Views: 142 بين مجزرة خان شيخون وضربة مطار الشعيرات – الرقة بوست-Raqqa Post

بين مجزرة خان شيخون وضربة مطار الشعيرات

رئيس التحرير 

((الحجرُ الذي رَفَضَهُ البنَّاؤون قد صار رأسَ الزاوية)) داود، سفر المزاميرـ 118: 22

حاولت الضربة الأميركية الأخيرة التي استهدفت قاعدة طيران الشعيرات أن تَنْحِتَ رمزية سياسية من خلال الرد بالضربة على مجزرة خان شيخون، التي ارتكبها النظام باستخدام غازالسارين القاتل، والتي لم تسبِقْها إلا بأيام فاصلة متقاربة؛ ولقد أوصلت هذه الضربة رسائلَ الرئيس الأمريكي الجديد “دونالد ترامب” إلى العالم أجمع: أولُ هذه الرسائل أن أمريكا لم تتخلَّ عن الملف السوري، وهي ليست ببعيدة المسافة أو الاهتمام كما كان يُظَنُّ توهماً، وثانيها أن قبضة أمريكا الثقيلة لا تشبه قبضة روسيا إذا اقتضى الأمر، بل ولا يمكن حتى أن تُقارنَ بها، وثالثُها أن على روسيا أن تعيد التفكير في موقفها جيداً من نظامٍ أسرف في الخروج على التاريخ وعلى المجتمع الأممي إلى درجة غير مسبوقة، وأسس لجنون القتل الجماعي في القرن الواحد والعشرين، قبل أن يتمَّ بيعُ استحقاقِها و”استمتاعها”بفيتو مجلس الأمن في سوق الخردة، وأنها إذا لم تبدأ تلك المراجعة لموقفها من النظام، فإنها ستتخلف كثيراً عن مواكبة الحدث وعن أي دور مستقبلي لها في رسم الشكل الأخير لهذه المنطقة المتفجرة، والتي تشظت وصدَّعت رؤوساً كثيرة. أما رابُعُها وأهمُّها برأيي، فهي أن ماحسبته إيران تأسيساً لنفوذها عبر عقود سابقة، سيُبدَأ بعد اليوم في التحضير للإطاحة بها وبه، وأن سُبلَ تصحيح المسارات أو تجميلها قد تجاوزه الزمن، ولم يعد بالإمكان إرجاع عجلة الحاضر إلى الوراء، أو الاعتذار عن سلسلة جرائم كونية، لا ديَّة ناسخة لها، ولاغفران ولاكفارة..

إن حقبة أوباما التي رافقت عمر المأساة السورية لسبعِ سنواتٍ عجاف، والتي لم تستفد منها روسيا وإيران في حصد نتائج الحرب لصالح النظام بصورة حاسمة، كما لم تستفد منها في المقابل تركيا والدول العربية، في حصد نتيجة لصالح الشعب السوري والثورة السورية، قد أحدثت فواتاً تاريخياً وخلخلة بيِّنة في مواقع كل الأطراف؛ الأمر الذي سيملي على معظم تلك الأطراف في المستقبل أن تتقبل نتائج قطارها الذي فات وتجاوزه الحدث واللحظة، وأن تُسَلِّم أو تستسلم، راضيةً أو صاغرة، لدورها المحدود والوظيفي داخل الاستراتيجية الأميركية البعيدة ومن خلالها؛ وربما كانت إيران هي الاستثناء الوحيد في هذا الدورالوظيفي للمنظومة الإقليمية، في خروجها من سوريا نهائياً، وتزامن سقوط نفوذها مع سقوط نظام الأسد الذي لا أتوقع أن يمتدَّ عُمراً زيادة عن هذا العام.

هل هناك صلة غير مقروءة سياسياً بين حادثة استخدام غاز السارين من قبل النظام الفاشي، ضد مدنيين أبرياء في بلدة خان شيخون، وبين الضربة الأميركية الأخيرة التي استهدفت النظام مباشرة بقصفها لمطارالشعيرات؟

رتابة قراءات الأحداث في سوريا فرضت علينا استعداداً مسبقاً لتقبل صورة نمطية عما يجري؛ فالمجزرة مثلاً لا تخرج عن كونها واحدة من عشرات المجازر التي نفذها النظام ضد الشعب السوري، وليس في هذا أي جديد يمكن أن يضيف إلى ماقيل سابقاً عن مجازر مشابهة، وعن نزعة النظام للقتل وشراهته الإجرامية الاستثنائية في فيض جموحه الوحشي، والذي يصل إلى حدِّ الإجرام المجاني الذي تقف كل أدوات المنطق الممكنة عاجزة حيال فهمه أو تبريره.. شأنها في ذلك شأن الحدث العسكري النوعي الذي أقدمت عليه الولايات المتحدة مؤخراً في استهداف مطار الشعيرات العسكري، والذي لا يرقى، كحدث عام له سوابق إسرائيلية مماثلة، للمراهنة عليه سياسياً بأكثر من تهيئة لواقع جديد، سوف تُتْبَعُ بخطوات أخرى لا يمكن الرهانُ أو الحكم عليها مسبقاً تحت أي ظرفٍ كان..

واقعياً يمكن تسجيل الموقف الأمريكي كأول موقف رسمي يستهدف النظام المجرم، ليس خلال عمر الثورة الفائت؛ بل خلال حقبة الأسدين الأب والابن، ولأول مرة تدعو الولايات المتحدة على لسان رئيسها إلى تشكيل تحالف دولي يهدف للإطاحة بالأسد واعتباره مجرم حرب.. هذا بحد ذاته مُستَحدَث القضية وجديدُها، وما التلبث عند حسابات: كم قتلت طائرات التحالف من المدنيين السوريين، وكم نَجَمَ من أضرار الضربة الأخيرة على مطار الشعيرات، سوى مقارنة غير سياسية لا طائل من ورائها البتة. ويصح في هذه المقارنة القول بأن مأساة العقل الثنائي الذي لا يستطيع أن يُحاكم وأن يحكم، إلا من خلال الشيء مُقاساً على أضداده بأنه عقل ذاتوي ونسبي، مركزُهُ عاطفة إنسانية تقع خارج الوعي، كمن لا يرى الضوء إلا من خلال وجود الظلام، ولا يستطيع تحسس مساحة الظلام إلا مقروناً بالضوء إلى جانبه.. عقل الذات قد يتقاطع مع عقل الموضوع، لكنه قطعاً لا يحلُّ محلَّه ولا يعوض وظائفه ولا يعمل عمله.

علينا إذن أن نكون أكثر وضوحاً وحسماً بشأن الضربة الأميركية الأخيرة لمطار الشعيرات، لأن العقل السياسي كلّي في آليات التفكير، لا يقبل التجزئة والقسمة على عواطف واسترجاعات أولاً، ولأنه يقع داخل المنفعة المباشرة المحكومة بمبدأيْ الخطأ والصواب، وخارج الأخلاق المباشرة المحكومة بمبدأيْ الحسن والقبيح، أما الإصرار على توظيفها توظيفاً قياسياً، ومقارنتها بالهجمات التي زُعم أنها استهدفت داعش وطالت مدنيين سوريين أبرياء، في عدد من حالات استهداف طيران التحالف لمدنيين، فهو موقف لاجدوى منه ولا مستقبل له في أية محصلة سياسية مسؤولة، مع الاحتفاظ بحق أي سوري في أن يغضب، وأن يهتف بماشاء له الغضب.

بقي أن نؤكد في وثوق تام، بأن دماء شهداء الثورة السورية التي انداحت غزيرة عبر سنواتٍ مضت، ولم يتوقف نزيفها حتى اللحظة، والتي ظلت خلال سنوات خلت يُنظَرُ إليها كتضحية مجانية بلا جدوى، ودماء مطلولة في سفوح العبث لا ناصر لها ولا أولياء دم، وهدر عذابات ومعاناة للسوريين، أنكرته ولفظته كل محافل السياسة ودوائرها، ورفضت أن تقيم لها وزناً في أية مفاوضات أو تسوية أو قرار يتصل بالشأن السوري؛ هذه الدماء كما أعتقد اليوم، باتت وحدها المرشحة لتحْكُمَ المقدمات والنتائج في المستقبل القريب، ولسوف تُحاكم وتدين، ولن تذهب سُدى.. هذا قانون مؤكد.. سوف تفصل فيه الأحداث القريبة، وبالوسع استشرافُه منذ اللحظة.. حتى ليصح القول بأن نردد قول النبي داود:(الحجر الذي رفضَهُ البناؤون قد صار رأسَ الزاوية) ـ سفر المزاميرـ 118: 22


Posted

in

by

Tags:

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »