مازن حسون
تعودُ معالم الحياة تدريجياً إلى مدينة الرقة السورية، بعد مضي نحو نصف سنة على طرد داعش منها على يد قوات سوريا الديموقراطية المدعومة من التحالف الدولي، عقبَ معارك دامت قرابة خمسة أشهر. وقد خرج عناصر التنظيم من المدينة مع عائلاتهم إلى ريف دير الزور شرق سوريا، بعد اتفاقٍ مع قسد بوساطة عشائرية، وبلغ عدد الخارجين بموجب هذا الاتفاق نحو 4000 شخص، حسب ما جاء في تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية.
غادر التنظيم تاركاً خلفه أنقاضَ مدينة نتيجة السيارات المفخخة وغارات التحالف الجوّية، إذ سوّيت الرقة بالأرض، وبلغ حجم الدمار فيها نحو 70% بحسب الأمم المتحدة. في حين وثّق ناشطو حملة الرقة تذبح بصمت مقتل أكثر من 1800 مدني، إلى جانب آلاف الجرحى ومئات آلاف النازحين.
على الرغم من الوضع المتردي الذي تعيشه المدينة بسبب الألغام الأرضية التي تنتشر بكثافة في منازل المدنيين، والضرر الهائل الذي أصاب البنية التحتية للمدينة وضعف الخدمات الأساسية فيها، فقد عاد نحو مائة ألف مدني إلى الرقة، بحسب فريق الأمم المتحدة الذي دخل إلى الرقة مطلع شهر نيسان الجاري لأول مرة منذ طرد داعش منها. ومن المتوقع عودة المزيد من العائلات إلى الرقة في الأشهر المقبلة، في حين لا تزال بعض المخيمات في الريف الشمالي والشرقي تستضيف نازحين من المدينة، مثل مخيم عين عيسى ومخيم بالقرب من حي الجزرة غربي الرقة.
على المستوى الصحي، تعاني الرقة نقصاً حادّاً في العناية الطبية. فقد أدّت غارات التحالف الدولي إلى تدمير معظم مشافي المدينة وإخراج ما تبقى عن الخدمة، فضلاً عن نهب التجهيزات الطبية التي لم تُصَب بأذى بعد سيطرة قسد على المدينة. إلا أنّ منظمة أطباء بلا حدود قامت مؤخراً بافتتاح مستوصف طبّي في حي المشلب شرقي الرقة، يقتصر على تقديم الإسعافات الأولية وبعض العناية الطبية البسيطة، وتعمل على إعادة تأهيل مستشفى الطب الحديث، فيما يتمّ نقل الحالات الطبيّة الصعبة إلى مستشفى تل أبيض أو إلى مدينة عين العرب (كوباني). كذلك تمّ افتتاح مستشفى دار الشفاء ومستشفى المشهداني في المدينة مؤخراً، ولكنّهما من مستشفيات القطاع الخاص.
أما عن الجانب التعليمي، فقد أعلنت منظمة نما عن افتتاح مدرسة الكواكبي لتعليم طلاب المرحلة الابتدائية. وتتكفل المنظمة بتوفير كافة المستلزمات من حقائب وغيرها للطلاب الراغبين بالالتحاق بالفصل الدراسي، في حين سيتم اعتماد مناهج وزارة التربية . ذلك بالإضافة إلى افتتاح مدارس أخرى مثل مدرسة هوّاري من قبل منظمات دولية. ويعدُّ الجانب التعليمي من أهم الجوانب الحياتية المتدهورة في الرقة منذ سنوات، إذ توقفت العملية التعليمية منذ سيطرة تنظيم داعش على المدينة قبل نحو أربع سنوات، وامتنع معظم الأهالي عن إرسال أطفالهم إلى المدارس التي كان يشرف عليها التنظيم.
ويعيق الركامُ المنتشرُ في جميع شوارع وأزقة الرقة عودة المزيد من السكان إليها، وتعمل منظمة فريق التدخل المبكر بالتعاون مع مجلس الرقة المدني على إزالة الركام والأنقاض وفتح الطرقات، إلا أنّ العملية لا تزال تسير بوتيرة بطيئة مقارنة مع حجم الدمار الهائل هناك، إلى جانب أنَّ أعداداً كبيرة من الجثث لا تزال تحت الأنقاض. وتتولّى منظمتا ماك (British Mines Advisory Group MAG) وتيترا تيك (Tetra Tech) الأجنبيتين مهمة تفكيك الألغام، إلى جانب منظمة روج المحليّة، التي تتقاضى مبالغ تصل إلى 70 ألف ليرة سوريا لقاء القيام بعملها.
يقول محمد العبيد مدير فريق التدخل المبكر للجمهورية: «أولويتنا هي إعادة المياه للمدينة، إذ يقوم فريقنا بإعداد مشاريع لصيانة شبكة المياه، وقد عادت المياه بالفعل إلى بعض الأحياء، في حين لا نملك أي خطة لصيانة شبكة الكهرباء في الوقت الحالي». ولا تزال الكهرباء مقطوعة بشكل كامل عن المدينة، ما يدفع الأهالي لشرائها عبر تمديد خطوط كهرباء موصولة إلى مولدات خاصة.
إلى جانب كلّ ذلك، تعاني الرقة اليوم من انتشار واسع لعمليات السرقة والنهب تقوم بها عصابات مسلّحة، إذ تتم سرقة منازل المدنيين ونهب الخالي من سكانه منها، فضلاً عن سرقة المحالات التجارية، وسط تجاهلٍ واضحٍ من قبل قسد وقوات الأسايش والاستخبارات الكردية المسيطرة على المدينة. يقول محمد عثمان للجمهورية، وهو ناشط سوري يعمل على مجال توثيق الانتهاكات في الرقة: «أغلب عمليات السرقة والنهب تجري ليلاً، حيث لا تزال قسد تفرض حظراً للتجوال بعد الساعة العاشرة مساءً. ويقوم اللصوص بنهب محتويات المنازل وسرقة ما يجدونه من ممتلكات». ويضيف العثمان: «يتمّ إطلاق سراح اللصوص دائماً بعد يوم من القبض عليهم، بحجة عدم توفر الأدلة ضدهم على الرغم من تقديم شكاوى بحقهم من قبل الأهالي».
علاوة على ذلك، بدأت عمليات الخطف تنتشر في كامل محافظة الرقة من قبل مليشيات مجهولة، وطلب فديات مالية. على سبيل المثال، تمّ اختطاف الحاج أزهر، مالك مطعم ومعجنات الفاخر الشهير في المدينة، وطلب فدية مالية من ذويه وصلت إلى عشرة آلاف دولار لقاء إطلاق سراحه. وأيضاً تمّ اختطاف الشاب عبيدة التركي من قبل مليشيا مسلحة اقتادته إلى مدينة منبج، وطالبت ذويه بدفع فدية.
انفلاتٌ أمني وأوضاع سيئة تعيشها الرقة اليوم بعد «تحريرها» من داعش، ويبدو واضحاً أن التحالف الدولي وسلطة الأمر الواقع، كما يسمّيها سكان الرقة، قد فَشِلَتا في وضع خطّة لإدارة المدينة بشكل ناجح، وإنهاء الأزمات التي تعانيها اليوم، بالإضافة إلى فشل المجلس المدني التابع لقسد في وضع خطط لعملية إعادة الإعمار المدينة، التي تبدو اليوم ركاماً أو ذكرى مدينة.
لا يبدو مصير الرقة واضحاً، إذ يستمر صراع القوى الإقليمية والدولية وحلفائها المحليين على كسب المزيد من المناطق، وهو الصراع الذي قد تكون الرقة إحدى محطاته القادمة. وعلى الرغم من ذلك، لا يجد الأهالي خياراً سوى العودة إلى الركام، ومحاولة البدء من جديد، وانتظار المستقبل المجهول المقبل على المدينة.
الجمهورية
اترك تعليقاً