Views: 533 بين نازح وضيف… أريد أن أكون لاجئًا ! – الرقة بوست-Raqqa Post

بين نازح وضيف… أريد أن أكون لاجئًا !

يبقى “الضيف” متأرجحاً بين الطبقتين، يراوح مكانه، مدفوعاً للاستمرار بغريزة البقاء وحدها، يصارع المؤجر، والمدرّس، والساسة، وحتى البقال، ويبذل جهوداً مضاعفة تفوق طاقاته في محاولة بائسة لإثبات جدارته أمام مضيفيه، محتفظاً برغبة دفينة في أن يترقّى الى مرتبة “اللاجئ” يوماً ما.

من المؤكد أنني وكثيرين مثلي، لم نفقه المعنى الحقيقي لمفردتي “نازح أو ضيف”، إلا حين أُطلقت إحداهما علينا… فكانت رصاصة بطيئة، وصرنا شيئاً فشيئاً نعاني من نزف تلك الإصابة وتبعياتها القانونية والحياتية. فمع اجتياز أولنا الحدود السورية – اللبنانية، أصر سياسيو هذه البلاد، الذين كنا وما زلنا نقتسم معهم الجينات والتاريخ والجغرافيا، على إطلاق صفة “النازح” على الباحثين عن النجاة. في البدء، أوحت تلك المفردة بأن حاملها ما زال ضمن حدود وطنه.

أخذت التبعيات السيئة لصفة “نازح” تظهر لاحقاً، فحقوق من نزح ليست كحقوق من لجأ، وهذا ما يسطع اليوم كشمس حارقة على جلود النازحين، فلا هم مشمولون بقوانين اللجوء العالمية، وليس بإمكانهم العودة إلى ظل مطرقة القاتل. لا هم قادرون على التقدم ولا التراجع؛ فالبحر من أمامهم، وضغط الساسة من خلفهم، الجزار عن يمينهم والأوضاع الاقتصادية عن شمالهم. فقط بإمكانهم حمل جميع النوائب التي تتعرض لها تلك البلاد على أكتافهم، والمكوث في منزل أو خيمة خوفًا من خروج قد يودي بهم إلى الحتف المؤكد، أو ركوبهم البحر بنسبة نجاة لا تتجاوز عدد أصابع الكف.

ومثلما هي الحال هناك، أعيشه هنا، في تركيا، ما عدا أنني أحمل صفة وقعها أقل وطأة على السامع، فأنا الضيف الذي تجاوزت مدة استضافته الأربعين يوماً بكثير، وعلى عكس المقولة، لم أصبح من أهل البيت، بل صرت عالة على ساكنيه، على الرغم من كوني “غريباً وأديباً”. فأنا الجالب للمتاعب الاقتصادية والكوارث الطبيعية وغير الطبيعية، أنا الخائن في الماضي، والسبب في مستقبل معتم، وأنا من يوجه الحاضر إلى الهاوية.

ولأنني لا أخرج إلا للضرورة، وبين حين وحين، أُطرق رأسي أرضاً وأتحاشى المارة، وكأنني أحمل وباءً معدياً، يمكن أن ينتقل عبر النظر أيضاً. أتحاشى النقاط الأمنية والحواجز، كما لو أني لم أنتقل عن الخريطة شبراً، أتحاشى الحديث بلغتي الأم، خوفاً من نزولها على مسامع الآخرين كداء يهيج أعصابهم التي لا أريد لها إلا أن تبقى هادئة. وأخيراً، أتحاشى الكتابة والتعبير خوفاً من ترجمة خاطئة أو صحيحة، تركلني إلى ضفة وطني المتوحش.

ومع ذلك، فالمصائب لا تتوانى عن طرق بابي بلا هوادة. فمن بين ما يحصل دائماً، وآخره، ها هي ابنتي التي لم تجتز سن الطفولة، تضعني اليوم بين خيارين أحلاهما علقم، فإما أن تترك المدرسة التي تتعرض فيها لمضايقات من أقرانها “كونها سورية”، وإما العودة إلى سوريا “الوطن” الذي كشر عن أنيابه منذ الصرخة الأولى لابنتي. لا يهم إن سردت ما يحصل لي ولمن هم على شاكلتي؛ فمعظمكم يعرف تلك الحوادث، أو سمع عنها على الأقل. ولن أكرر أنكم أحرار في ما تربون أطفالكم عليه، لن يقدم أو يؤخر إن أخرجتم جيلًا عنصرياً بامتياز، فهذا في النهاية سيرد إليكم. لكن أريد أن تعلموا أنه لم يكن خياراً بالنسبة إلي أن أحلّ ضيفاً عليكم. لم يكن الابتعاد من مسقط رأسي فكرة موجودة في خاطري بالأصل. ليست لدي رغبة مسبقة أو حالية لأقاسمكم وجبة عشائكم، ولا التسكع على أرصفتكم، ولا حتى أن أُسمعكم صوتي. كل ما في الأمر أنني طلبت حياة كريمة وعادلة، وهذا ما لم يعجب حاكمي؛ فراحت مطرقته تنهال على رأسي طرقاً مميتاً؛ فاتجهت نحو أول قبلة لاحت لي النجاة في أفقها، وسامحوني كون تلك القبلة كانت باتجاهكم.

لقد تحولنا من شوقنا إلى أن نكون مواطنين في دولتنا، ليصبح جلّ همنا أن نكون لاجئين في تلك الدول، نتمتع بأدنى مقومات الحياة.

والآن، بعد هذه السنوات، أرمي خطواتي في كل الاتجاهات -وجميعها ضيقة- بحثًا عن أبسط الحقوق، بحثًا عن صفة “لاجئ” أمحو من خلالها ما تراكم على وجهي من متاعب الضيافة، لأتجول في ظل تلك الصفة من دون الرهبة من شمس قد تحرق ما تبقى من جلد، ومن دون أن ترهقني النظرات المصوّبة تجاهي وما يتبعها من تمتمات تطفو على سطح ذهني كطحالب آسنة.

وما أسمعه من أصدقائي اللاجئين في دول العالم الأول، وما ينشره المؤثرون على منصات التواصل الاجتماعي، يجعلني أحسدهم وأتمنى أن أصير مثلهم، وهنا بالضبط تكمن المفارقة المضحكة حد الألم: لقد تحولنا من شوقنا إلى أن نكون مواطنين في دولتنا، لنا حرية في التعبير عن الرأي والمشاركة في الانتخابات الديمقراطية وغيرها من الحقوق التي يتمتع بها أمثالنا في بقية دول العالم المتحضر، ليصبح جلّ همنا أن نكون لاجئين في تلك الدول، نتمتع بأدنى مقومات الحياة، كالعيش في بيئة آمنة لأطفالنا على الأقل، والتنقل بحرية بين المدن من دون الحاجة إلى إذن بالسفر ترفضه السلطات في معظم الأحيان.

بات هذا الفارق مهماً في حياة السوري، إذ إن الكارثة استحدثت تقسيماً طبقياً جديداً، حيث يقبع النازح في الدرك الأسفل، ويتربع اللاجئ على القمة، فهو يعيش مرفهاً بتقديرنا، وتتم تلبية بعض احتياجاته، والأهم من ذلك كله، أنه محمي حسب القوانين والأعراف الدولية.

يبقى “الضيف” متأرجحاً بين الطبقتين، يراوح مكانه، مدفوعاً للاستمرار بغريزة البقاء وحدها، يصارع المؤجر، والمدرّس، والساسة، وحتى البقال، ويبذل جهوداً مضاعفة تفوق طاقاته في محاولة بائسة لإثبات جدارته أمام مضيفيه، محتفظاً برغبة دفينة في أن يترقّى الى مرتبة “اللاجئ” يوماً ما. وإلى أن أصل تلك المرتبة، سأبقى على الدوام أتمنى أن أصبح لاجئاً.

حسين الضاهر – Daraj Media


Posted

in

by

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »