عبد القادر ليلا – المدن
أكثر من مائة قذيفة صاروخية و25 غارة جوية، استهدفت مساحة لا تتجاوز 20 كيلومتراً مربعاً من مدينة الرقة، في أول أيام عيد الفطر. ولم ينته اليوم الاول إلا وكانت حصيلته عشرات الضحايا المدنيين في بيوتهم. في عيد الفطر لم تُنصب مراجيح العيد، ولكن نُصبت بيوت العزاء.
ودخلت “قوات سوريا الديموقراطية” وقوات “التحالف الدولي” المساندة لها، مرحلة استعصاء عسكري، بعد ثلاثة أسابيع من معركة الرقة. فلم يعد هناك أي تقدم ملحوظ. ويبدو أن أسوار الرقة ستكون عصية، كما وعد تنظيم “الدولة الإسلامية”، وأن الافخاخ والمفاجآت غير السارة تنتظر القوات المهاجمة. وعمد التنظيم، إلى بناء تحصينات وأنفاق، بمستوى فني وعسكري احترافي، مستفيداً من هزائمه في المعارك السابقة. والواضح أن عملية اقتحام المدينة إن لم تتم بتسوية ستكون كلفتها البشرية مرتفعة جداً، وأكبر من أن تتحملها “قسد”، بعدما استطاع التنظيم امتصاص الحرب النفسية والإعلامية التي شُنت عليه، وتركزت حول هروب أمراء وقادة منه، وأيضاً عن معلومات تتحدث عن عشرات الهاربين من عناصر التنظيم والتائبين عند قوات “قسد”، التي تسامحهم وتحتضنهم كالأبناء الضالين.
استعاد التنظيم زمام المبادرة العسكرية وشنّ هجمة بعربة مفخخة على دوار البرازي شرقي المدينة بعدما اعتبرت هذه النقطة تحت سيطرة “قسد”. كما نصب “داعش” كميناً بالعبوات والألغام عند مفرق الطيار في الجهة الغربية من المدينة موقعاً عشرات القتلى من “وحدات حماية الشعب” الكردية.
استماته التنظيم وقوة دفاعاته أوقعت القوات المهاجمة في موقف حرج، لتعود وتعلن الأحد عن سيطرتها على حي القادسية وتحريره، علما انها سبق وأعلنت قبل أيام عن سيطرتها عليه. لا بل احتاجته كإعلان عن نصر وكسر للاستعصاء، بعدما شوهدت عربات “همفي” و”همر” تجرها رافعات، بعد استهدافها في المعارك.
القوات الأميركية دخلت بشكل مباشر وفعلي في المعركة، وأصبح مشهد الأرتال العسكرية التي ترفع الأعلام الأميركية، معتاداً وشبه يومي على أطراف مدينة الرقة. والمؤكد أن المعركة باتت أكبر من قدرات “قسد” بجميع تشكيلاتها، لذا فقد بدأ الأميركيون بالدفع بقوات “المارينز” للقتال بشكل مباشر وفعلي أكثر من ذي قبل.
الوضع الميداني للقوات المهاجمة مجمّدٌ على حاله منذ أكثر أسبوعين. فمن جهة الشرق توقفت “قوات النخبة”، المتحالفة مع “قسد”، عند حي المشلب وكلية العلوم مع التغطية النارية لباب بغداد الأثري، واستمرار الاشتباكات في حي الصناعة. من جهة الغرب، لا تزال “قسد” تخوض معارك كر وفر مع عناصر “داعش” في حي الطيار من جهة البانوراما. ومن جهة الشمال، فما زالت “الفرقة 17” عصية على القوات المهاجمة، رغم إلقاء “التحالف” لمئات الأطنان من المتفجرات، كان آخرها بقادفات “B-52”. المدفعية الثقيلة المتمركزة في معمل السكر، استهدفت أيضاً “الفرقة 17″، ولكن قوة تحصيناتها حالت دون السيطرة عليها.
جنوباً، استطاعت قوات “مجلس منبج العسكري” و”وحدات حماية الشعب” الكردية، التقدم من من كسرة شيخ جمعة باتجاه معسكر الطلائع، لتسيطر على مدخل الجسر الجديد، وتضع مداخل الجسر القديم تحت مرمى نيرانها.
وبهذا تكون جميع القوات المهاجمة قد أطبقت الحصار على مدينة الرقة، بما فيها من الجنوب الذي كان مفتوحاً سابقاً. ويبدو أن قرار إغلاق هذه الجهة، جاء بعد فشل المفاوضات لخروج عناصر التنظيم من هذه الجهة عبر البادية. لكن معارضة روسيا وتعطيلها لهذا الاتفاق دفعت بقوات “التحالف” للايعاز لـ”قسد” بإغلاق المدينة بشكل نهائي، وتصفية مقاتلي التنظيم أما بالقتل أو الاستسلام.
في هذا العيد، لم يذهب الأهالي إلى المقابر لزيارة موتاهم، فهم مدفونون في الحدائق والساحات، وباحات الجوامع والأوابد الاثرية. القبور منتشرة في كل مكان، فالرقة باتت منذورة للموت. حتى صلاة العيد، ولأول مرة في تاريخ المدينة، لم يحضرها سوى بضع عشرات من الشيوخ، ممن تساوت عندهم الحياة بالموت. خطيب العيد كان مهزوزاً، فاقد الثقة، وأصوات القذائف المنهمرة تهز أركان المسجد. الخطيب دعا الناس للالتحاق بالجهاد، و”التمسك بنهج الإسلام الذي أرست دعائمه دولة الخلافة”.
ثمة تراجع ملحوظ في قدرات “داعش” المتوحشة على البطش والتنكيل بالمدنيين، ويعتبر هذا أهم دليل على ضعف التنظيم، وانخفاض حدّة جرائمه بحق المدنيين. في أول أيام العيد، كانت عائلة حج خليف العبدو، حديث المدينة، بعدما اتهمه التنظيم بالتلفظ بالكفر، وحكم عليه باقامة الحد. التنظيم طرد أسرة العبدو من بيتهم بعدما أحلّت ماله ودمه، فغادرت العائلة المؤلفة من 3 أبناء وأمهم باتجاه الجنوب، لتعبر نهر الفرات بالقوارب، ولكن طيران “التحالف” كان لهم بالمرصاد، فقتل اثنين منهم على الفور، وأصيب الأخ الثالث. عائلة خليف العبدو، وقبل سنتين، قتل أحد ابناءها على يد النظام. عائلة العبدو صارت نموذجاً لأهل الرقة الذين توزعت دماؤهم بين “التحالف” و”قسد” والنظام والتنظيم.
الوضع الإنساني في الرقة من سيئ إلى أسوء. الكهرباء مقطوعة منذ أكثر من شهر، والماء كذلك في مدينة يحدها الفرات جنوباً. فلجأ الأهالي إلى الآبار المهجورة، ومياه النهر الملوثة. وتعاني المدينة من ندرة في الوقود ما يهدد بتوقف آخر فرنين يعملان بنصف طاقتيهما. وهناك نقص هائل بالادوية وفقدان البعض منها بشكل نهائي. وتوقف المشافي عن الخدمة باستثناء مشفيين يقدمان خدمات طبية بسيطة، لنقص الاختصاص والمعدات. ما يضطر الأهالي لحمل مرضاهم وجرحاهم، نحو الجنوب، لركوب الزوارق واجتياز نهر الفرات المرصود من قبل طائرات “التحالف”.
الفرات الذي كان يهب الحياة للمدينة، أصبح الآن حداً فاصلاً.. تراق فيه الدماء.
اترك تعليقاً