عروة المهاوش
“يا سد أرجوك لا تغدر بأهلنا
أهلنا أطياب وأنت أدرى بيهم”
كالنار في الهشيم انتشر خبر قصف سد الفرات واحتمالية انهياره، كانت الطامة الكبرى على أهالينا المحاصرين في مدينة الرقة، حين أذاعت سيارات تابعة لحسبة تنظيم الدولة “داعش” في الشوارع تنادي بالناس الخروج من المدينة والتوجه نحو الجبال والريف الشمالي للنجاة بحياتهم من خطر الغرق بمياه السد، لم يكن هذا النداء عادياً بالنسبة لأهل الرقة العارفين بكمية المياه المخزنة خلف السد وما سيحدثه من كوراث في حال انهياره، الناس في ذهول وتخبط. تتنازع الروح في أجسادهم، ويكثر الدعاء مع صراخ الأطفال الذين لا يريدون ترك ألعابهم البسيطة، وألبستهم المحببة إلى أنفسهم، طوفان بشري في شوارع المدينة يتخلله الصراخ والتخبط بين البشر والسيارات، حتى الأرصفة لم تسلم من هذا الطوفان، فهنا امرأة خرجت من بيتها تجر بيديها كومة من اللحم الغض نصفهم دون لباس كامل، تتعثر كل حين وتقع لتعود من جديد، وتجمع قوتها الخائرة من هول المصاب لتقف وتركض للمرة الأولى في شوارع المدينة غير آبهة بخصل شعرها التي ظهرت من تحت حجابها دون النقاب الذي فرضه تنظيم “داعش” ودون خوف من سيارة الحسبة التي قد تعتقلها.
جدي الطاعن في السن والذي لا يقوى على الحركة والنزوح، والهرب من الموت غرقاً نحو الموت جوعاً، صنع بيديه المرتجفتين أطواق نجاة لمن بقي من أحفاده بطريقة قد لا تخطر إلا على بال من فقد الأمل بكل شيء، ولم يعد يهمه سوى نجاة أحفاده الصغار من الموت غرقاً. جمع كل ما في البيت من أدوات بلاستيكية فارغة، وأحكم إغلاقها جيداً وربطها مع بعضها كي تكون قادرة على حمل أجسادهم الغضة، ثم ربطها حول كل منهم متصوراً أن المياه ستحملهم نحو برّ الأمان المجهول المكان أصلاً، لكنه قلب الأجداد الرهيف.
تراجيديا الموت..
وسط هذا الموت الذي يلوح في الأفق كغيمة كبيرة سوداء أرخت بظلالها على المدينة، اختار أحدهم الموت كما يحب، فحمل زوادته من القهوة وعلبة تبغ كاملة، واتجه نحو النهر على عكس الناس الهاربة منه، ها أنا أيها النهر جئتك أضحية لخلاص أهلي، رشف من قهوته وأشعل لفافة التبغ الأولى، وعبّ منها نفساً عميقاً، وزفره في الهواء مشكلاً دائرة كبيرة من الدخان حوله، أدار نظره وجسده نحو الغرب وتسربت نسمات الفرات نحو أحشائه لتمتلئ رئتيه بأوكسجين النهر، تعال أيها الطوفان وأغرقني حباً بمياه الفرات الذي لم يغدر بأهله يوماً.. “يا سد شلون تغدر وأنت جنة.. ما عمر الجنات تغدر باليجيهم، دخيلك وصي سدك لا يغرقنا.. عيالك بدمهم غرقانين لا تاذيهم”، هكذا كان يعاتب النهر الذي طالما وهب الحياة لأهله على الضفاف.
خرج هائماً يلتقط أنفاسه بصعوبة بالغة وهو الرجل المريض قبلاً، غادر المدينة وفي كل خطوة تتسارع نبضات قلبه المتعب، كان بكاؤه صامتاً على مدينته التي أحب وعشق أرضها، وها هو يغادرها للمرة الأولى رغم كل القصف والدمار والموت الذي كان قريباً في كل لحظة صمود داخل أسوار المدينة بعد أن أصبحت سجناً كبيراً لأهاليها، حين ابتعد عن مركز المدينة ولاحت له السهول ببداية ربيعها، أدار وجهه نحو الجنوب قليلاً، وشهق ليتوقف قلبه عن الخفقان ويبقى جسده ملاصقاً لتربة الوطن الذي يحب.
أنا النهر، ولن يكون بَوحي إلا الحب، أنا النهر الحالم بملامسة أقدامكم ضفافي، المتعطش دوماً للموليا الرقاوية ولأحاديث العشق، للحب وللغدر ولخيانة حبيب وصديق، على ضفافي كنتم تبثون حزنكم وفرحكم وكنت أغني لكم مواويل المحبة، أنا النهر الذي لا يغدر بأهله.
اترك تعليقاً