رئيس التحرير
في المهجع “29” في سجن تدمر، عقب المجزرة بسنتين تقريباً، جلس فتى صغير السن، لم يكن يتجاوز السادسة عشر من عمره الغض، (اسمه عدنان زقزوق، كما أذكره اليوم)، يروي بشجن واسترجاع مالذي جرى لهم يومها.. قال:
(حاصرت سرايا الدفاع والوحدات الخاصة حيّنا، وشرع العساكر يداهمون البيوت، ويقتحمونها بمنتهى العنف، ثم ساقوا كل من وجدوه في منازل الحي.. الرجال والشيوخ والشباب والصبيان.. لم يتركوا إلا النساء المذعورات وهن يرتجفن خلف الأبواب وفي فراغات المطابخ ودورات المياه.. ساقوا الجميع إلى الشارع العام، ثم أمروا الجميع بصوت موحد أن ينبطحوا في منتصف الشارع على وجوههم وأيديهم متشابكة تحت الوجوه. سمعنا اصواتاً لم نميزها كثيراً، وكان واضحاً من النبرة أنها أوامر تصدر من ضباط كبار. ثم رأيت إحدى الدبابات الروسية الضخمة تتحرك بجنزيرها العريض نحو الآدميين المرصوفين إلى جانب بعضهم كقطع بسكويت منتظمة، وراح سائقها يمر مروراً فوق الرؤوس مباشرة.. كانت الرؤوس تطقطق تحت الجنزير كبيض طري يهرس بأقدام صلبة، ولم يستغرق مرورها إلا بضعة ثوانٍ.. لم يكن الوقت كافياً لأحد كي يصرخ. أو كي يستنجد. أو يقول أي كلمة.. كلمة أخيرة للضابط.. لسائق الدبابة، لله.. للحياة التي يودعها.. مرت الدبابة كما يمضي قطار في حقول القثاء والبطيخ فوق الجماجم البشرية.. سمعت الدبابة تتوقف، وسمعت تهديدات لمن يرفع رأسه أو يحاول أن ينظر المشهد بطرف عينه، فهمت بأن امراً جديداً قد وصل، وأن على الدبابة أن تتجه إلى مهمة جديدة، وشتيمة وجهت لسائقها بأنه “يلعب ويقضي وقته في أمرٍ تافهٍ لا وقت له الآن”.. رغم كل التهديدات التي لم تنقطع ناحيتنا، خصوصاً التهديد بأن لا نفتح أعيننا وأن لا ننظر ما يجري.. ومع ذلك نظرت. فتحت طرف عيني ونظرت وأنا ماأزال منبطحاً على الأرض.. رأيت الدبابة لا تبعد عني أكثر من مترين أوثلاثة، ولا يفصلها عن”دوري” وعن ” رأسي” سوى أقل من ستة أو سبعة أشخاص.. بعدها غير السائق وجهته ومضى إلى جهة مجهولة .
أما نحن الباقين الذين فات عليهم الدور بمرور الجنزير فوق رؤوسهم، فقد سمعنا أمراً جديداً: الكل واقفاً.. توجهوا نحو سيارات الزيل.. وهناك وضعت الكلبشات في أيدينا وساقونا جميعاً إلى الفرع، ومنه إلى سجن تدمر بعد عدة أيام..).
مضت المجزرة المروعة. حمل أهل حماة وحدهم عبء ذكراها الثقيلة، وتحلل العالم بأسره من مسؤوليتها. بعض هذه البشرية تظاهر بالعمى والصمم، وبعضها اعتقد بأن الزمن وحده الكفيل بأن ينزع ذكراها من القلوب والعقول.. وأهم من كل ذلك أن ملفها الكبير الجسيم لم يمر على وسائل الإعلام الكبرى والمؤثرة، ولم تتعرف عليه منظمات حقوق الإنسان والمحافل الدولية. ظل القتلة طلقاء، بل ظلوا مرحباً بهم على رأس سلطاتهم حتى يومنا هذا، ومازال حق دماء تلك الجزرة معلقاً بين السماء والأرض، وما زال أهل الدماء يستصرخون ويتذكرون، وما زالت العدالة في هذا العالم المظلم كسيحة شلاء شوهاء.
العالم المدقع الفقر بالضمير والإحساس بالإنسانية أعاد تأهيل حافظ أسد بعد جريمته تلك، ومنحه صك البراءة وشرف البقاء والاستمرار في السلطة، واستقبل أخوه رفعت في كل المحافل والدور والقصور كشخصٍ مرحبٍ به حتى يومنا هذا، والعالم اليوم لا يفعل أكثر مما فعله في ذلك الماضي، حيث سعى بكل ماأمكنه من قوة ليعيد نظام ابنه وسلالة الإجرام التي تنتمي إلى عصر الضاريات من الوحوش لتعيد سيرتها الأولى، ولكي تستمر مقصلة القتلة مشرعة فوق أعناق السوريين إلى الأبد .
اترك تعليقاً