يوسف دعيس
من فوق جسـر الرقة سـلّم عليّ بيدو
ماقدرت أرد السلام خاف يقولون تريدو
قُدر للرقة أن تكون عاصمة الرشيد، وأن تتحول أيامها إلى أيام العروس، وقُدر للرقة أن تُدمر على أيدي المغول في القرن الثالث عشر، وقُدر للرقة أن يُعاد بناؤها في القرن التاسع عشر، وقُدر للرقة أيضاً أن تظل على مدى سنوات طوال مدينة مهمشة ومنسية، ورغم كل شيء قُدر للرقة أن يخرج من أصلابها رجال عظام سجلّوا أسماءهم بأحرف من نور..
وكما كانت الرقة فيما مضى خير منازل الدنيا الأربعة، كما قال عنها الرشيد: “الدنيا أربعة منازل: دمشق والري وسمرقند والرقة”، حاولت في منتصف القرن العشرين أن تعود إلى ألقها مرّة ثانية، وأن تنهض من سباتها وتهميشها بجهود أعلامها في الفكر والسياسة والأدب، فما زالت أسماء عبد السلام العجيلي، وحامد الخوجة، وفيصل البليبل، ومصطفى الحسون، ورجال العشائر الوطنيين تقتحم الذاكرة دون استئذان، وتؤسس لمكانة عظيمة على مرِّ العصور.
استطاعت الرقة خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين أن تكون عاصمة مرة ثانية، لكن هذه المرة في الأدب، فأُطلق عليها عاصمة القصة السورية، وفي العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين قُيض للرقة أن تكون عاصمة مرتين، الأولى عاصمة التحرير في عام 2013 والثانية في غرّة العام 2014 عندما جلبوا البؤس إليها، حينما تم إعلانها عاصمة للدولة الإسلامية “داعش”.
في سنوات الثورة السورية جرى تحطيم أحلامها وإرادتها في الحرية والكرامة، أولاً عندما تخلّت عنها أركان المعارضة وأصدقاء الشعب السوري، فتركوها نهباً للغربان، ثم استحال ربيعها إلى خراب أسود.
الرقة اليوم، التي جرى تضخيمها وشيطنتها على أيدي جلاوزة هذا العصر، منذورة للخراب والدمار على مستوى البشر والشجر والحجر، والرقة ليست حكاية جسر تهدم، وليست حكاية نهر تعمد بالأحمر القاني، وليست مجرد مدينة اتشحت بالسواد كما اختار لها العالم هذا اللون من دون الألوان الأخرى، بل هي كل الحكاية، هي النهر والحياة، هي الزرع والضرع، الطيبة والألفة، الزيزفون والصفصاف، القمح والزيتون، هي سمرة الأرض والسواعد والجباه، توتول والرافقة والرشيد والرصافة وقلعة جعبر، هي سرّة الكون، فاخلعوا نعالكم عندما تدخلوها، ولا تدنسوا طهرها، ولا تعمدوا جدرانها بالدم.
اترك تعليقاً