عكس الانخراط العسكري الأردني المباشر في الأزمة السورية، عبر ضربات «موجعة» وجهها سلاح الجو إلى تنظيم داعش الإرهابي المتطرف داخل الأراضي السوري الأسبوع الماضي، تحولاً استراتيجيًا بالمنظومة الأمنية الأردنية تجاه سوريا؛ وذلك بالنظر إلى توسع نشاط «داعش» نحو الجنوب بشكل غير مسبوق، إثر الضربات التي يتلقاها في الموصل العراقية وشرق ووسط وشمال سوريا؛ مما يشكل تهديدًا مباشرا للأردن.
ولقد فرضت هذه المعطيات استجابة جديدة للأزمة، ورسمت ملامح استراتيجية جديدة، تبدأ من تشجيع إنشاء «منطقة آمنة» كانت طرحتها الإدارة الأميركية الجديدة في جنوب سوريا. بيد أن هذه الخطوة لا تحظى بمعارضة روسية، كونها ستكون تطويرًا لاتفاق شفهي بين عمّان وموسكو على التهدئة في المنطقة الجنوبية بدأ مع المرحلة الأولى من التدخل العسكري الروسي المباشر في سوريا. وسيمهد إنشاء هذه «المنطقة» لضرب «داعش» الذي بات يتخذ من مخيم الركبان الحدودي «مكانًا للاستراحة والتجنيد والتخطيط للعمليات»، وهو ما يحتم على الأردن زيادة نشاطه العسكري المباشر في بادية الشام، ومن غير المستبعد أن تكون عملياته مباشرة.
لم تعد استراتيجية «الوسادة الأمنية» التي اتبعها الأردن، طوال السنوات الماضية لدرء خطر الإرهاب عن حدوده، كافية.
لقد اعتمدت عمّان، طوال السنوات الماضية سياسة دعم الفصائل السورية الموالية لها، لإبعاد تنظيم داعش الإرهابي المتطرف عن حدود الأردن الشمالية، ولتطويق لهيب الحرب داخل الأراضي السورية، ومنع تمدده. إلا أن التطورات في سوريا، بموازاة التغييرات الدولية والخطط الموضوعة على سكة الحل السياسي للأزمة، بدّلت معالم المشهد، وفرضت مخاطر جديدة، ليس أقلها تمدد «داعش» جنوبًا، هربًا من عصف الشمال.
إذ ذاك، تدخل الجيش الأردني بشكل مباشر، خلال الأسبوع الماضي، على خط ضرب مواقع التنظيم المتطرف. وكانت تلك هي من المرات النادرة التي انخرط فيها على هذا النحو منذ بدء الحرب السورية. وجاء في بيان للجيش الأردني، أن طائرات من سلاح الجو الملكي شنت غارات على أهداف مختلفة لـ«داعش» في الجنوب السوري، منها موقع عسكري كان قد سيطر عليه التنظيم ويعود سابقا لجيش النظام السوري. وأكد البيان، أن مقاتلات سلاح الجو الملكي دمرت مستودعات للذخيرة ومستودع لتعديل وتفخيخ الآليات وثكنات لأفراد من «داعش» باستخدام طائرات «درون» من دون طيار، وقنابل موجهة ذكية، وأسفرت العملية عن قتل وجرح الكثير من عناصر التنظيم، إضافة إلى تدمير عدد من الآليات.
ربط خبراء هذه العملية بالحديث عن «المنطقة الآمنة» التي اقترحها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، أخيرًا، على أن تشمل المنطقة الجنوبية بوصفها اختبارًا للتدخل الأردني لحمايتها. غير أن المؤشرات الميدانية التي تزامنت مع العملية، تثبت أنها جاءت استباقًا غير مرتبط بها. ويقول الباحث السياسي الأردني محمد أبو رمان لـ«الشرق الأوسط»، خلال حوار معه إن «المنطقة الآمنة» لا تزال فكرة في طورها الأولي، ولم تنضج بعد، وهذا رغم أنها «مقترح أميركي يحظى بقبول مبدئي من قبل الروس». ولفت أبو رمان مضيفا: «لا تزال الفكرة في طور الاختمار، ومرتبطة بمحادثات آستانة التي تعتمد على تثبيت اتفاق وقف النار القائم، ثم هدنة عسكرية وصولاً إلى إنشاء مناطق آمنة في الشمال والجنوب».
«منطقة آمنة» على طريق الحل
تصوّر الأردن لـ«المنطقة الآمنة» التي تشمل مناطق الجنوب السوري، ستكون مخصصة لمنطقة (محافظة) درعا، بحسب أبو رمان الذي يشير إلى أنها «ستكون بالتفاهم بين الأردن والشركاء البريطانيين والأميركيين من جهة، والروس والنظام السوري من جهة ثانية، كون الروس سيكونون ضمانة النظام بتحييد المنطقة عن العمليات العسكرية»، وإلى أن إقرار هذه المنطقة «سيتيح التفرغ لقتال (داعش) والحركات الإرهابية القريبة منه، شرط أن تكون المناطق الآمنة محكومة لضمانات دولية لعدم الاعتداء عليها». ويضيف «ينظر الأردن إلى المنطقة الآمنة على أنها مفتاح مهم للحل في سوريا، ومرحلة من المراحل المقبلة قبل التوصل إلى حل سياسي نهائي. ويأمل أن تكون منطقة لتعزيز التبادل التجاري والتنمية الاقتصادية؛ كونه يمكن أن تتم الاستفادة من سهل حوران زراعيًا». ثم يوضح أن خطة التنمية في المنطقة «تنطلق من كون الأردن ينظر إلى أن المنطقة الجنوبية ستكون أقرب إلى مسؤوليته».
والواقع أن إقرار «منطقة آمنة» محتملة في جنوب سوريا، سيكون تثبيتًا وتطويرًا لاتفاق شفهي سابق بين موسكو وعمّان حيّد الجنوب السوري عن العمليات العسكرية الروسية إلى حد كبير، وذلك في مقابل تقليص غرفة «الموك» Military Operations Center (MOC) في الأردن دعمها العسكري للفصائل العسكرية في الجنوب؛ ما ساهم في تخفيض حدة المعارك، وبسط هدوء نسبي على المنطقة، خرقها نظام بشار الأسد بعمليات عسكرية محدودة.
ومن شأن إقرار «المنطقة الآمنة» توفير ضمانات حقيقية يفتقر إليها الاتفاق الشفهي السابق، ويتحول الروس إلى طرف ضامن للمنطقة بهدف تعزيز العمليات لضرب «داعش». وبموجب الاتفاق السابق، فرض هدوء على جبهتي محافظتي درعا والقنيطرة بعد أقل من شهر على تدخل روسيا العسكري في سوريا يوم 30 سبتمبر (أيلول) 2015، إلا أن النظام خرقها بعدما منحه تدخل العامل الروسي «فرصة لالتقاط الأنفاس» في المنطقة.
انخراط عسكري مباشر
في مقابل هذا الهدوء، تنامت المخاوف من نشاط «داعش» المتجدد على الحدود الأردنية في جنوب وشرق ووسط سوريا. فقد باتت بادية الشام، مصدر التهديد الأول للأردن، بعد انتكاسات التنظيم في الشمال والرقة وفي مدينة الموصل العراقية؛ ما دفعه إلى تحويل جهوده باتجاه شرق سوريا في دير الزور وريفها، ووسط سوريا قرب تدمر، والبادية المتصلة بريف دمشق الشرقي عبر القلمون الشرقي، وصولاً إلى ريف محافظة السويداء الشرقي المحاذي للحدود الأردنية الشمالية.
«هم» مخيم الركبان
يقول أبو رمان، إن تمدّد التنظيم شرقي محافظة السويداء، وشن عمليات باتجاه مخيم الركبان الحدودي مع الأردن، مثّل الضربة الأخطر بالنسبة للأردن، كاشفًا عن «معلومات أمنية أردنية تؤكد أن مخيم الركبان أصبح مصدر تهديد حقيقيا؛ كونه صار بمثابة نقطة استراحة لـ(داعش)، حيث يستفيد التنظيم منه في ظل معلومات عن جزء كبير من سكان المخيم، هم من عوائل مقاتلي (داعش)».
ويضيف «عليه، يأخذ أعضاء التنظيم استراحتهم في المخيم، ويأخدونه فرصة لتجنيد المقاتلين، ويستعدون فيه لعملياتهم الإرهابية في المنطقة».
وعلى ضوء اعتماد الأردن على مقاتلين سوريين متحالفين معه، في جنوب وشرق البلاد، يحاول التنظيم في المقابل التخلص من تنظيمي «أسود الشرقية» و«جيش العشائر» اللذين يقاتلان التنظيم في سوريا. ويُضاف التنظيمان، إلى قائمة عمّان لحلفائها في جنوب سوريا.
وللعلم، في وقت سابق، بعد أشهر قليلة على بدء الحرب السورية، واستخدام النظام السلاح ضد معارضيه، فتح الأردن أبوابه ملجأً للمدنيين، بينما سهّل وصول الدعم للمقاتلين المعارضين المعتدلين عبر غرفة «الموك». واستطاعت المعارضة السيطرة على أكثر من 70 في المائة من مساحة محافظة درعا، اتصلت بمناطق سيطرة المعارضة في القنيطرة، وبالغوطة الغربية لدمشق، بدعم من غرفة «الموك».
وحاليًا، يقاتل تنظيما «أسود الشرقية» و«جيش العشائر» على خط مقارعة «داعش» في شرق وجنوب شرقي سوريا المحاذي للحدود الأردنية. ويقول أبو رمان، إن القائمة «سيُضاف إليها فصيل آخر، هو قوات عشائر السويداء التي برز اسمها في الأيام القليلة الماضية، لقتال (داعش) في ريف السويداء الشرقي»، وهؤلاء من «المقاتلين العشائريين الذين يعزز الأردن علاقاته معهم»، ورغم حجم الأخطار بالنسبة للأردن، لا يوحي بأن الاعتماد على هؤلاء المقاتلين الموالين سينجح من إبعاد الخطر نهائيًا.
وعليه، لا يستبعد أبو رمان أن يزيد الأردن نشاطه العسكري المباشر في بادية الشام، بعد العملية التي نفذها الأسبوع الماضي لضرب «داعش»: «وقد يشمل أيضًا عمليات اشتباك مباشر مع (داعش)؛ كون استراتيجية (الوسادة الأمنية) القائمة على دعم الحلفاء من الجيش السوري الحر في داخل سوريا والاعتماد عليهم، لم تعد كافية».
حوض اليرموك
إلى جانب الخطر المترتب على تمدد «داعش» في الجنوب الشرقي لسوريا، تمثل منطقة «حوض اليرموك» بؤرة خطر ثانية. وهي المنطقة التي يتمدد فيها تنظيم «جيش خالد بن الوليد» الموالي لـ«داعش»، وينتشر على خط حدودي مع هضبة الجولان المحتل من قبل إسرائيل، وتبعد كلم واحدا عن الحدود الأردنية في شمال غربي البلاد.
إلا أن معالجتها تخضع لتعقيدات أخرى تتمثل في وجود إسرائيل في المنطقة، فضلاً عن وجود مدنيين أيضا، خلافًا للمنطقة الشرقية، وهي منطقة صحراوية، يسهل ملاحقة «داعش» فيها وقتالهم.
لكن المنطقة نفسها، يوجد فيها حلفاء للأردن يحاصرون «لواء شهداء اليرموك» الموالي لتنظيم داعش في جنوب سوريا. وعلى مدى خمس سنوات، بنى الأردن علاقات جيدة مع فصائل الجبهة الجنوبية، وتعتبر تلك الفصائل المعتدلة التي تنتمي إلى «الجيش السوري الحر»، مقربة من عمان، وقد تلقت دعمًا من الأردن عبر غرفة «الموك» لمواجهة تنظيم «شهداء اليرموك» الموالي لـ«داعش» في ريفي درعا الغربي والقنيطرة. ويُشار إلى أن «جيش خالد بن الوليد»، أعلن عنه في مايو (أيار) الماضي، إثر اندماج للتشكيلات الموجودة ضمن حوض اليرموك، التي يشكل «لواء شهداء اليرموك» عمادها. ونص الاندماج مع «حركة المثنى» آنذاك على إعادة هيكلة التشكيلات الموجودة ضمن حوض اليرموك تحت مسمى «جيش خالد بن الوليد».
ويقول أبو رمان «تمثل المنطقة خطرًا من الدرجة الثانية بالنظر إلى أن فصائل (الجيش السوري الحر) تحاصر التنظيم فيها، حيث تشارك فصائل الجبهة الجنوبية و(أحرار الشام) في حصار التنظيم المتشدد، ويدعم الأردن القوات المعتدلة التي تقاتل المتشددين وتحاصرهم».
ويشرح أن الموقع الجغرافي للمنطقة المحاذية لهضبة الجولان، حيث تتواجد إسرائيل «قد يكون عاملاً مهمًا وحاسما في المواجهة مع التنظيم»، في إشارة إلى احتمال انخراط إسرائيل بشكل مباشر فيه، من غير أن يستبعد إمكانية أن يكون للأردن أيضًا دور فيه»، لافتًا إلى أن وجود المدنيين في المنطقة «قد يعيق العمل العسكري الواسع، خلافًا للمعركة في البادية، منعًا لوقوع إصابات وضحايا في صفوف المدنيين».
ويذكر أن «داعش» كان قد تحرك جنوبًا، بعد سلسلة انتكاسات تعرض لها في الشمال والشرق، محاولا زيادة رقعة سيطرته في ريف درعا الغربي. وبدأت المعارك حين شنت الكتائب المبايعة لـ«داعش» هجومًا موسعًا تركز في محاور محيط منطقة العلان وسد سحم الجولان ومحور تسيل – عين ذكر بالريف الغربي لدرعا.
موقع الرأي
اترك تعليقاً