وصلوا إلى أوربا أو دول الخليج، حيث يتم التعبير عنهم بوصفهم:( أخوة.. لكنهم باتوا معدومي التأثير، وخارج سياق الكراهية مؤقتاً)، لأن ميزة المنافسة على ميراث الأب المكروه قد انعدمت او اضمحلت لديهم حتى حدودها القصوى، فذلك الأخ الذي وصل إلى أوربا أو دول الخليج، أو آثر الإقامة في دول بعيدة جغرافياً عن سوريا أصبح موضوعياً خارج إطار المواجهة والمجابهة مع الأب، فهو تنازل وأخلى حقه طوعاً من “تركة” الأب بعد موته.. والحال نفسه يشابه التعابير المتبادلة عن الشهيد والشهداء، فهم أيضاً(أخوة أجبرهم الموت على التخلي عن المنافسة والاستئثار بفضيلة قتل الأب الكريه)، أي إن عقدة قايين قد انحلت فيما بيننا وبين هؤلاء “الأخوة القتلى”، الذين سنحمل إثم كراهيتهم السابقة قبل موتهم تطهيراً لأنفسنا بالبكاء عليهم ورفعهم إلى مكانة قدسية، وغسل تلك الكراهية نحوهم، أو آثارها إن بقي لها آثار، من قلوبنا.. وهو أمر يجردهم من كل مسؤوليات وأخطاء كانت لهم أثناء حياتهم، ويمنحهم تطهيراً مقدساً بسبب هذا التخلي وانحلال العقدة القايينية بيننا وبينهم..

ــ المصطلح الأمثل في هذا المقام هو تعبير”العودة إلى حضن الوطن”، وهو يكاد أن يكون مصطلحاً سورياً بامتياز، لا ينافسنا فيه أي شعب أو أمة أخرى.. ذلك بما يحمله من كثافة رمزية في التعبير عن الابن الضال والعاق، الذي قرر الهجر وإعلان الحرب على أبويه وأخوته والإنشقاقَ عنهم، وبما تختص به مفردة “الحضن” من رمزية التعبير عن الأبوين حصراً، وليس مصادفةً أن المصطلح ذاته كان من ابتكار السلطة الديكتاتورية الطغيانية الحاكمة وآلتها الإعلامية الدعائية، أي أن النداء هذه المرة موجه مباشرة من الأب إلى الأبناء، وهذا الإعتذار أو العودة إلى حضن الوطن يُمَثِّلُ مستوى من الإستقالة من عقدة قايين أو  كراهية الأخ، وتمكين الفرصة مرة أخرى لانحلالها في العقدة الأساسية أو العقدة الأم: عقدة أوديب وكراهية الأب.

ــ تأتي في هذا السياق فرصة إطلاق مضامين الكراهية المتبادلة بين الأخوة لتعطي مجالاً رحباً للتعابير الطائفية والإثنية القومية في أوسع تجلياتها، وتتيح الدوافع اللاشعورية للتعابير السياسية والطائفية مايشبه الرخصة التي كانت مفتقدة سابقاً.. إن كراهية الأخ أصبح لها مضمون ومعنى جديدان بعد أن تغطت بسُعَار كراهية جماعية عامة، وبمبادىء وقيم طائفية وأقوامية ذات معنى ومدلول سياسي، وهي محبذة كرأي له جمهور واسع، وموافَق على تلك الكراهية الطائفية والإثنية(  بوصفها شيئاً جيداً ونبيلاً يُمتدَحُ المرء عليه)، وهو ما يُحيلُها إلى حالة”التصعيد النفسي” التي ألمحنا إليها بداية.

ــ يمكن أيضاً ملاحظة أن هذا الواقع النفسي كان جزئياً سبباً في امتناع السوريين عن التجمع والتوحد حول فكرة وإطار عمل سياسي.. إن تنظيم العمل السياسي والثوري لا يحُدُّ من الكراهية بين الأخُوة ولا يقللها، لكنه يحدُّ من تعبيراتها المتاحة وهامشها الرحب، الذي يحققُ للنفس تحللاً من ضغط العقدة وأعبائها، وينجز خطاباً جديداً لا مصلحة للنزعة الفردية كثيراً في تعابيرها حتى لو استجابت النفس لرغبات تلك التعابير و”ذلك الخطاب المنظم”، لأنها ستكون حينئذٍ ملكاً لمجموعة منظمة، الأمر الذي سوف (يضعف نداء العقدة الداخلي عن التعبير على سجيتها الخاصة وبأسلوبها المتفلت).. قارن هذه النقطة، مثلاً، مع القضية الفلسطينية التي وحدت منذ ستينات القرن الماضي إطارات عمل تكاد تكون مدهشة في أسطوريتها وتفوقها، ومنذ وقت مبكرٍ جداً، وبتسلسل متزامن لم يضغط العمل الفلسطيني كله في تنظيمات مؤطرة وحداثية فحسب، بل نظم مجموع هذه التنظيمات كلها في وحدة سياسية موحدة هي منظمة التحرير.. مع العلم أن السوريين لايمكنهم أن يتذرعوا بأية ذريعة تخصُّ قصورهم الذاتي تنظيمياً، بالمقارنة مع الواقع الفلسطيني؛ فقد أتيح لهم من الفرص المواتية عشرات أضعاف ما أتيح للفلسطينيين، (وأخص تلك الإمتيازات منها: المادية والإتصالات الحديثة)، ويكفي في هذا المجال أن نتذكر أن القضية الفلسطينية حين استطاعت أن تؤطر نفسها في عمل ذي معنى وكيان سياسي، وأن تُنَظِّم شعبها، لم يكن لثورة الإتصالات الحادثة أيُّ وجود يومذاك.. بينما عجزالسوريون في عصر الانترنيت الذي يمتلك القدرة على أن يجمعهم جميعاً في فضاء كوني وقاعة موحِدة وإمكانية أن يجتمعوا ولو بالحد الأدنى، وذلك ليبقى لهم فضاء التعبير عن كراهيتهم لأنفسهم، البعضية والجمعية، وإتاحة مضامين العقدة للتنفيس الجماعي، مفتوحَ الباب على مصاريعه.. بل إن أشكال(الكف = الإمتناع)، والنكوص في الأفعال، تجعل المرء مرتاباً أحياناً في أن جزءاً من هذا التعبيرالحر عن العُقدة تلازمَ مع(الكف عن تغيير هذا الواقع المفيد نفسياً)للصراخ والتنفيس والضجيج والشتائم، والمنتج لمحصلة أرباح مادية ومعنوية نفسياً لايمكن التحصل عليها في احتمالات التغيير الممكنة.. وبوسع القارىء أن ينتقي أمثلة كثيرة على مثل هذا الواقع الأخير.

ــ كما فَشَت مظاهر التدين الكاذب، والتعابير الدينية كثيراً، كنوع من اللجوء إلى المقدس دفاعاً عن إثمية عميقة وتدرعاً حصيناً بمتاريس الكراهية التي لا يمكن أن تطال في خنادق الدين الحصينة، فالتدثرُ بغطاء الدين بات من العناصر المساعِدة في التطهير النفسي من عدوانية العقد النفسية ومشاعر إثميتها اللاشعورية، لذلك يبدو المتدين حصيناً وواثقاً حين يلقي باللوم على أخوته الفاشلين المقصرين، الذين أضاعوا “الثورة والوطن والدين والدنيا والآخرة”، لأنه إنما يصدر في نقده هذا مستنداً إلى جدار النصوص الميتافيزيقية التي تُؤَمِّنُ له تغطية كافية، وتعفيه من كثير من المسؤوليات التي لا تحمي أخوته”ضعاف الإيمان” الواقفين في الضفة الأخرى البعيدة نسبياَ عن “الله والدين”، مما يوطد قناعة بعضهم بأن”علاقتهم وموقفهم السلبي من الله أو من الدين”، هوما تسبب بكل هذا التفريط المخل بالمسؤولية العامة تجاه الثورة والشعب السوري وقضية العدالة والمساواة، الأمر الذي يمنح حماية صلبة للعقدة النفسية، ويعطيها فرصاً للهجوم وكراهية الأخوة”المقصرين والمفرطين بحق دينهم”.

الثقافة الماهوية العامة:

تمتاز الثقافة التي عممها نظام البعث والاسد خلال النصف قرن الماضي بكونها ثقافة ماهوية، أي انها ثقافة ذات مفردات صادرة عن “مثال”، وليست صادرة عن “وجود واقعي”، (وهذه صفة ثابتة وملازمة لكل أنظمة الطغيان والفاشيات عبر التاريخ)، فكل مصطلح ومعنى يجد معناه في مادته الماهوية لا في مادته الوجودية الواقعية: الأمة ـ الدين ـ الوطنية ـ المصلحة القومية ـ الإشتراكية ـ الديمقراطية ..الخ ..كل هذه المصطلحات هي ذات ماهية لها تعريف ثابت، بمنصرف عن وجودها الحي الواقعي وكيف يمكن تفسيره أو التعاطي معه في حياة الناس وواقعهم المتغير، فكما أن الحديد مازال هو الحديد نفسه منذ آلاف الأعوام بكل محتوى خصائصه، كذلك الأمة العربية هي الأمة العربية دون أي تغيرات خلال مئات القرون، فهي إذن ماهية أكثر مما هي وجود حي. والإسلام كذلك هو الإسلام منذ خمسة عشر قرناً، كذلك فان بقية المفاهيم: الإستعمار، الإشتراكية، الإمبريالية، العشيرة، الثورة، الإسلام السياسي.. كلها مفاهيم ثابتة،(كثبات خصائص الحديد) لا تزول ولا تتغير.. ولقد تم تعميم تلك الثقافة لا في مستوى التعليم المدرسي والجامعي فحسب، بل في الخطاب السلطوي العام والمعلن حتى اليوم: إعلامياً وسياسياً، ومسلكاً عاماً في إطار العلاقة بين السلطة وجمهورها.. كذلك الأمر، بالمقابل، في الخطاب السياسي المعارض حتى اليوم،(بصورته العامة لا بتفاصيله)، يقاس عليه الخطاب الديني وغير الديني التعبوي، والذي مازال يأخذ على عاتقه تعبئة الشارع وجماهيره بخطاب ماهوي شبه ثابت..

المثاقفة الماهوية إذن هي تعميم “قيم”، وإلباسها قسراً للواقع، سواء قبلها هذا الواقع أم رفضها، إنها مجموعة الألبسة والأحذية التي تمت استعارتُها من ثقافة جاهزة وبعيدة في الزمان والمكان، تحضيراً لإلباسها لأجسام غير متعينة ولا محددة بعد.. بل إن السياسة كما تم التعرف عليها والخطاب السياسي الحزبي الذي تم تعريف الواقع من خلاله، كل ذلك قام على منظومة من أحزاب وأصحاب إيديولوجيات كثيرة، كلها صدرت وعبرت عن نفسها بتعاريف ماهوية، فكما أن الخطاب السياسي الإسلامي الذي تعهد الجماهير منذ بداية القرن الماضي، أي منذ قرن من الزمن بتعريف الإسلام والسلطة و”مصلحة الأمة”، وكل مفاهيمه عن الشرق والغرب والحضارة الحديثة بصورة عامة، والذي لم يطرأ على لغته أي تغيير يذكر حتى يومنا هذا، شأنه في ذلك شأن خطاب السلطة الرسمية/البعثية، والتي ماتزال تجد تعبيرها عن نفسها أمام الناس بكونها المعبرة عن أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة.. إن الكون بالنسبة لهذا الخطاب هو: إيمان/كفر، أخيار/ أشرار، فرقة ناجية/فرقة ضالة، خير أمة أو أمة مثالية عظيمة/ أمم شريرة بغيضة وسيئة ومعادية، جيل قرآني فريد(والمصطلح لسيد قطب)/أجيال منحطة وفاسدة..الخ..

صحيح أن الخطاب الماهوي نفسه ليس حجة بالغة لننسب إليه عامل مرضي كالذي نسعى لتحليله في هذا البحث، وهو ليس سبباً مؤثراً للكراهية بحد ذاته، لكنه بحق مناخٌ مُثْرٍ ومُصَنِّعٌ لسمت التفكير المقولب/ الإستاتيكي، وليس هو علة وجود المرض الجماعي بحد ذاته، لكنه دافعية نظرية تشيع روح البغضاء على خلفية قناعات صلبة، غير قابلة للتحلل والتحاور، وتؤمن غطاءً كافياً للحماية النظرية ولصناعة خطاب الكراهية.. إنه ليس بذاراً، ولا يصلح أن يكون بذاراً، لكنه بكل تأكيد تربة مخصبة للبذار، ومادة جيدة لتنظيم الفوضى المجتمعية وصياغة الحروب البينية تحت عناوين خطاب الكراهية المزخرف بـ “الكلام الكثير الفخم”، للتذرع بالخلاف والاقتتال والتحلل المجتمعي من المسؤوليات الحضارية في أبشع صوره، وهو السُلَّم الذي تتسلق عليه الأنظمة الديكتاتورية ويقف التاريخ عنده متجمداً دون حراك.. الجميع إذن على “حق” طالما أن مايصدر عنهم من خطاب ماهوي يبقى خارج الواقع، ولا تعريف له أو كينونة وجودية..فالخطاب الماهوي هو المتعهد والكفيل بصياغة الخطاب العام الذي يبرر ويستحسن، ويجمل القبيح ويقبح الجميل حسبما يرى، وهذه مهمة ثقيلة يتولى الخطاب الماهوي كِبْرَها، وهي ليست بذات شأن هيّن.

الثقافة لا تصنع الحدث مباشرة، كما تنقل الرافعة بضاعة بذراعها وكلاباتها من مكان إلى مكان، لكنها تقوم على “تسميم المُتَصَوَّر المُتَخَيَّل”، وتقترح خطة بديلة لصناعة الحدث العام، فهي إذن تلعب دوراً أهم من الذراع التي تُغَيِّر، وحين تكون وسطاً معرفياً كيمياؤه كلها قائمة على مثاليات، فما أسهل إذن أن تلبس الموقف والحالة.. فالسياسة والممارسة المباشرة تصفُها ظاهراً ومباشرة ولا تنال محتواها، كأن جوهر الحقيقة تحتله الكلمات الواصفة لهذا الجوهر، حيث تغدو اللغة المنطوقة بما تمتلكه من قيمة تعبيرية وطاقة تستفرغ منطقها الخاص(أيّ منطق لغوي كان)في تبرير الذرائع وصناعة غطاء أخلاقي إيديولوجي مثالي تتمرس وراءه كل النزعات الإجرامية والعدوانية، و”التدمير الأخلاقي والقدسي الطابع”، والتي يمتحها اللاشعور العميق من قاعه الأسفل، ويشاطرها رغباته وغرائزه؛ بحيث يصبح كلُّ شيء جيداً وجميلاً ومباحاً، وله مايبرره بتلك الوصفات التعميمية اللغوية التي تشبه سُمّاً قاتلاً، لكنه حلو المذاق..

في الخطاب الثقافوي الماهوي يتشارك البعثيون القومجيون السلطويون، والإسلاميون، وحتى كثير من مدعي الثورية والديمقراطية، في مجتمع منظومة تعريف واحدة للعالم ، فالأمة والوطن والحرية والحق وحق الجماهير في تقرير مصيرها وخياراتها في المشاركة، تتعرف كلها بماهيتها الشعاراتية لا بواقعها الوجودي الملموس، وسوريا وإيران وحزب الله هي (جبهة مقاومة وممانعة)، و(سيد الوطن)يبقى سيد الوطن حتى وإن قتل كل شعبه ودمر الوطن، طالما أنه يمتلك تعريفاً ماهوياً ثابتاً لا يتغير، ولا يوجد له تعريف آخر بديل، شأنه شأن تعريف الحديد والنحاس والمنغنيز،(هذا ما يجعل شبيحة النظام مؤمنين به حتى الموت بعد كل ما اجترحه خلال ست سنوات)، ومثلما يشترك معهم كذلك كثير من الإسلاميين والقوميين واليساريين والعلمانيين الليبراليين، في مجمل أفهامهم لثورة الحرية والليبرالية والديمقراطية.. كيف برر يساريون عاشوا نصف قرن يكدحون من أجل حق المظلومين والفقراء وحرية الإنسان وتحرير المضطهدين والشعوب المضطهَدة ومحاربة الإستعمار مواقفهم المؤيدة لفاشية الأنظمة القائمة، واصطفوا معه في مستوى من الحماس الموجب للشفقة والرثاء؟ وكيف برر إسلاميون كانوا يقاربون فكرة العدالة في أنساق من التصورات الإيمانية الإنسانية بأن من آذى مجرد حيوان كالهرة فلربما “تسقطه فعلته في جهنم سبعين خريفاً”، وأن من بات شبعان وجاره جائع خسر إيمانه الحق، فإذا بهم يستحلون تدمير الوطن والفتك ببسطاء الناس في آلاف الجرائم التي نفذوها ضد سكان مدنيين، وآمنين عُزّل، وربما قاربت جرائمهم جرائم السلطة أو فاقتها وحشية في مواقف مشهودة، وذلك بذرائع حشوة من الخطاب اللغوي الفارغ الذي لا يمت بصلة إلى واقع الناس وحيواتهم في مختلف الكارثة البشرية العامة التي عاشها السوريون في واقع محنة استثنائية غير متوقعة ولا متصورة..؟

الحياة موجود في الذهن، وهي ليست أكثر من ماهيتها وتعريفاتها الثابتة خارج أي وجود واقعي ملموس، والمجتمع ليس اكثر من محدداته الماهوية التي تفصل خصائصه الثابتة عما سواها.. وبهذا لن تجد مفارقة غريبة حين تتعرف على قتلة ولصوص ومنتهكي حقوق الإنسان وعتاة مجرمين كلهم يقاتل من أجل(ثورة الحرية والكرامة)كما يتصور نفسه، وكما حجز لنفسه مكاناً تحت شعاراتها منذ انطلاقتها، وما يزال مصراً على أنه من أبنائها البررة، مثلما سوف تزول الغرابة عند هذا الحد حين تجد يساريين شيوعيين، وقوميين أصحاب رسالة للإنسانية، وقد اصطفوا إلى جانب ميليشيات طائفية بغيضة، وقوى ظلامية قادمة من كهوف التاريخ البدائي، ولن تستغرب حين تجد مثقفين يدَّعون اعتبارياً أنهم في صف الحرية والحداثة والمجتمع المدني، بينما واقعهم يؤكد أنهم من أشد المنافحين  والمصطفين إلى جانب طائفيتهم البغيضة.. طالما أن هناك تشاركاً في التعرف على المحيط والوجود وتعريفه بماهيته الثابتة وبمصطلحاته المشتركة فيما بينهما..

رهاب السلطة الحاكمة: 

ماسبق كله يشرح واقعاً جمعياً بعيداً عن تفسيراته الفردية، ولكن على المستوى الفردي يبقى ما يمكن أن نسميه “رهاب السلطة”، كأحد المفاعيل المباشرة الشارحة  لردات الفعل التي يطورها قلق مزمن، يبقى على الدوام مجهول السبب في الوعي المباشر، حيث تحتكم الغريزة الفردية التي تعرضت لمعاناة واستهداف دائم من قبل مؤسسات النظام الفاشي الذي تولى تطويع ثلاثة أجيال على الأقل من خلال الاعتقالات والخطف والتغييب القسري الطويل الذي يمتد لسنوات، والقتل الفردي والجماعي، ونسجها على منوال الخوف من المستقبل والقلق المبطن من القادم، وليس النسيج السلوكي المباشر للأفراد محتكرا لصالح فكرة الالم او القتل او الاضطهاد او الاعتقال فجأة، ودون توقع الاسباب.. ليست هذه الموجبات المباشرة وحدها هي مدعاة القلق، بل يضاف اليها الوانا من الاذلال والعذابات المهينة والمحطة.. كل هذه الوحشية، وهذا الإستذآب الإنساني هو المسؤول عن رحلة السير نحو عقاب متبادل لاتحدد له، رغم مافي هذه الرحلة من مشقات. الأمر الذي يطور قانون الخلاص الفردي، او مبدأ (السفينة الغارقة)، حيث تسمح الغريزة القائمة على ردات الأفعال التي تعمل على أن يلقى بكل الحمولة الزائدة عن حاجة المركب المتدهور لينجو ما تبقى من  الآخرين من مصير محتوم، وحيث ينقسم المجتمع الى قسمين : نصف هم مجرد حمولة يجب التخلص منها، ونصف هم الناجون المفترضون.. وحينما تبدأ المجتمعات بالتحرك نحو العشوائية تفقد ذاتها، على فرض أن الذات الجمعية قيمة تسلسلية متدرجة من الأسفل إلى الأعلى تنتهي إلى أعلى درجات تحققها.

طبيعة تلك (السفينة الغارقة) ترجع دائما الى خبرات قديمة متعتقة في الذاكرة لا تسمح بالتعاطف كثيراً، وإنما تغذي مبدأ إرادة التنحية وتصعد مفاعيله إلى حدودها القصوى، حيث يصبح القتل والإقصاء في ذروة تعبيراته تطرفا شيئا عاديا، تعمل بعض القيم اللفظية على تبريره وتغطيته اخلاقيا، وحيث تستبطن العدوانية كل ما يمكن ان يوفي حاجاتها الغريزية ويسترضي ذلك العدم اللاشعوري فيها..

وفي الخلاصة العامة نستطيع ان نجمع الخيوط الثلاثة الآنفة في مجتمع واحد وعلى مناط واحد: ان طبيعة السلطة المحطمة للحريات هي منبع تلك الكراهية النفسية والموضوعية والذاتية الفردية؛ إن السلطة الديكتاتورية الطغيانية لا تستولي على المجتمع إلا حينما تمنحه ذاتها العنيفة، وتشاركه جدليا تلك الطبيعة، ولا تركن الى الهدوء الا حينما تطمئن بان الجلاد والضحية قد تداخلا في نسيج واحد، واصبحا بنيويا من طبيعة متشاكلة يعوض بعضها بعضا، وانما الصورة والمظهر فقط، هو من يحدد ظرف من يقوم بوظيفة الجلاد أو الضحية مؤقتا، ليصار إلى تعميم خطاب الكراهية على فترة نسبية من الزمن.

 

كاتب وروائي سوري مقيم في فرنسا


Posted

in

by

Tags:

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »