السؤالُ الحقُّ شجاعة، حتى لو كان بينك وبين نفسك، فما بالك إن كان أمام ديكتاتور كعبدالفتاح السيسي! وإن كان خصوصاً عن انتهاكات حقوق الإنسان التي تفقأ عين العالم.
لقد تجرأ المذيع (والشاعر الفلسطيني) في «مونت كارلو الدولية» طارق حمدان بالفعل على سؤال بهذا الحجم، وجهاً لوجه أمام السيسي في «منتدى شباب العالم»، بدا الشاب واضح الصوت، هادئاً، عارفاً عمّ يتحدث، غير هيّاب بمخاطر ما بعد السؤال، فلا أحد يعرف ما يمكن أن تتفتّق به مخيلة أجهزة السيسي. سأل حمدان عن «التضييق على حرية الرأي والتعبير، التقارير الكثيرة عن المعتقلين على خلفيات سياسية، حجب مواقع الكترونية وصحف، تجميد الشبكة العربية لحقوق الإنسان..».
السيسي كان ودوداً أكثر من اللازم، إلى حدّ أنك لن تصدّق أن من يتحدث بهذه النبرة يمكنه أن يقتل أو ينكّل بشعب، تحدثَ إلى طارق كمن يتحدث إلى صديق مقرّب، مخاطباً إياه باسمه مرات: «المصري ما بيتفسّحش يا طارق، عشان مش لاقي، عشان عايز ياكل».
العيش مقابل الحرية. هذه هي معادلة السيسي، لا وقت بالنسبة له الآن لكلام فارغ عن الحقوق والحريات وسجناء الرأي!
أنكر السيسي، كما يتوقع المرء من أي ديكتاتور، داعياً إلى تشكيل لجان تتقصّي، بل وداعياً إلى المحاسبة في حال وجود أخطاء فردية! لكن الأهم من الإنكار كان النقلة الميلودرامية المفاجئة: «هو أنتو بتحبو شعبنا أكتر منّنا! (العبارة تأتي أكلها فوراً، إذ يصفق الحضور، فيما الكاميرا على وجه طارق تنتظر أن تفيض عيناه بالدمع أو الخجل) هو انتو خايفين على بلادنا أكتر منّنا! إحنا بلادنا مش لاقية تاكل، مش عايزين تساعدونا! البلد دي عايزة تعيش، والشعب ده عايز يكبر، ينمو، زي ما الباقي كبر وبقى حكاية، عايزين نبقى حكاية إحنا كمان، المصري ما بيتفسحش يا طارق، عشان مش لاقي، عايز ياكل».
هذا خطاب متسوّل لا خطاب رئيس، وهو يليق بأحسن الأحوال منطقاً لإحدى شخصيتين في مسلسل مصري يسعى إلى حسم هوية المصري في الحلقة الأخيرة من المسلسل.
الأكل (العيش) مقابل الحرية. هذه هي معادلة السيسي، لا وقت بالنسبة له الآن لكلام فارغ عن الحقوق والحريات وسجناء الرأي.
طارق حمدان وصل باريس أمس، وكتب على صفحته في فيسبوك: «ممتن لكل الأصدقاء الذين كتبوا لي وتابعوا حركتي خلال الساعات الماضية، وصلت باريس بعد ساعات مشحونة. أتمنى لمصر مستقبلاً عامراً بالحرية والكرامة والرخاء. ونعم نحب مصر.. وحقوق الإنسان قيمة عُليا لا تتجزأ!».
الحسناء والتمساح
كل ما فعلته مذيعة «الجديد» داليا أحمد أنها وَصفت ستة زعماء لبنانيين بـ «التماسيح»، وليس من قبيل المصادفة أن يكون من بينهم أمين عام «حزب الله». لكن المذيعة فتحتْ عليها، وعلى قناتها، أبواب جهنم، وربما ما بعد أبواب جهنم، إذ تستمر حرب مسعورة من «الثنائي الشيعي» (واللقب الأخير دخل قاموس الاستخدام السياسي والإعلامي اليومي بسبب الثنائي نفسه، لا بسبب خصومه) لتصف القناة والمذيعة بأحطّ الكلام.
وللمذيعة السمراء، فقد خصّها ذباب «الثنائي» بأبغض كلام عنصري، بسبب لون بشرتها، وهي السودانية الأصل، والمتزوجة من لبناني، وبالمناسبة هي تعمل في «قناة الجديد» منذ عشرين عاماً، ما يخوّلها، لو أنها تعمل في «بي بي سي» الحصول على خمس جنسيات بريطانية.
في هذه الحرب على داليا أحمد لا يهتم المرء تماماً بالسياسة، بقدر ما يأسف كيف ينحطّ البعض عند الخصام، كيف تظهر أمراض أصيلة، يبدو أن لا شفاء منها.
«الجديد» ردّت على الحرب بمقدمة تلفزيونية نارية، تؤكد قطيعة نهائية مع «الثنائي»، وهذا هو السبب الأبعد للحملة الشرسة على ما يؤكد محللون لبنانيون، حيث يبحث «الثنائي» عن سبب للانقضاض على من تجرأ بالخروج عن النظام الممانع. ومما جاء في الردّ: «قالت «الجديد» في مقدمتها الإخبارية: «من كان مختصّاً بالقَبْع والخلع ونشر رسائل التعطيل قضاءً وقدَراً حكوميًا لن يعجز عن استخدام جيوشه العنصريةِ المصقولة بالفراغ، ومَن كان أقصى إبداعه يُختَصَر بهشتاغ يعتمد على النُّباح فإن المردود الطبيعي لهذه الآراء سيكون عواءً في الهواء».
و«مناسبة هذا البلاغ أن مَن تعتمد عليهم حركة أمل وحزب الله للدفاع إلكترونياً ليسوا إلا صورة عن بضعة مجتمع متنمر عُنصري لا حُجة لديه سوى اللجوء إلى استخدام ضبانات لعقله تسعفه على كتابة الشتائم وضرب الكرامات».
في هذه الحرب على داليا لا يهتم المرء تماماً بالسياسة، بقدر ما يأسف كيف ينحط البعض عند الخصام، كيف تظهر أمراض أصيلة، يبدو أن لا شفاء منها. وقد تجد عند جمهور التماسيح الخمسة الباقين العنصرية نفسها، وإلا ما الذي يدفعهم على الصمت والتواطؤ في الحرب على واحدة من أجمل وجوه الإعلام اللبناني.
لبنان: الحاجة إلى نبيّ
ليس هنالك ما هو أوضح: لقد جاء «نبيّ» إلى لبنان في اللحظة الحاسمة، حيث تستحيل الحلول، تستحيل الحياة، وحيث لا خلاص إلا بنبيّ! لقد وفّر نبيُّ لبنان جرعة هائلة من الضحك على مدار الأيام الفائتة، جرعة كان يحتاجها بلدٌ داخلٌ في نفق انقطاع التيار الكهربائي والنفايات وتكميم الأفواه واليورانيوم والتعطيل ورسائل القبْع وسواها. بل إن لبنان بات قادراً بفضل نبيّه الجديد أن يكون فجأة في قلب العالم، بات الضحك عابراً للأقطار والقارات واللغات.
من بين تصريحاته الأكثر إثارة ليس حديثه أن بيده زلازل وفيروسات، ملمّحاً أن زلزالاً ضرب قبرص أخيراً كان بسببه، ومتوعداً المصريين الهازئين بزلازل قريبة، بل تأكيده عدم الظهور على أيّ قناة تلفزيونية فضائية، سوى قناة «سما» السورية، إحدى الناطقين باسم النظام السوري.
تلك «أحزاب الله» التي تصنع الساسة أو تدمرهم، تمدّ أيديها إلى آخر الأرض، بالإرهاب أو بالكبتاغون، تصنع العرافين، والأنبياء الهازلين، وما بعد بعد!
الآن، باتت الصورة أكثر اكتمالاً، إنه واحد من مهازل الممانعة، تلك التي لا تكفّ عن صناعة وبرمجة منجمي وعرّافي رأس السنة وتزويدهم بقائمة التوقعات المناسبة لهم، الحاملة تهديدات وبشائر ونذر.
لا يستبعد بالطبع أن يكون هناك أتباع للنبي الجديد المرِح، لقد سارت قوافل من السوريين ذات يوم إلى تيس في أقصى شمال البلاد زُعم أنه تيس حلوب يشفي وينجي وينجد، وليس مستبعداً أن يسيروا إلى تيس جديد، ما دام بالإمكان أن يتعلقّ المرء بأي قشة للنجاة.
تلك «أحزاب الله» التي تصنع الساسة أو تدمرهم، تمدّ أيديها إلى آخر الأرض، بالإرهاب أو بالكبتاغون، تصنع العرافين، والأنبياء الهازلين، وما بعد بعد!
كاتب فلسطيني سوري
القدس العربي
اترك تعليقاً