قبل يومين، حدث جدل حاد في مواقع التواصل الاجتماعي بين مواطنين سوريين، حول خبرِ قصفِ طيران التحالف الدولي أحياءَ في الرقة بقنابل الفوسفور الأبيض المحرمة دوليًا، إن كان وقع هذا القصف أم لا. ولمّا كان يُفترض بالمجادلين المنقسمين إلى طرفين: طرف يؤكد حدوث الواقعة وآخر ينفيها، أن يقدم كل منهما ما لديه من أدلة تؤكد حدوث “الواقعة” أو تنفيها؛ فقد انحرف الجدل بعد قليل إلى مسألة رأي. ونُسي جوهر المسألة؛ وتحول النقاش إلى اتهامات بالنخبوية من قبل المؤكدين، وهم في مجملهم من أبناء الرقة، وبـ “الداعشية” من الآخرين.
المشككون بحدوث واقعة قصف الرقة بالفوسفور الأبيض استندوا إلى حقيقة أن الصور والفيديوهات المنشورة عن عمليات القصف صدرت عن وكالة (أعماق) التابعة لتنظيم (داعش)، بل رأوا هذه الصور والفيديوهات منحولة، إذ قالوا إنها لعمليات قصف قام بها طيران نظام الأسد أو الطيران الروسي لمناطق في إدلب؛ واحتجوا أيضًا بظهور هوائيات (أنتينات) تلتقط البث التلفزيون الأرضي في إحدى الصور، في حين أن تنظيم (داعش) كان قد منع صحون ومستقبلات البث عبر الأقمار الصناعية في مناطق سيطرته كافة، إضافة إلى أن التحالف لم يعلن استخدامه هذا النوع من الأسلحة.
بالمقابل، رأى القائلون بوقوع القصف أن مجرد إيراد خبر القصف بوسائل إعلام التنظيم لا يجعل من الخبر كذبًا ولا يجعل منهم أنصارًا له؛ وأن أخبارهم أكدها أقارب وأصدقاء من داخل الرقة؛ وأن ثمة فيديو غير ذاك الذي نشرته (أعماق) يُظهر القصف ويحمل صوت سيدة تتحدث بلهجة رقيِّة، كما أن وجود هوائيات للالتقاط البث الأرضي لا معنى له أساسًا إلا في الرقة، لأن تنظيم (داعش) كان قد أنشأ محطة تلفزيون أرضية (البيان) كانت تبث إرسالها من سيارات بث تلفزيوني متنقلة، وأن كثيرين في مناطق سيطرته نصبوا هوائيات لالتقاط بثها، بعد أن منع التنظيم صحون البث الفضائي، وفرض عقوبات شديدة على مستخدميها، وصلت حد الجلد في ما لو ضبط الشخص وقد نصب صحنًا وجهاز استقبال للمرة الثالثة. ثم إن الولايات المتحدة الأميركية سبق أن اعترفت باستخدامها اليورانيوم المنضب ضد تنظيم (داعش) في سورية والعراق، لكنها أقرت باستخدامها لهذا السلاح الملوث والمحظور، بعد أشهر عديدة من استخدامه.
لم تنته هذه المناظرة إلى نتيجة معقولة بطبيعة الحال، ختمتها اتهامات متبادلة مع بقاء كل طرف يدافع عن رأيه. إلّا أن الأنباء عن استخدام قوات التحالف الدولي -أو بالأحرى القوات الأميركية- الفوسفورَ الأبيض وردت من ناشطي المدينة في اليوم التالي والذي يليه، أي، مساء يوم أمس الأحد 11 أيار/مايو 2017. هذا الاستخدام المتكرر للسلاح المحظور يجري، حسب الأنباء الواردة من داخل الرقة، في أحياء طرفية (مفرق الجزرة وأطراف حي المشلب ومنطقة الفرقة السابعة عشرة شمال المدينة)، حيث حولها التنظيم إلى خطوط دفاع عن الرقة، والأغلب أنها خالية أو شبه خالية من السكان المدنيين. لكن هذا القصف بالفوسفور الأبيض يجري بالتزامن مع رمي غير مبرر عسكريًا بمدفعية الميدان على أحياء المدينة الداخلية والبعيدة كليًا عن خطوط القتال، قصف مدفعي تسبب في وقوع 23 مدني شهيدًا يوم الأحد، دون أن يُثير رفضًا أو تنديدًا من أي جهة، فضلًا عن إغلاق المدينة على سكانها كليًا، من جهاتها الأربع، ودون فتح ممر إنساني للراغبين بالخروج من جحيم القتال.
يُثير هذا الجدل ويستند إلى حقيقة موضوعية، مفادها أن تنظيم (داعش) يملك إعلامًا أحاديًا موجهًا، كما أنه لا يسمح بتاتًا بوجود إعلام مستقل، حاله في ذلك حال نظام الأسد طوال فترة الثورة والميليشيات الكردية بعد تحولها إلى قوة فاعلة على الأرض، خلال السنوات الثلاث الأخيرة. كما لا يسمح التنظيم لأي مواطن باستخدام هاتفه المحمول في تصوير ما يجري، إضافة إلى تحكمه ومراقبته المشددة لبضعة مقاهي إنترنت يديرها مقربون منه، فضلًا عن العقوبات القاسية التي أنزلها بعشرات من أبناء الرقة، ممن سعوا إلى توثيق ونقل ما يجري لأهلها، خلال سنوات حكم (داعش).
هذا الحصار الذي فرضه التنظيم على الصورة والخبر والمعلومة يفسر جزءًا من الجدل حول واقعة الفوسفور الأبيض، لكنه لا يستنفدها كاملة. ثمة جزء آخر أعمق وأعقد يجعل “واقعة” مؤكدة، لا تقف عند حد استخدام الفوسفور الأبيض بل تتعداها إلى تدمير ممنهج للمدينة وتفريغها وقراها من سكانها ثم جمعهم في معسكرات اعتقال بطريقة مذلة ومهينة، مسألة رأي قابلة للأخذ والرد والذائقة الشخصية فيما يُصدق وما لا يُصدق: إنها صورة الرقة والرقيين في أذهان معظم السوريين وربما كل ما سوى السوريين. الرقة، حالها حال دير الزور والشطر الأكبر من محافظتي الحسكة وحلب، منطقة يسكنها حسب التسميات السورية الدارجة “الشوايا”، هذا المصطلح يعني، من ضمن ما يعنيه، العربَ السنة الريفيين ذوي التركيبة العشائرية والقاطنين في أشد مناطق سورية فقرًا وتهميشًا مع ارتفاع معدلات الإنجاب والبطالة الفعلية، وانخفاض مستوى الدخل الفردي وانخفاض مستوى التعليم.
ومع أن مناطقهم تحوي معظم الموارد الطبيعية اللازمة للصناعات والتصدير، فإنهم مُبعدون عن المشاركة الاقتصادية ومُقصون عن التصنيع، طوال فترة ما بعد الاستقلال. توسعًا، الجزيرة السورية وريف حلب، كانت مستعمرات داخلية ضمن بنية الاقتصاد السوري طوال العقود اللاحقة لاستقلال سورية. إهمال واستغلال للموارد بطريقة غير رشيدة وتمييز لصالح المقربين من مراكز النفوذ والسلطة زادت من حدة المشكلات داخل العرب السنة (الشوايا) كما فاقم من مشاعر السخط والمرارة تجاه السلطة المركزية؛ وهذا بالذات ما سعى (داعش) إلى استثماره، وتحويله إلى قوة سياسية لمشروعه.
تطابق توسع تنظيم (داعش) في سورية مع مناطق انتشار العرب السنة (الشوايا)، وصورة العرب السنة (الشوايا) طابقت في إذهان كثير من السوريين صورة (داعش) التي روجها إعلامه عن جبروته وقسوته وفظاظته، ليحول نفسه، ليحول العرب السنة (الشوايا) إلى مجموعة بشرية لا يمكن التعاطف معها ولا بدّ من تدميرها لتدمير (داعش). إعلام النظام وإعلام الميليشيات الكردية بدوره ضخم من بشاعة صورة (داعش) بتقديمه صورة مدروسة تشمل كل التفاصيل التي يبحث عنها الغرب في شركائه، صورة مصنوعة ومزيفة، لكنها صورة حسب طلب سوق الأقوياء، هذا ما فعله الإعلام العربي والعالمي أيضًا بتصويره الرقة “معقلًا” و”عاصمة” لتنظيم (داعش).
انخفاض عتبة التعاطف مع (الشوايا) لأنهم (دواعش) بصورة تلقائية وعدم تصديق روايتهم بأنهم يُقصفون بالفوسفور الأبيض، يجعل منهم مادة لفعل الفاعلين دون رادع ودون شفقة ودون تفهم حتى من باقي أبناء وطنهم. تتطابق مأساة العرب السنة (الشوايا) هذه مع مأساة الفلسطينيين، قبل نحو سبعين عامًا، عندما قُتلوا بوحشية وطُردوا من ديارهم لأن طاردهم كان موافقًا لمعايير الأقوى آنذاك واليوم. منذ ذاك وحتى اليوم تجد من العرب مَنْ يحمل الفلسطينيين، الضحايا، مسؤولية ما جرى لهم. واليوم تجد من السوريين من يحمّل “الشوايا” مسؤولية ما يجري لهم: الأميركيون لم يقصفوا مدينتهم بالفوسفور الأبيض، إن فعلوا لا يمكننا التعاطف معهم، أليسوا (دواعش)؟!
جيرون
اترك تعليقاً