عاد قرار مجلس الأمن 2254 بتواتر إلى التداولات السياسية بشأن سوريا في الآونة الأخيرة، سواء في البيانات الصادرة عن الاجتماعات العربية في جدة وعمّان في سياق التطبيع مع نظام الأسد، أو التصريحات الأمريكية والأوروبية بشأن رفض هذا التطبيع قبل المضي في الحل السياسي أو إحراز تقدم ملموس فيه. وذلك بعدما كاد يغيب عن المشهد في السنوات الأخيرة التي أفلس فيها مسار المفاوضات في جنيف لمصلحة مسارات بديلة في أستانا وسوتشي بقيادة روسية ومشاركة إيرانية وتركية وغياب أمريكي وأوروبي.
روسيا والنظام السوري وإيران تصرفوا وكأن القرار المذكور قد تم طيه تحت وطأة ما ظنوا أنه انتصار ميداني تحقق للنظام بفضل الخطة الروسية بشأن «مناطق خفض التصعيد» التي استعاد النظام وحلفاؤه بموجبها مساحات واسعة من المناطق التي خرجت عن سيطرته، وفسروا الانكفاء الأمريكي عن المسارات السياسية على أنه موافقة على نتائجها، أي تثبيت نظام الأسد وإنهاء «الأزمة» بهذه الطريقة. غير أن الفشل الذريع في قطف ثمار «النصر» المزعوم وضع روسيا وإيران وتابعهما السوري في ورطة عدم القدرة على المضي قدماً، في الوقت الذي يحتاجون فيه إلى تصديق دولي على مشروعهم من خلال إنهاء الوجود العسكري الأمريكي والتركي والقضاء على بقايا التمرد العسكري في إدلب وريف حلب وشرقي الفرات، والبدء بإعادة إعمار ما دمروه خلال الحرب وضخ الاستثمارات في الاقتصاد المنهار. حتى الهدف المتمثل في القضاء على هيئة تحرير الشام المصنفة على قوائم الإرهاب لدى جميع الأطراف، عجزوا عن تحقيقه بسبب الرفض التركي والأمريكي، كما عجز النظام عن احتواء قوات سوريا الديمقراطية المحمية أمريكياً لسحب الذرائع من يد تركيا وإجبارها على إخراج قواتها من الأراضي السورية.
حتى القبول المفترض للنظام وحلفائه بـ«الانتقال السياسي» وفقاً للقرار 2254، لا يعني انتهاء النظام بصورة أوتوماتيكية كما يفترض المتفائلون بالمبادرة العربية، بل بداية مرحلة جديدة من المأساة السورية
وتصرف النظام مرة أخرى بعنجهية المنتصر حين بادرت السعودية ودول عربية أخرى للتطبيع معه وتمت إعادته إلى الجامعة العربية ودعوة رأس النظام لحضور اجتماع القمة في جدة، معتبراً ذلك رضوخاً من تلك الدول أمام «صموده» بل معتبراً قبوله بهذا الحضور تنازلاً قدمه لتلك الدول في إطار سياسة خطوة مقابل خطوة، وعاد إلى دمشق بانتظار الخطوة المقابلة، بعدما لقّن المشاركين في القمة درساً في «عدم التدخل في شؤونه الداخلية»!
من جهة أخرى ثمة في الرأي العام السوري المعارض أصوات متفائلة تقرأ في مسارات التطبيع العربية والتركية مع النظام خطوة إيجابية على الطريق نحو طي صفحة نظام الأسد والبدء بمرحلة انتقالية في إطار قرار مجلس الأمن 2254 الذي ينص على «الانتقال السياسي» أو بعبارة أخرى «جراً» للنظام إلى فخ القبول بهذا الانتقال من خلال إغرائه بالمساعدة على حل أزمته الاقتصادية. في حين يتوجس النظام من أي ذكر للحل السياسي ناهيكم عن الانتقال السياسي.
أدى تغير موازين القوى منذ عودة النظام إلى حلب الشرقية إلى تغيّر موازٍ في موقف البيئة المعارضة من قرار مجلس الأمن المشار إليه، من الرفض بدعوى أنه لا يحقق أهداف الثورة التي يأتي في مقدمتها هدف إسقاط النظام، إلى التعايش معه في إطار مفاوضات جنيف، وصولاً إلى اعتباره طوق النجاة الأخير من الهزيمة الشاملة.
والحال أنه الحاجة تدعو اليوم إلى إعادة قراءة القرار المذكور للتذكير بغموض محتواه وقابليته لأكثر من تفسير وفق حاجة مختلف الأطراف، الأمر الذي شكّل السبب الأساسي لخيبة أمل المعارضين بشأنه. فالقرار الذي يحيل إلى بيان جنيف الأممي الصادر في العام 2012 ينص على تشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات بالتوافق بين النظام والمعارضة. كان ذلك البيان قد صدر في لحظة توافق نادرة بين القوى الدولية لن تتكرر إلا مرة واحدة في أواخر العام 2015 حين تم الاتفاق على قرار مجلس الأمن. في اللحظة الأولى كانت المعارضة تنظر إلى سقوط النظام على أنه مسألة وقت لن يطول، فكان مفهوماً أن ترفض بيان جنيف الذي يبقي على النظام مع إدخال المعارضة شريكة له في الحكم. أما في اللحظة الثانية فلم يكن قد مضى على التدخل العسكري الروسي إلا أقل من ثلاثة أشهر، ذلك التدخل الذي جاء إنقاذاً للنظام من سقوط محتم على ما ساد الاعتقاد في الدوائر الدولية، وهو ما جعل واشنطن توافق ضمناً على التدخل الروسي لأنها لا تريد سقوطاً للنظام تحت هجمات المنظمات المسلحة الإسلامية، بعدما أقامت داعش دولتها على مساحات واسعة شمال شرق سوريا وأخرى في العراق، وسيطرت فصائل أخرى، بينها فصائل سلفية جهادية على محافظة إدلب بالكامل أواخر صيف ذلك العام، في الوقت الذي كانت قذائف جيش الإسلام وفصائل إسلامية أخرى تسقط على قلب العاصمة دمشق.
الآن وقد عاد الحديث مجدداً عن ضرورة الوصول إلى حل سياسي وفقاً لقرار مجلس الأمن 2254، لنفترض جدلاً أن النظام أرغم على الموافقة على الانخراط في التسوية السياسية وفقاً للقرار المذكور، فما الذي سيحدث؟
سيكون على النظام والمعارضة الدخول في مفاوضات مباشرة لتشكيل هيئة حكم انتقالية كاملة الصلاحيات بالتوافق بين الطرفين. فهل هذا ممكن؟ لقد رأينا تمريناً معبراً على ما يمكن أن يحدث في هذا الإطار، في اجتماعات اللجنة الدستورية التي كانت بالأصل التفافاً روسياً على بند تشكيل هيئة الحكم الانتقالية لإبعاده وإضاعة الوقت بمماحكات النظام وتعطيله لتلك الاجتماعات التي مضت سنوات على إطلاقها من غير أن تؤدي إلى أي تقدم، وتوقفت أخيراً بعد بداية الحرب الروسية على أوكرانيا. يحق لنا الافتراض بأن النظام قد يتلاعب باجتماعات تشكيل هيئة الحكم سنوات إضافية بلا طائل. وفي غضون ذلك يستطيع، مع ظهيره الروسي، أن يشكّل «معارضة» على مقاسه «مقبولة» من طرفه للمشاركة في الحكم على أمل أن تستسلم القوى الدولية المناوئة له وتقبل بأي تسوية من هذا النوع.
الخلاصة أنه حتى القبول المفترض للنظام وحلفائه بـ«الانتقال السياسي» وفقاً للقرار 2254، لا يعني انتهاء النظام بصورة أوتوماتيكية كما يفترض المتفائلون بالمبادرة العربية، بل بداية مرحلة جديدة من المأساة السورية، وإن كان مجرد إخراج بشار الأسد شخصياً من السلطة إنجازاً لا بأس به… إذا تحقق.
القدس العربي
اترك تعليقاً