رئيس التحرير
لو حاولنا أن نرسمَ تصوراً خيالياً على سبيل المقاربة، لمنظر مِبْرَدٍ حديديٍ عليه بقعة صغيرة من الدم، وتخيلنا هِرَّاً شرهاً يدنو من المِبْرَد ويلعقُ بقعة الدم، فيجرحُ لسانه ويمزق أشداقه بالمبرد الحاد، فينفجر دمُه فوق بقعة الدم الصغيرة الموضوعة على المبرد، وكلما أثاره الدم وزاد شهيته لِلَّعْقِ أكثر، كلما زاد نزيفُه باضطراد مع هبوب غرائزه وجموح شهوته، وكلما أكل وامتص الدماء التي ستفيض على حديدة المبرد، كلما حسب أنها ستنقص، وستروي عطش غرائزه المستثارة.. والدماءُ في الحقيقة تزيد ولا تنقص، لأن الهِرَّ في واقع حاله، إنما شَرَعَ ـ دون أن يدري ـ في التهام نفسه بنفسه ببطء؛ حتى الانتحار والفناء.
ليس في هذا التصور بلاغة لفظية ومحسنات بيانية لغوية، إنما هو وصف واقعي يحاول أن يلمس واقع داعش و”قسد” على ماهو عليه بالفعل، وليس من باب التمنيات حقاً، وهو واقع لا يبعد كثيراً عن هذا التشبيه على أية حال، فإذا استثارت داعش فينا الدهشة فيما سبق، وهي تذبح الناس وتصورهم في فيديوهات في مباهاة وخُيّلاء واعتزاز بالجريمة والتوحش والبدائية، وإذا روَّعنا أن النموذج الداعشي يكاد لا يشبه شيئاً في بلادنا، ولا في تقاليدنا وثقافتنا، لا الحية الحاضرة ولا التراثية المطوية، فإن النموذج الـ”قسدي” ليس بأبعد مسافة من شقيقه النموذج الداعشي، رغم أن الفارق الجوهري الوحيد تقريباً الذي يفترقان فيه هو أن “قسد” تميل إلى مبدأ إخفاء الجريمة والتنصل منها، ومحاولة التفتيش عن أكباش فداء دوماً تُنيطُ بهم بواعث الجريمة ومسؤوليتها ومسبباتها، بينما تؤثر داعش الاعترافَ بها في كثيرٍ من الفخر والمباهاة، تماثلاً مع عادة المتورطين في جرائم الشرف، الذين يلوحون بأيديهم في قاعة المحكمة أمام الجمهور، كإنما ينشدون التصفيق والمديح على تلك “الجريمة الرائعة” التي أقدموا عليها.
تشبه “قسد” داعش في المقاربة، في كون هذه الأخيرة قد صنعت ظلالاً لإسلامٍ غريب عن مناخ المنطقة وتربتها، لا يشبه الإسلامَ إلا في خطوط وألوان تحاول رسم صورته بشكل سوريالي يفتقر إلى موهبة الرسم، ويجمع في لوحة واحدة بين الكابوس المخيف والكوميديا التهريجية، ويحشو مثله الفني الأعلى بالرموز بعد أن يفرغه من كل صلة له بجذر الواقع وسمت التاريخ المضطرد، والأمر نفسه اجترحته “قسد” حين حاولت أن تصنع بيئة مُتَصَوَّرة لإقليم كردي مغلق، ومناخ تخيلي لـ”إرادة كردية” فاعلة ومتحكمة بالسكان، داخل المجتمع الكردي والمجتمع العربي على حد سواء، لا يكاد يشبه أكرادنا ولاعربنا في شيء، إلا كما تشبه الشجرة في التشبيه، مثيلتها المرسومة في لوحة من شخابيط طفل في الخامسة من عمره يحاول أن يرسم صورة الشجرة..
الشبه الآخر الصميمي بين داعش و”قسد”، هو أن كلا الطرفين غير مهتمين البتة بالرأسمال الأخلاقي والمبدأي وشرف الضمير الذي يمكنه أن يخلف التجربتين فيما بعد ويحكم عليهما، وطالما أن المنتَج يكاد يكون من نفس المعمل، ومن خبرة ميكانيكية تكاد تكون متناظرة حتى في الضدية الشكلانية الحاصلة بينهما، وفي أن المهندس والممول والمُصَنِّع يكاد يكون هو نفسه، وله نفس بنية العقل المصمم الذي يستهلك خبرة إنتاجه في واحدية الصنعة، والتي تشبه قفزة حرة في فراغ خارج الإنسانية ودون الحضارة بمراحل، وفي نضوب كل فيض موهبة إبداعية في التجديد بين النموذجين.
أما الجزئية الوحيدة التي لا تشبه فيها “قسد” توأمها الداعشي، فهي الطاقة الذاتية.. فداعش لديها بحار من النصوص، وأوقيانوس من التاريخ، وجبال من الكلام واللغة والتجارب والخبرات التي تستقي منها، متى شاءت وأيان أرادت، فضلاً عن دول عظمى، مُمَوِّلة وسانِدة في السر والعلن، وأمبراطوريات عريقة الخبرة في التدخلات والاحتلالات، وعتيقة في الإجرام والإبادات، تندد بها علناً وتعضدُها في السر، دون أن تتورع أو تخشى نضوب هذا الفيض الذي يبسط لها مائدة شهية من ألذ فواكه الشُبُهات والأكاذيب والمختلِفات المتنوعة، ورَدْحٍ طويل من تاريخ بَنَى على التأويل أكثر مما بَنَى على التنزيل، واستقى مما يتغذى به من واسع المصلحة، أكثر مما ألزم نفسه بضيق المبدأ.. فضلاً عن تربة سكانية منهكة ومحاصَرة، أسلمتها قيادَها طوعاً أو كَرْهَاً دون كثير مراجعة. أما “قسد”، ففي أبعد درجات واقعها البائس والمؤسف، هي لا تملك تلك الطاقة والرأسمال المفتوح الذي تملكه داعش، كالشيك على بياض.. فهي مضطرة أن تلعب لعبة قمارها مع منطقة خطرة برأسمال محدود أوشك على النضوب واقترب من الإفلاس، ومكرهة على الدوس على لغم محتمل دون أن تملك خيارات كثيرة للتراجع والمناورة، في فضاء الجغرافية وطيف السكان الذين تتلاعب بهم بمنتهى الطيش والاستهتار تحت مسمى الإدارة الذاتية والكانتونات والحكومة المحلية والديمقراطية التي لا يُعرَف لها أشباهٌ في الديمقراطيات إلا لدى الوحوش الضارية في الغابات المعزولة.
الذي يسوقُ”قسد” سوقاً لتقاتل في قرية الكرامة والحمرات والاحوس ومطب البوراشد في ريف الرقة الشرقي، هي ذات الأحلام الوردية و”عصاب الاستسهال” الذي أغرى هتلر سابقاً ليسوق جيشه إلى ستالينغراد لكي يقبره هناك، وهو نفس عصاب الاستسهال الذي يغري داعشَ لكي تفتح روما عبر فتح معارك لامصير لها ولا منتهى في الباب وبزاعة وعين العرب واعزاز، ودون أن تدرك داعش و”قسد” أنه إنْ كان حقيقاً بأنَّ الأخذ يشبه لذة الجِماع، فإن العطاء يشبه أوجاع الولادة.. ودون أن يدرك الطرفان:”قسد” وداعش، أن حقيقة هذه الولادة لن تكون إلا سَخَاماً.. وموتاً زؤاماً. وقد لا تعلم داعش و”قسد” أن بين سيزيف والصخرة طرفاً ثالثاً، ورافعاً غير منظور، يُنَظِّم العذابات ويرفعها إلى مستوى مبادىء وشعارات يجب الاستمساك بها، وأن التاريخ يمضي، والصخرة سيوهنها التفتت، وسيزيف سوف تطويه أجيال من النسيان، والسوق سوف ينفض في النهاية.. لا يبقى منه إلا النتائج: ربح من ربح، وخسر من خسر .
اترك تعليقاً