بين نهاية العام 2016 وبداية 2017، حدثت جملة من التطورات المتسارعة، غيّرت واقع المعارضة السورية، وعلاقة الفصائل المسلحة ببعضها، على وقع هزيمة حلب، ومؤتمر أستانة.
وإذا كانت هزيمة حلب الشرقية، ما زالت غير ممكنة الاستيعاب والهضم، لضخامتها، فإن نتائجها بدأت بالظهور، في إعادة اصطفاف تنظيمات المعارضة على أسس جديدة/قديمة، أتاحت وللمرة الأولى منذ اندلاع الثورة، حصر المعارضة المسلحة في خانتين كبيرتين: “المعتدلين” و”المتشددين”.
وتداخلت لإنجاز هذا الاصطفاف، عوامل عقائدية ومحلية وإقليمية ودولية، قد يبدو من الصعب فصلها وتمييزها عن بعضها البعض. إلا أن تراكبها سوية، أنتج مجموعة من الأفعال، والصدف، وردات الفعل، تسببت في إعادة تموضع فصائل المعارضة انطلاقاً من الشقاق الداخلي في “حركة أحرار الشام الإسلامية”.
مركزية “أحرار الشام” في خضم أحداث الشمال السوري، بدت غير ممكنة التجاوز، لما تمثّله من نقطة التقاء للتيارين الكبيرين: “السلفي الجهادي” و”الإخواني”. وإذا كان وجود تلوينات خارج إطار هذه التصنيفات العمومية، ممكناً قبيل اشتباكات كانون الثاني 2017، فإن المظلتين اللتين نتجتا عنها، قد تسهمان في زيادة التعميم، وتقليص الفوارق.
“أحرار الشام” و”جند الأقصى”
في تشرين الأول/أكتوبر 2016، اندلعت مواجهة بين “حركة أحرار الشام الإسلامية” وبين “لواء جند الأقصى” الذي قتل القائد العسكري لـ”الأحرار” في حماة بعد أسره في ريف إدلب الجنوبي. و”جند الأقصى” كان قد انشق في ربيع العام 2013 عن “جبهة النصرة”، وهو متهم بالتقارب مع “الدولة الإسلامية” وضلوعه بعمليات اغتيال لقادة فصائل المعارضة السورية، وكان قد ترك نهاية العام 2015 “جيش الفتح” بسبب إعلان الأخير قتاله “الدولة الإسلامية”. واختار “جند الأقصى” بدل مشاركة “جيش الفتح” في معارك “فك الحصار عن حلب”، مهاجمة ريف حماة الشمالي في غزوة “مروان حديد”. “جند الأقصى” هدد “الأحرار” بترك مواقعه في جبهات حماة، والتفرغ لقتالهم، بينما التزمت “جبهة فتح الشام” الحياد.
اشتباكات تشرين الأول، بدأت بعد تفجيرات ضربت معبر أطمة الحدودي مع تركيا، شمالي إدلب، واتهمت “الأحرار” “الجند” بالمسؤولية عنها. وسرعان ما انضم “فيلق الشام”، بعد مقتل عناصر له في التفجيرات، إلى “الأحرار” في مواجهة “الجند”. الجولة الأولى من الاشتباكات، انتهت بسيطرة فصائل المعارضة السورية المحسوبة على الجيش الحر، و”أحرار الشام” على قرى جبل الزاوية وأريحا، ومعظم ريف إدلب، ومناطق من ريف حماة.
موقف “جبهة فتح الشام” الحيادي كان براغماتياً، فهي على علاقة مع “الأحرار” تحت مظلة “جيش الفتح”، في حين أن “جند الأقصى” هم إخوة المنهج. خلاف “فتح الشام” مع “الأحرار” المتعلق بموقف “الأحرار” من دعم القتال إلى جانب تركيا في عمليات “درع الفرات”، يوازي في العمق، الخلاف مع “الجند” الذين رفضوا قتال “الدولة الإسلامية”. خلافات لم تكن لتفسد الودّ بين “النصرة” وكلا الفصيلين؛ فمن جهة، كانت “النصرة” قد استفادت من “الجند” في قتال الفصائل “المرتدة” وخصوصاً “الفرقة 13” ومن قبلها “حركة حزم” و”جبهة ثوار سوريا”، ومن جهة أخرى، كان التيار المحافظ ضمن “أحرار الشام” قد عقد مفاوضات اندماج مع “جبهة فتح الشام”، في أيلول/سبتمبر 2016، هذا عدا عن مقاطعة “أحرار الشام” لـ “الهيئة العليا للمفاوضات” التي تشكلت بعد مؤتمر الرياض، في كانون الأول/ديسمبر 2015، تماشياً مع الرغبة بعدم إغضاب “فتح الشام”.
“فتح الشام” و”جند الأقصى”
في منتصف تشرين الأول 2016، وبعد أسبوع من المواجهات، أُعلِنَ انضمّام “جند الأقصى” إلى “جبهة فتح الشام”، وأطلق “الجند” سراح أكثر من 130 من عناصر “الأحرار”. قائد “الأحرار” حينها، مهند المصري “أبو يحيى الحموي”، أعلن “انتهاء الحرب”، وهدد “الجند” بردّ قاس، في حال لم يلتزم ببنود البيعة لجبهة “فتح الشام”، ووصفهم بـ”شرذمة نجسة”. قبول “الأحرار” بالحلّ كان على أساس أن البيعة تضمن تفكيكاً كاملاً لـ”جند الأقصى” وتذويبه في “فتح الشام”. إلا أن “فتح الشام” اعتبرت شروط البيعة هي: “قبولهم (الجند) بالمحكمة الشرعية، وتسليم المتورطين، وتقديم من تثبت عليه تهمة الخوارج للمحكمة، وتبني السياسة العامة للجبهة”. كما رفضت “فتح الشام” توصيف المصري لـ”الجند” بـ”الشرذمة”، واعتبرت أنهم “مجاهدين أطهار”.
“فتح الشام” استمرت في براغماتيتها، محاولة الحفاظ على “الأحرار” و”الجند” على يمينها ويسارها، على أن تلعب دور الموازن بينهما.
المرجعيات الجهادية السلفية كانت قد سعت سابقاً إلى ضم “الجند” إلى “جبهة النصرة” قبل فك ارتباطها مع “القاعدة”. وفي شباط/فبراير 2016، أعلن العشرات من “جند الأقصى” انشقاقهم والانضمام إلى “النصرة”، فاتهم “الجند” “النصرة” ومرجعيات التيار السلفي الجهادي، بالعمل على افتعال الفتنة داخله. قيادات “القاعدة”، المعادية لـ”الدولة الإسلامية”، لطالما اتهمت القائد العسكري في “الجند” أبو ذر الجزراوي، والرجل الأقوى فيه، بـ”الانحراف والفساد”، والتسبب باختراق “الجند” من قبل “الغلاة”.
وكان “قاطع البادية”، المكون من مقاتلي عشيرة الشعيطات، والتابع لـ”النصرة”، بقيادة العراقي أبو ماريا القحطاني، قد فرض إغلاق مقرات عسكرية لـ”الجند” في ريف حماة الشرقي، في حزيران/يونيو 2016، بسبب مخاوف من أن يسمح ذلك بتماس مباشر لـ”الجند” مع “الدولة الإسلامية”. وفي تموز/يوليو أوقف “قطاع البادية” معركة كان يُعد لها “الجند”، ضد قوات النظام في ريف حماة الشرقي، لأنها جاءت “بتنسيق مع تنظيم (الدولة) في المنطقة”.
نتائج الاشتباكات في تشرين الأول 2016، بين “الأحرار” و”الجند”، أكسبت “فتح الشام” 800 مقاتل من “الجند”، لكنها أفقدتها “مركزية القرار”. فعلياً لم يتم تذويب “جند الأقصى” في “فتح الشام”، لا بل ظلّ “الجند” كياناً قائماً يمتلك قدرة التدخل والتعطيل، كما حدث أثناء تنفيذ اتفاق إخلاء المعارضة من حلب الشرقية، عندما أحرق “الجند” حافلات كانت متوجهة إلى بلدتي كفريا والفوعة الشيعيتين، في كانون الأول/ديسمبر 2016. فـ”فتح الشام” لم تستطع السيطرة على “قاطع حماة” الذي يقوده أبو ذر الجزراوي، المعروف بقربه من “الدولة الإسلامية”، إلا أنها تبرأت من سلوك مجموعة “الجند” التي أحرقت الحافلات، بعدما كانت الجبهة قد شاركت في رعاية اتفاق الإخلاء المتبادل، من حلب الشرقية ومن الفوعة وكفريا.
“الأحرار” و”الأحرار”
مع تقدم مليشيات النظام في حلب الشرقية، بدعم جوي روسي، نهاية تشرين الثاني/نوفمبر، احتدمت الخلافات داخل “مجلس شورى حركة أحرار الشام”، اثناء عملية اختيار قائد جديد، محل “أبو يحيى الحموي” المنتهية ولايته. خلافات “مجلس الشورى”، وصلت منعطفاً خطيراً مع إعلان ثمانية من أعضائه الـ 19، تعليق عضويتهم. انقسام “مجلس الشورى” عكس الشرخ ضمن الحركة بين تيارين؛ محافظ “سلفي جهادي” مقرّب من “القاعدة”، وإصلاحي “معتدل” مقرّب من “الإخوان المسلمين”. التيار المحافظ سعى لإيصال القائد السابق للحركة أبو جابر الشيخ، أو المسؤول العسكري فيها أبو صالح الطحان، إلى قيادة الحركة، في حين دفع التيار الإصلاحي بعلي العمر “أبو عمار التفتنازي”.
الخلاف بين التيارين، كانت قد أججته مشاركة “الأحرار” ضمن “درع الفرات” المدعومة تركياً، ما تسبب باستقالة عدد من الشرعيين فيها. كما ترافق ذلك مع اتهامات متبادلة، بين التيارين، بالعمل للهيمنة على مؤسسات الحركة، واقصاء الأشخاص المحسوبين على الطرف الآخر. بيان تعليق العضوية، جاء “بعد الوصول إلى طريق مسدود لحل الأزمات المتراكمة داخل الحركة منذ عام”، ووقع عليه أبو جابر الشيخ، وأبو صالح الطحان، ونضال الحسن “أبو محمد الصادق”، وأبو عبدالله، وأبو علي الشيخ، وأبو أيوب المهاجر، وأبو عبدالله الكردي، وأبو خزيمة الفلسطيني.
لم يكن تعليق العضوية أول شقاق ضمن الأحرار، ففي حزيران/يونيو 2016، وبعد قرار القيادة الإصلاحية بزعامة “أبو يحيى الحموي”، عزل المسؤول العسكري أبو صالح الطحان، والمسؤول الشرعي أبو محمد الصادق، جرت محاولة انقلابية غير واضحة المعالم، قام بها بالإضافة إلى الطحان والصادق، كل من أبو جابر الشيخ، والمسؤول الأمني أبو خزيمة الفلسطيني. أي ذات أعضاء “مجلس الشورى” معلقي عضويتهم. المحاولة أُجهِضَت، على حساب الإصلاحيين، الذين رضخوا للعودة عن عزل الطحان، وتسميته نائباً لقائد الحركة عن الشؤون العسكرية.
أزمة “مجلس الشورى”، نهاية تشرين الثاني/نوفمبر، زادت من التشنج بين التيارين؛ ومع إصرار الإصلاحيين على إيصال علي العمر “أبو عمار” إلى قيادة الحركة ولو بموافقة أعضاء “مجلس الشورى” الـ 11 المتبقين، أعلن الأعضاء المعلقين لعضويتهم تشكيل “جيش الأحرار” من 16 تشكيلاً عسكرياً من ضمن “الأحرار” بقيادة أبو جابر الشيخ[1]. ورجّحت التقديرات ألا يزيد عدد عناصر “جيش الأحرار” عن 2500 مقاتل، بينما يتجاوز عدد مقاتلي “أحرار الشام” 22 ألفاً.
“جيش الأحرار” كان إعلاناً فعلياً، عن عدم انتاجية آليات “الشورى” المتبعة ضمن “مجلس الشورى”، في حال تصاعد الخلاف إلى حدّ انتاج هويات ثانوية، تطغى على “الهوية” الرئيسة للحركة. فالطلاق بين “السلفيين الجهاديين” و”المعتدلين” ضمن الحركة، صار نهائياً مع “جيش الأحرار”، بعدما عطّل الطرفان الداخليان، مشاريع اندماج خارجية لـ”الأحرار”، مع فصائل السلفية الجهادية أو الجيش الحر.
الصراع على “الأحرار”
الطلاق الداخلي بين التيارين، ساهم في توضيح الحدود بينهما، والتهيئة للمرحلة المقبلة، التي سيذهب فيها كل منهما في طريق مختلف. كما أثبتت الوقائع عدم إمكانية إجراء “توافق” على تفاهم، حين يكون الاقصاء سلاحاً مشرّعاً. فـ”الأقلية” ضمن “مجلس الشورى”، وبغض النظر عن توجهاتها السلفية الجهادية، شعرت بأنها مقصاة عن مركز القيادة والقرار، خاصة بعد محاولة عزل الطحان والصادق في حزيران/يونيو 2016. لذا، فقد جاء ردّها، مهما اكتسب من أغطية ايديولوجية من “الاعتصام” و”منع التشرذم” و”وحدة الكلمة والصف”، بشق الصف الداخلي عبر مركزة القوى المناوئة للقيادة الحالية.
كما أن محاولة كل من “الاصلاحيين” و”المحافظين” استجرار اندماجات خارجية، مع أشباههما، لم تكن سوى محاولة للاستقواء بقوى خارجية، لزيادة عدد مناصريهما في “مجلس الشورى”. أي أن الضمّ لعناصر خارجية، هو بغرض الاقصاء لعناصر داخلية. ذلك تماماً ما حدث في بيان “عام الجماعة” الذي تضمّن أسماء فصائل سلفية جهادية وقّعت على بيان الاندماج؛ وهي “حركة أحرار الشام” و”جبهة فتح الشام” و”حركة نور الدين الزنكي” و”أجناد الشام” و”لواء الحق” و”الحزب الإسلامي التركستاني” و”أنصار الدين”. في الوقت ذاته، انتشرت تسريبات عن تنسيق بين “الأحرار” و11 فصيلاً معتدلاً؛ منها “جيش المجاهدين” “وصقور الشام” و”فيلق الشام”، لبحث عملية اندماج أخرى.
التنافس المحموم بين تياري “الأحرار” رافقه حراك خارجي للفصائل المختلفة، تمحور حول استقطاب “الأحرار”، للفوز بها كاملة، أو جزء منها على الأقل. الاستقطاب الخارجي على وقع الصراع الداخلي، وبنظرة شمولية، كان أصدق تعبير عن حال فصائل المعارضة السورية، وأزماتها. ففي حين بدا النزاع بين “المحافظين” و”الإصلاحيين” شأناً داخلياً يخص “الأحرار”، إلا أن الدوامة التي دخلت فيها الفصائل على طرفي الجناحين، تشي بأن انقسام “الأحرار” الداخلي، كان إعادة انتاج للمعارضة السورية، ككل، على ذات الأساس من التصنيف: صقور وحمائم، محافظين وإصلاحيين، متشددين ومعتدلين. وإذا بدا للحظة، وكأن مشاريع الإندماج ضرورة قصوى، لرتق الصدّع، فإن الاستقطاب الذي رافقها، أكد استحالة إمكانية التوافق بين هذين المكونين، على الأقل راهناً.
“جند الأقصى” و”صقور الشام”
في تلك الأثناء، ومع هزيمة المعارضة المسلحة في حلب الشرقية، استمرت الاغتيالات لقادة الفصائل المعارضة في ريف إدلب، وعادت الاتهامات لتطال “جند الأقصى” بالوقوف خلفها. العمليات استهدفت عناصر وقادة في الجيش الحر و”أحرار الشام”. وانفجرت عبوة ناسفة مزروعة بسيارة قائد “صقور الشام” أحمد عيسى الشيخ “أبو عيسى”، من دون التسبب بأضرار بشرية. محاولة اغتيال “أبو عيسى”، جاءت بُعيد انشقاقه و”صقوره” عن “أحرار الشام” بعدما كان نائب قائدها العام، وهو من أشد الداعين لقتال “جند الأقصى”. ويُنظر إلى “أبو عيسى” على أنه أحد معطلي مشاريع اندماج “الأحرار” مع “جبهة فتح الشام”، وكان من المشجعين للاندماج مع فصائل الجيش الحر.
“أحرار الشام” و”صقور الشام”
تعيين علي العمر “أبو عمار”، وهو مهندس معماري من تفتناز في ريف إدلب، قائداً عاماً لـ”الأحرار”، وسط أزمة “مجلس الشورى”، قد يكون تلخيصاً للصراع الداخلي في الحركة. فـ”أبو عمار” وهو من عائلة “إخوانية” سورية هربت إلى العراق في الثمانينيات. ومن العراق انتقل إلى اليمن حيث انضمّ إلى تنظيم “القاعدة”، وعاد إلى سوريا ملتحقاً بـ”صقور الشام” مطلع العام 2013. وسرعان ما ترقى “أبو عمار” في صفوف “صقور الشام” ليصبح المتحدث الرسمي باسمها، ونائب قائدها العام “أبو عيسى الشيخ”. “أبو عمار” سعى للاندماج بين “صقور الشام” و”أحرار الشام”، مطلع العام 2015، وبقي فيها رغم انشقاق “أبو عيسى الشيخ” و”صقوره” عن “الأحرار”[2].
“أبو عمار” بدأ حياته السياسية “إخوانياً” في العراق، وصار “قاعدياً” في اليمن، قبل أن يعود “إخوانياً” في سوريا محسوباً على التيار “المعتدل” في “أحرار الشام”.
أمر مماثل، حدث في “الأحرار”، فمؤسسها حسان عبود “أبو عبدالله الحموي”، كان سلفياً جهادياً، وبعد مقتله في العام 2014، تولى “أبو جابر الشيخ” إمارة “الأحرار” وحافظ على خطها المتشدد. ومع وصول مهند المصري، كقائد عام للحركة، حدث أول انزياح لها عن السلفية الجهادية، وازدادت فعالية “المكتب السياسي” الذي يهمن عليه “المعتدلون”.
استانة: الفصل بين الفصائل
بعد هزيمة المعارضة في حلب، لم تُعطل صراعات الفصائل المعارضة، روسيا وتركيا، عن دعوة ممثلي الفصائل الكبيرة إلى مؤتمر أستانة. تركيا كانت قد أجبرت الفصائل على سحب شروطها الاستباقية لحضور المؤتمر، وخاصة المتعلقة بوقف هجوم قوات النظام على وادي بردى في ريف دمشق. مؤتمر العاصمة الكازاخستانية ناقش أموراً عسكرية فقط، وإن كانت الورقة الختامية تضمنت بعض النقاط السياسية. وشارك في المفاوضات فعلياً ممثلون عن “جيش الإسلام” و”جيش المجاهدين” و”ثوار الشام” و”صقور الشام” و”تجمع فاستقم كما أمرت” و”نور الدين زنكي” و”أسود الشرقية” و”فيلق الرحمن” و”الجبهة الشامية” و”جيش إدلب الحر”، و”حركة أحرار الشام”.
حضور عسكريين من النظام والمعارضة، لمناقشة “وقف إطلاق النار”، كان يمكن اعتباره مقدمة لإنجاز “تفاهم” على تحييّد القوات العسكرية من الطرفين عن الواجهة، لبحث مركزة السلطة التنفيذية، وإمكانية اشراك أطراف عسكرية معارضة، يوافق عسكر النظام عليهم لقيادة عملية انتقالية. إلا أن إجراء مؤتمر أستانة، في ظل العجلة الروسية الباحثة عن تتويج ملموس لتدخلها في سوريا، يمكن التواصل على أساسه مع إدارة الرئيس الأميركي الجديد، جعلت من الظرف الخارجي صانعاً للحدث، ما عطل مفاعيله الداخلية.
من جهة أخرى، بدا واضحاً في أستانة، أن المدعويين من عسكر المعارضة، هم الجناح “المعتدل”، ما صبّ زيتاً على نار الصراعات الفصائلية، خاصة مع مؤشرات التقارب الروسي-الأميركي، والرغبة في تصفية “المتشددين”. الرغبة التركية في حصر تمثيل المعارضة “المعتدلة”، وموافقة روسيا المفاجئة، بقبول من كانت تعتبرهم حتى أيام قليلة “إرهابيين”، على طاولة المفاوضات، كانت مؤشرات على الاتجاه الذي ستتخذه المقاربة الإقليمية المقبلة. معيار التصنيف الإقليمي لاعتدال وتشدد الفصائل، قد لا يكون مطابقاً للمسالك على الأرض، ولا حتى لعقائد الفصائل. ففجأة أصبحت “حركة نور الدين زنكي” على “لائحة الإرهاب” الأردنية، وفجأة عاد “جيش الإسلام” معتدلاً بالنسبة لروسيا.
وفد الفصائل المعارضة السورية في استانة برئاسة محمد علوش
تفاعل الداخل والخارج، المموّل والممول، بدا عاملاً إضافياً في عملية الانزياح الفصائلية، بين الاعتدال والتشدد. فإلى ما قبل سقوط حلب الشرقية، كانت “حركة نور الدين زنكي” من الفصائل المعتدلة، وسبق أن تلقت دعماً أميركياً من غرفة “الموم”. وحين شحّ الدعم، وتعرضت “الزنكي” لمحاولات تضييق من بعض فصائل حلب الشرقية، لم تمانع في مهاجمة “تجمع فاستقم كما أمرت” والسيطرة على مخازنه وأسلحته، في اللحظات الأخيرة قبل هجوم مليشيات النظام النهائي على حلب. تقارب “الزنكي” مع “جيش الفتح” وانضمامها له، قبل ذلك، بعدما كانت ضمن “فتح حلب” لفترة طويلة، كان مؤشراً أولياً على بداية الانعطاف لها باتجاه “التشدد”. والآن باتت “الزنكي” أحد أهم الباحثين عن مظلة واسعة للفصائل السلفية الجهادية، بعد وقف الدعم الخارجي عنها، ووضعها في “خانة اليك”.
بهذا المعنى، أستانة، لم تكن اتفاقاً عسكرياً على “وقف إطلاق النار”، رغم حضور العسكر من الطرفين، ولم تكن “بحثاً في مركزة السلطة التنفيذية”، بل اعترافاً روسياً بشطر من المعارضة المسلحة، واقصاءً للشطر الآخر. وبدلاً من استقطاب المعارضة بعيداً عن “جبهة فتح الشام”، بدا أن التحريض الدولي والإقليمي، ولعبة التحكم بقنوات التمويل، وخفض الدعم، كانت دوافع للعديد من الفصائل للاحتماء بـ “المتشددين”، بعدما وجدت نفسها معزولة ومحاصرة، وسط عدم وقف استهداف المدنيين، ولا وقف سياسة التهجير والتطهير العرقي.
كما أن رفض فصائل الجيش الحر والمعتدلة، الحاضرة في أستانة، مقاتلة “جبهة فتح الشام” وعزلها، لم يُقابل سوى بالتشكيك والتخوين من قبل الجبهة. “جبهة فتح الشام” الخائفة من عزلها في ريف إدلب، واستهدافها من قبل الروس والأميركيين، عضّت يد الفصائل التي رفضت بيعها للمجتمع الدولي، وسرعان ما بدأت بالتهامها.
“فتح الشام” و”الأحرار” و”جند الأقصى”
بين 18 و20 كانون الثاني/يناير، ساد التوتر ريف إدلب بعدما اعتقلت “أحرار الشام” الشرعي فيها أبو مجاهد العراقي، الذي سبق وسطا على ذخائر وأسلحة للحركة ولجأ بها إلى “فتح الشام”[3]. الأخيرة انتقمت بالاستيلاء على المعبر الإنساني بين سوريا وتركيا، في خربة الجوز، والخاضع لسيطرة “الأحرار”. وتعتمد “فتح الشام” في بعض تمويلها على “الجزية” المفروضة على الفصائل المدعومة من الخارج، وكذلك على نسب من أرباح المعابر، وعلى “الخوّات” المفروضة على خطوط الإمداد.
وفجأة، دار الحديث في الأيام التالية، عن الاقتتال بين “أحرار الشام” و”جند الأقصى”. حتى أن “فتح الشام” أعلنت في بيان لها أن “جند الأقصى” لم يعد جزءاً منها. الاشتباك بين “فتح الشام” و”الأحرار” الذي بدأ على خلفية العراقي، بدا وكأن مخرج “فتح الشام” منه هو تحميله لـ”جند الأقصى”. وبعد فصله من الجبهة، أعلنت ثمانية فصائل من الجيش الحر والمعتدلين تشكيل “تحالف ردع” مع “أحرار الشام” ضد “جند الأقصى”.
في هذه الفترة، حدث انقلاب في موقف “أحرار الشام”؛ إذ بعدما كانت هي من بدأ القتال مع “فتح الشام”، وتدخلت فصائل “تحالف الردع” لدعمها في وجه “بغي” “جند الأقصى”، استدارت “الأحرار”، وأعلنت أنها ستكون “قوة فصل” بين الفصائل وبين “فتح الشام”. كان قد سبق ذلك خطوة مفاجئة أخرى، في 23 كانون الثاني، عندما حلّ زعيم “المتشددين” في “الأحرار” أبو جابر الشيخ “جيش الأحرار”، وأعاد تشكيلاته إلى التنظيم الأم.
ورغم استقالة اثنين من شرعيي “فتح الشام” على وقع الاقتتال الداخلي، ورفض رموز فيها كالعرجاني والقحطاني “البغي” على الفصائل، تحركت الجبهة ضد مواقع لـ”جيش المجاهدين”، في ريف إدلب، ليل 23/24 كانون الثاني. فجأة أصبح “جيش المجاهدين” و”صقور الشام”، في مواجهة مع “فتح الشام”.
إعلان القائد العام لـ”الأحرار” أبو عمار العمر، “النفير العام” بعد رفض “جبهة فتح الشام” مبادرات لـ”تحكيم الشرع” ووقف القتال، وهجومها ضد “جيش المجاهدين” في ريف حلب الغربي، لم يتجاوز فضاء الميديا. إذ حشدت “فتح الشام” أرتالها للهجوم على “جيش المجاهدين” في الأتارب في ريف حلب الغربي، والأرتال الخارجة من معقل “جند الأقصى” في سرمين، توجهت إلى الأتارب أيضاً. وسيطرت الجبهة بدعم من “نور الدين زنكي” على مقرات “جيش المجاهدين” و”الجبهة الشامية” في عندان، ومنطقة آسيا بالقرب من حريتان في ريف حلب. وتوجهت لاقتحام بلدة الحلزون التي تضم مستودعات السلاح الرئيسية لـ”جيش المجاهدين”، وفي ريف إدلب حاصرت مقرات “الجيش” في معرشورين. وانتقلت المواجهات إلى القسم الشرقي من جبل الزاوية، بين “فتح الشام” و”صقور الشام”.
صورة من معركة فتح الشام وصقور الشام بجبل الزاوية
لتبرير هجماتها، أصدرت “فتح الشام” بياناً، أعلنت فيه الحرب على الفصائل التي شاركت في مؤتمر أستانة، ودعت فيه إلى “التصدي للمشاريع المستوردة وإجهاضها، والتصدي للمؤامرة التي يحيكها المجتمع الدولي بمساندة فصائل عاملة على الأرض ضد الجبهة”، ما فرض عليها “اتخاذ خطوات استباقية” لمواجهة هذه المشاريع.
في 26 كانون الثاني، أصدرت “أحرار الشام”، بياناً، أكدت فيه انضمام “صقور الشام” و”جيش الإسلام/قطاع ادلب” و”جيش المجاهدين” و”تجمع فاستقم كما أمرت” و”الجبهة الشامية/قطاع ريف حلب الغربي” إليها[4]. وأكدت “الحركة” أن “أي اعتداء على أحد أبناء الحركة المنضمين لها أو مقراتها هو بمثابة إعلان قتال لن تتوانى حركة أحرار الشام في التصدي له وايقافه مهما تطلب من قوة”.
ومع ذلك، حاصرت “فتح الشام” بلدة حيان في ريف حلب، بعدما سيطرت على عندان وكفر حمرة وخان العسل وحريتان وكفرناها وأورم الكبرى. واستمرت الاشتباكات في محيط بلدتي احسم وسرجا في جبل الزاوية، وحول السجن المدني في مدينة إدلب، بين “صقور الشام” و”فتح الشام”، ولم تتحرك “أحرار الشام”. وحده “لواء أهل السنة” التابع لـ”الأحرار”، بقيادة حسام سلامة، تدخل لمؤازرة “صقور الشام” في معردبسة، جنوبي سراقب.
“هيئة تحرير الشام”
هدأت المعارك والاشتباكات، في 27 كانون الثاني، وانجلت عن تغير كبير في بنية التشكيلات العسكرية المعارضة. الفالق معتدل/متشدد، امتد ليشمل معظم الفصائل في ريف حلب الشمالي والغربي وإدلب وريفها. إذ أنه ومع صمت المدافع، ظهر بأن إعادة ترتيب للأوراق، تمّت خلال أقل من أسبوع، ونتج عنها ولادة واقع فصائلي جديد، يقوم على ثنائية: “أحرار الشام” و”هيئة تحرير الشام”. ففي حين انضم إلى “أحرار الشام” أكثر من 15 فصيلاً معتدلاً ومن الجيش الحر، فقد تشكلّت “هيئة تحرير الشام” بقيادة زعيم المتشددين في “الأحرار” أبو جابر الشيخ، وانضمّ إليها فور الإعلان عنها أكثر من 20 تشكيلاً عسكرياً، تجمعهم السلفية الجهادية، وعلى رأسهم “جبهة فتح الشام” و”حركة نور الدين زنكي” و”جبهة أنصار الدين” و”لواء الحق” و”جيش السنّة”، وكتائب أصغر حجماً منها “مجاهدو أشداء” و”كتائب الصحابة” و”لواء التمكين”. أعضاء “مجلس شورى” الأحرار المتشددين رافقوا أبو جابر الشيخ في رحلته الجديدة، وكذلك فعلت كتائب وتشكيلات صغيرة ضمن “الأحرار”.
معارك كانون الثاني، في الشمال السوري، ورغم ضخامة الحشود التي شاركت فيها، لم تتسبب بسقوط خسائر بشرية كبيرة؛ فلم يُقتل سوى أربعة مدنيين[5]. الأمر الذي جعلها، أشبه بالاستعراض العسكري للقوة، نتج عنه إعادة فرز وتدوير للفصائل. وأهم انجازات الاقتتال تمثّلت في توفير مظلتين كبيرتين، انضوت تحتهما معظم الفصائل الصغيرة. كما أنه سمح بالإعلان، وللمرة الأولى، عن انقسام هوياتي بالغ الحدّة، بين “السلفية الجهادية” و”الإخوان”، المتشددين والمعتدلين.
اللافت الأكبر، كان غياب “جند الأقصى” عن مشهد “هيئة تحرير الشام”، وهي التي شنّت معارك كانون مع “فتح الشام” رغم فصل الأخيرة لها.
ماذا بعد؟
الخلّاط الكبير الذي دخلته فصائل الشمال السوري، على وقع انقسام “الأحرار” الداخلي، منذ تشرين الثاني 2016، ما لبث أن أعاد تشكيل الواقع الفصائلي، لتعميم تجربة “الأحرار” الداخلية على الجميع؛ وبات ممكناً القول إن لا جدوى للاندماج إن لم يكن قائماً على أرضية عقائدية واحدة.
هل يحمل هذا التوزيع الجديد لفصائل المعارضة إمكانية الصدام بينهما؟ قد يكون هذا احتمالاً قائماً، إلا أن عمليات الاستلام والتسليم التي حدثت، واستيلاء فصائل “هيئة تحرير الشام” على مخازن أسلحة فصائل “أحرار الشام” الجديدة، وإعادة انتشار الهيئة على مساحات ومواقع جديدة، يشي بخوف المعتدلين من مواجهة المتشددين. فما أن هدأت حدة المعارك حتى تعالت الأصوات التي حاولت تجميل ما حدث، نظراً إلى نتائجه، من توحيد الفصائل ودمجها في كتلتين كبيرتين. هذه الذرائعية المعللة للأحداث، بخواتيمها، هي لغة جديدة على “السلفية الجهادية”، لكنها لم تخرجها من إطار براغماتيتها. فـ”هيئة تحرير الشام” بحاجة اليوم أكثر مما سبق، للحفاظ على “الأحرار”، للابقاء على المعابر مفتوحة، وكذلك على نسبتها من “الخوة” المفروضة على الدعم الخارجي، خاصة وأن المعارضة المعتدلة ليست جاهزة لأي صراع مع المتشددين، على الأقل حالياً.
اترك تعليقاً