حسن العدواني
من لا يعرف الرقة التي على الفرات. إنها رقة هشام ، ورصافته، ورقة المنصور، وقصور الرشيد ببساتينها الغناء.
الرقة ذات الأسوار والأبواب، رقتان “البيضاء والسمراء”كما أنها رقة واسط، والرافقة، وأمهم “توتول” في الصر التليد. قال تعالى (وجعلنا فيها رواسي شامخات وسقيناكم ماء فراتا ).
من نعم الله وهباته أن جعل الرقة على الفرات وجعل الفرات نبع الحياة ولتكون الرقة نقطة الاستيطان الأولى على ضفافه
منذ الألف التاسع قبل الميلاد حيث عاش الإنسان واستوطن على ضفافه في تل مريبط ، وأبي هريرة، وحبوبة، وتل الخويرة إلى حاضرة توتول الرقة الأم، والتي ترقد إلى جوار الفرات حيث امتدت إلى الرقة السمراء (نقوفوريون) والى الرقة البيضاء (كالنيكوم)والى جانبها نهضت شواهد ترفل شامخة على ضفتي الفرات كالرصافة، وعباب السفينة، وزلبا، والسورا، وقلعة جعبر.
فالرقة السمراء، والبيضاء، والرافقة روائع خالدات على مر العصور يزيد بهائها وثباتها أسوارها وبابها، ومأذنتها وبيمارستانها، وآثار كنائسها وجوامعها، وقصورها التي درست في معترك الحياة، وأمام النائبات، وعاديات الزمن.
هي الرقة التي قال فيها ابنها الشاعر ربيعة الرقي.
حبذا الرقة داراً وبلد بلد ساكنه ممن تود
ما رأينا بلدة تعدلها لا،ولا أخبرنا عنها أحد
الرقة هبة الله على الفرات، وهبة التاريخ والماضي العريق الزاخر بالحياة المتجددة.
الرقة نبض الأمة، والعروبة، والإسلام.
الرقة قبلة العرب قبل الإسلام وبعد الإسلام.
لقد سكنها المصريون منذ القرن السادس للميلاد، وكانت صلة الوصل لقبائل مضر العربية، وحاضرة ديار مضر بسهلها الخصيب ومائها الفرات.
وصفها الإدريسي بقوله :(مركز ديار مضر هدف ومقصد المسافرين ومعقل التجارة )
خضعت الرقة بعد سقوط بابل سنة539 ق.م مع مختلف أرجاء الجزيرة إلى السيطرة الأجنبية…من فرس، ويونان، ورومان، وروم بيزنطيين إلى أن تم تحريرها من قبل العرب المسلمين سنة 18 للهجرة الموافق(639)م على يد عياض بن غنم، حيث تمتعت الرقة بحرية الاعتقاد، وسماحة الإسلام، وازدهرت التجارة، والزراعة، وتوافدت إليها في هذه الفترة قبائل قيس وتغلب وفي العام 37للهجرة وقعت بالقرب منها معركة صفين الشهيرة بين جيوش الإمام علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان، وعلى ترابها جرا دم الشهداء، وبها دفن الصحابيين أُويس القرني، وعمار بن ياسر كما أنها في العصر الأموي أصبحت الرقة محطة مشهورة وسوقاً غنية تتمون منها الجيوش والمدن المجاورة.
وفي الرصافة سكن هشام بن عبد الملك، وفي ربوعها أقيمت ملاعب الفروسية العربية ، وبنى على كتفها الأيسر رقة واسط، وشيّد بها القصور وأقام جسراً على الفرات لربط الرقة الأم بواسط، وحفر نهري الهني والمري ليرويا رقة واسط ثم يعودان إلى الفرات.
ذكرها الصنوبري مع دير زكي متغزلاً بجمالهما:
بين الهني إلى المري إلى بساتين النضارة
فالدير ذي التل المكلل بالشقائق والبهارة
وفي تلك الفترة سيرة جيوش الصوائف، والشواتي من الرقة إلى أصقاع المعمورة براياتها الخفاقة المنتصرة لتنقل إليها حضارة عريقة نشرت ضيائها في الإنسانية جمعاء
أما في العهد العباسي فقد شيد الخليفة ابر جعفر المنصور مدينة الرافقة سنة155هجري/772م والمجاورة للمدينة القديمة توتول، وبنى فيها القصور، وحصنها بالسور وكان للرقة يومها عصراً ذهبياً بالنسبة لحاضرة الفرات( الرافقة) الخافقة راية مضرية عربية وعهدا منظورا وكتاباً مسطورا.
قال بها الصنوبري شاعر الرقة:
واهالرافقة الجنوب محلة
حفت بها أنهارها وجنانها
وبها شيد المهدي رقة الصالحية في الشمال الشرقي من الرقة الأم على كتف البليخ بنى العمائر، والقصور الجميلة، وبها تغنى الشاعر أشجع السلمي قائلا:
قصور الصالحية كالعذارى
لبسن حليهن ليوم عرس
ثم نهض الرشيد
جاء الرشيد إليها في العام 170هجري /786م ليطرق أبواب مدينة الرقة السرمدية، وهو يفك رصدها الدهري بما اختزنه في صدره من مفاتيح العلوم، وموز الفنون وأقانيم الحكمة.
فإذا الرقة حاضرة وعاصمة لدولة عربية مترامية اﻻطراف، ومنارة للثقافات المبدعة، وساحة لتمازج الحضارات ونموذج للعزة القومية.
شيد الرشيد مدينته الجديدة في سهل فسيح بين نهري البليخ والفرات بطول 10 كم خارج أسوار المدينة الأم.
جعل بها قصوراً ضخمة، وأبنية فخمة، وأصبحت جنة تستثير وجدان الشعراء، وتحرك خيال الأدباء، وأخذت تعج بالحياة، وشق لها نهر الفرات ليجري بين أبنية مدينته وقصورها الفارهة كقصر السلام، و قصر الخشب، والقصر الأبيض وقصر هرقلة.
ذكر ابن العبري في حوادث سنة 173 للهجرة.(ارتحل الرشيد من بغداد الى الرقة يريد الإقامة فيها فزاد في عمارتها وغرس في ضواحيها جنائن كثيرة وجلب إليها نهراً من الفرات ونهرا ثانيا من سروج وقد اشترى مياه قرى سروج من أصحابها، واحتفر نهرا جديداً ).
وعدت الرقة في عهد الرشيد من بين منازل الدنيا الأربعة ودامت بها الخلافة مدة 13 عام حتى سنة (193/هجري/809م)
ومن مفاخر الرقة أنها موطن عالم الفلك البتاني، وبها المرصد الفلكي وضمت أعظم الأديرة، والكنائس، ودور العبادة والجوامع، والمدارس التعليمية والفقهية .
ضمت الرقة ابلغ الشعراء والأدباء وبها كان أول بيمارستان يديره أطباء عظماء، كما أن للرقة ماض حافل في ميادين العلم والفقه والحديث والنحو واللغة والترجمة والقضاء امتدت لقرون عديدة، حيث كانت موطئ الفتوحات، والغزوات ومن الرقة كان الرشيد يحج عاما ويغزو عاما، ومن الرقة أيضاً سارت جيوش الرشيد لتدك حصون الروم وتفتح القسطنطينية.
اترك تعليقاً