مؤسّسة رَند: جيمس دوبنس وفيليب غوردون وجيفري مارتيني
ترجمة: خليل الحاج صالح
يدفع الصراع في سورية جيلاً كاملاً من الشباب المسلمين نحو التطرّف، ويَقتل ويُقعِد مئات الآلاف من الأبرياء، ويُجبر ملايين السوريّين على الهرب من بيوتهم، ويُهدّد استقرار الدول المجاورة، كما يُجهد أواصر التضامن الأوربي، ويقوّي التعصب الديني في الولايات المتحدة ودول أخرى. ونحن هنا نقدّم ما نعتقد أنه الطريقة الأكثر عملية لإنهاء القتال.
بدأت هذه الحرب كانتفاضة شعبية ضدّ الحكم الاستبداديّ للرئيس بشار الأسد. ثم تطوّر الصراع إلى حرب “هوبزية” من الكلّ على الكلّ خلال السنوات الأربع السابقة، فالنظام يجابه المعارضة، والشيعة يجابهون السنّة، والعرب يجابهون الأكراد، والمعتدلون يجابهون المتطرّفين. وقد جَذبت هذه الحرب عشرات الآلاف من المقاتلين الأجانب من أوربا وأمريكا الشمالية وإفريقيا؛ كما فاقمت التنافس بين العربية السعودية وإيران وروسيا والولايات المتحدة ودول أخرى؛ وجذبت قوى مسلحة من اثنتي عشرة دولة خارجية تقريباً. وربما كان ممكناً، في زمن سابق، الجدل في أن الإطاحة بالأسد تستأهل التكلفة البشرية والإستراتيجية والسياسية والاقتصادية لتحقيق هذا الهدف، إلا أن هذا الزمن قد ولَّى بعيداً. عند هذه النقطة، يجب النظر إلى مسألة ما إذا كان الرئيس الأسد يبقى أو يرحل في المدى القريب بوصفها مسألة توافقية بحتة؛ إذ على الولايات المتحدة أن تسعى وراء الحصيلة الأسرع وقفاً للقتال.
ثمة مساران نحو السلام، مساران يختلفان في نتائجهما. المسار الأول هو التركيز على توسط في تسوية سياسية شاملة بين الأطراف السورية المتحاربة ورعاتهم الخارجيين، مُتضمّنة إصلاح مؤسسات الدولة وتشكيل حكومة جديدة وخطة لانتخابات، تترافق مع وقف لإطلاق النار والبدء بعملية إعادة البناء. أمّا المقاربة الثانية فهي ضمان اتّفاق على وقف فوري لإطلاق النار، تتبعه مفاوضات إضافية حول شكل الدولة والحكومة السورييَن اللتين يُعاد بناؤهما.
من الواضح أن المقاربة الأولى-وهي الهدف الحالي لعدد من الفاعلين الخارجيين الرئيسيّين ولمعظم المعارضة السوريّة- هي المفضلة. لكن، يبدو- لسوء الحظّ – أنه ما من حظوظ لأن تتمكّن الأطراف السورية المتخاصمة من الاتّفاق على ترتيبات تفصيلية لدولة سوريّة جديدة، ناهيك عن الاتّفاق على قيادتها، في أيّ وقت قريب. ما يمكن تحقيقه، في أفضل الأحوال، هو صيغة عامة لإصلاح مؤسّساتي قادم مصحوب بوقف لإطلاق النار. لكن، دون ترتيبات مُتّفق عليها ومصمّمة لضمان حماية وقف إطلاق النار، فإن القتال سيُستأنف قريباً وستنهار أي مفاوضات إضافية. ولذا فإننا نؤيّد التركيز على ضمان وقف فوريّ لإطلاق النار، تصحبه ترتيبات مُتّفق عليها دولياً لتعزيزه. ستكون الموافقة على ذلك صعبة، إلا أنه هدف أكثر واقعية، وسيكون تحقيقه مفضّلاً إلى حدّ بعيد قياساً إلى بديله الرئيس-الاستمرار أو التصاعد المؤكّدَين لحرب مُدمِّرة. وقد لا يكون وقف لإطلاق النار شرطاً كافياً لاستقرار سياسي مُرتجى، لكنه على الأرجح شرط ضروريّ.
فإذا أُوقف القتال بالاستناد إلى الحيازة الحالية للأرض، فستجد سورية نفسها مُقسّمة إجمالاً إلى أربع مناطق: منطقة في حيازة الحكومة؛ ومنطقة في حيازة الأكراد؛ ومنطقة في حيازة عناصر متنوّعة من المعارضة السنيّة؛ ومنطقة تسيطر عليها إلى حدّ كبير الدولة الإسلامية في العراق والشام. وبما أنه لا وجود لرعاة أجانب للدولة الإسلامية، فإنها مُحصَّنة إلى حد بعيد ضد التأثير الخارجي، ومن المؤكّد أن ترفض أي وقف لإطلاق النار، ولذا ستكون سورية مُقسّمة في المحصلة إلى ثلاث مناطق “آمنة” وافقت الأطراف على وقف القتال فيها، ومنطقة واحدة سيكون الأطراف الآخرون جميعاً أحراراً في شنّ حرب على الدولة الإسلامية فيها.
مناطق آمنة كأساس للسلام
يجب أن ينطلق أيّ مقترَح لاستقرار سورية من هدف توفير الأمن لما يُقدَّر بـ 16.6 مليون سوري لا يزالون يسكنون البلاد: سبعة ملايين منهم هم مِنْ النازحين داخلياً. ومقترحنا، إذ يضع هذا الهدف في المقدمة والمركز، فإنه يُقرّ أيضاً ثلاث حقائق أساسية وإن كانت قاسية. الحقيقة الأولى: إن أربع سنوات من القتال وأكثر من ربع مليون قتيل قد خلَّفت سورية مُقسّمة طائفياً وإثنياً. ويجب أن يكون تخفيف حدة هذه الانقسامات هدفاً على المدى البعيد، لكن يجب الاعتراف بها على المدى القصير. الحقيقة الثانية: إن إقصاء النظام الحالي عبر بناء قوة عسكرية للمعارضة، وهذه هي المقاربة الأساسية للولايات المتحدة وشركائها خلال السنوات الأربع الماضية، أمر نجاحه غير مُحتمل. لقد أظهرت روسيا وإيران، عبر التزامهما القوي ببقاء النظام، أن تصاعد الصراع لم يؤدِّ إلى استسلام الأسد، الأحرى أنه أدّى إلى تصعيد مضادّ ملحوظ، المزيد من القتل واللاجئين وتطرّف المعارضة. الحقيقة الثالثة: إن الخطوط الحالية للمعركة على الأرض، وهي بالكاد خطوط مثالية، يجب أن تكون قاعدة أساسية لأيّ هدنة. ويمكن أن تحدث مقايضات محدودة بالأراضي ضرورية لتسهيل فضّ الاشتباك بين المتقاتلين وتنفيذ وقف إطلاق النار.
إذا أُخذت هذه الحقائق بعين الاعتبار، فإن أفضل الآمال من أجل وقف المقتلة السوريّة هو القبول بمناطق مُتّفق عليها، تأخذ بعين الاعتبار التقسيمات الإثنو-طائفية والخطوط الحالية للمعركة فيما تُطوَّر قوة مُعتبرة للمجتمعات المحلّية. إن تجزئةً سوريةً إثنو-طائفية بعيدة عن أن تكون نظيفة، حالها في هذا حال معظم بلدان الشرق الأوسط. فمجتمعات سورية كانت قد تمازجت تاريخياً، لذا ما من قطاع متماسك من أرض مسكونة من جماعة بشرية مفردة. بالإضافة إلى ذلك، فإن العرب السنّة يشكّلون أكثر من 60 بالمئة من العدد الإجمالي للسكان. وهم متواجدون في كل مكان من البلاد، ويشكّلون أغلبية حتى في المناطق التي يسيطر عليها النظام، وبقوا موالين لنظام الأسد في حالات كثيرة.
إضافة إلى هذين التحذيرين الهامّين، فإن خريطة سورية الإثنو-طائفية طويلة المدى تعكس بالفعل تجمّعات مناطقيّة، تجمّعات قد مُتّنتْ بفعل النزوح الداخلي. فالأقلّيّتان العلويّة والمسيحيّة السوريّتان تتركّزان في المنطقة الغربية من البلاد المُتاخمة للبحر المتوسط شمال لبنان. ويسود الأكراد السوريون في منطقة الحدود الشمالية مع تركيا، ويقيم الدروز في جيوب بالجنوب، ويسود السنّة العرب في باقي سورية، مُشكّلين أغلبية ساحقة في المحور الرئيس في مناطق شرق البلاد الممتدّ من درعا جنوباً عبر دمشق وحمص وحماة وصولاً إلى حلب في الشمال. ويشمل هذا الجوف السنّي العربي وادي نهر الفرات أيضاً، المعقل الحالي للدولة الإسلامية في العراق والشام. (انظر الشكل 1 من أجل المزيد حول تفاصيل توزع التركيبة البشرية للبلاد ما قبل الحرب).
الشكل رقم 1: تصنيف التموضع الطائفي في سورية ما قبل الحرب
المصدر: البيانات من مهرداد آزادي “مشروع الخليج 2000 (Gulf/2000 Project) صفحة ويب، 2003.
ملاحظة: هذه الخريطة لا تعكس الانقسامات الطائفية المعقدة في المراكز السكانية الرئيسة.
ما من صدفة في أن جغرافيا سورية الإثنو-طائفية تنعكس في خطوط المعركة الحالية. والاستثناءات الرئيسة أن النظام الذي يسوده العلويون لا يزال يسيطر على دمشق ويحكم مناطق يغلب السنة على سكانها، ولا يزال الكثير منهم يؤيد الأسد. ومناطق السنة العرب غير الخاضعة لسيطرة النظام مُجزّأة بين مجموعات معارضة شتّى، تتفاوت بين المجموعات المعتدلة المدعومة من الولايات المتحدة إلى جبهة النصرة المرتبطة بالقاعدة والدولة الإسلامية في العراق والشام، إضافة إلى مجموعات أخرى تقع بين نهايتي هذا الطيف الأيديولوجي. وما يضيف طبقة إضافية من التعقيد أن مجموعات المعارضة السنية العربية تتواجد في مواقع مشتركة، بمعنى أن “المعتدلين” يعملون بالقرب من، وأحياناً جنباً إلى جنب، جبهة النصرة. (انظر الشكل 2 من أجل توزع السيطرة على الأرض).
الشكل رقم 2: السيطرة على الأرض من قبل الفاعلين المسلحين في شهر أيلول من العام 2015.
المصدر: معهد دراسات الحرب، “السيطرة على الأرض في سورية: في شهر أيلول من عامي 2014 و2015″، صفحة ويب، 14 أيلول 2015.
يشمل مقترحنا خلق ثلاث مناطق مُتفق عليها في سورية، واحدة متصلة جغرافياً واثنتان غير متصلتيَن. ستكون المنطقة الأولى، وقد رُسمتْ في الشكل 3 باللون البنّي، قطاعاً متّصلاً يسيطر عليه النظام ويمتد من ضواحي دمشق الجنوبية مروراً بحمص وطرطوس وبانياس واللاذقية وصولاً إلى الحدود سورية مع تركيا على ساحل البحر الأبيض المتوسط. وستكون المنطقة الثانية، وقد رُسمت باللون البنفسجي في الشكل 3، منطقة كردية غير متصلة تشمل شريط الأراضي الشمالي شرق حلب وصولاً إلى الحسكة والقامشلي، وكذلك أعلى شمال غرب البلاد، وهي أراضٍ تحت السيطرة الكردية سلفاً. وستتشكل المنطقة الثالثة، وقد رُسمت باللون الأخضر في الشكل 3، من كتلتيَن من الأراضي تسيطر عليها إلى حد بعيد المعارضة، الأولى في جنوب غرب البلاد حول درعا وتتركز الثانية في إدلب. وستكون حلب وحماة منطقتيَن يسيطر عليهما النظام والمعارضة، وسيُمكَّن النظام من إقامة خطّ إمداد إلى حلب، كما هو منعكس في التوزّع الحالي للقوى في البلاد. وستشمل المنطقة الرابعة، وقد رُسمت باللون الأصفر في الشكل 3 وتسيطر عليها الدولة الإسلامية في العراق والشام حالياً، ما تبقّى من البلاد، والشطر الأوسع منها مسكون بصورة متناثرة جدّاً، وفي هذه المنطقة ثلاثة مراكز سكانية رئيسة، هي دير الزور والرقة في وادي نهر الفرات وتدمر في وسط البلاد.
الشكل رقم 3: المناطق المُقترحة في سورية.
ستقع هذه المنطقة الرابعة تحت إدارة دولية فيما تُجلى منها الدولة الإسلامية في العراق والشام تدريجياً. وستُدار المناطق الثلاث من قبل المُسيطرين على الأرض في زمن وقف إطلاق النار. وسيتعيّن على القوى الخارجية، الداعمة حالياً لهذا الفصيل أو ذاك، أن تضمن الالتزام بوقف إطلاق النار. وبذا ستضمن روسيا وإيران التزام النظام؛ وستضمن الولايات المتحدة الالتزام الكردي؛ وستضمن تركيا والأردن التزام المعارضة السنية. وستتعاون الأطراف الخارجية كافة على إخراج الدولة الإسلامية في العراق والشام.
قد يستلزم إنشاء المناطق الآمنة الثلاث بعض تبادل لأراض بين الفصائل لترسيخ خطوط واضحة للهدنة وطرق الإمداد. وسيكون أحد أكثر هذه التنازلات صعوبة بالنسبة لنظام الأسد هو ترك أجزاء من حماة وحلب تحت سيطرة المعارضة السنية العربية المعتدلة. وستُعوّض هذه بانسحاب المعارضة المعتدلة من، أو على الأقل قبول سيطرة النظام على، جُزر صغيرة من أراض تُسيطر عليها ضمن منطقة النظام وإزالة ألويتها من مشارف دمشق مُمكِّنة النظام من تأمين العاصمة وعزل المتطرفين في المنطقة المفتوحة لإطلاق النار.
بعد وقف إطلاق النار مباشرة، إن لم يكن قبله، تدعو الأمم المتحدة ممثلي كلّ الفصائل السورية التي قبلت وقف إطلاق النار إلى الاجتماع للبدء في بناء قاعدة جديدة لدولة سوريّة موحّدة. ويُحتمل أن تستغرق استعادة سورية موحّدة زمناً، إن كان ممكناً إطلاقاً. فقد تكون الدولة الناتجة فيدرالية أو كونفدرالية. ويُحتمل أن تشمل منح استقلال موسَّع، بما فيه السيطرة على الأمن الداخلي، لسلطات محلية. ويمكن أن تشمل شكلاً صريحاً بعض الشيء من تقاسم طائفي للسلطة، كما هو الحال في لبنان بعد حربها الأهلية المديدة. ويمكن أن تقدِّم ضمانات وحمايات محدّدة لأقلّيات ضمن كل إقليم وفي البلاد ككلّ. ويمكن أن تستتبع إصلاحاً دستورياً هاماً لإعادة توزيع السلطة بين المؤسسات الوطنية وانتخابات لا يترشّح لها الأسد.
وفي النهاية، يُحتمل أن تستتبع إجراءات عملية يمكن للنظام المتمركز في دمشق عبرها أن يقدم خدمات ومرافق محددة لمختلف المناطق فيما تحتفظ السلطات المحلية بمسؤولية الحكم المحلي والأمن. وستكون هذه جميعاً قضايا يُنجزها السوريون تحت إشراف الأمم المتحدة وبتشجيع من القوى الخارجية. وإذ سيكون حلّ هذه القضايا عسيراً للغاية، فإنه أقل مشقّة من استمرار أمد القتل. ويتولّى مجلس لتنفيذ السلام the Peace Implementation Council المراقبة الدولية لوقف إطلاق النار ودعم العملية السياسية، وفق النموذج البوسني، ويتشكّل من الدول المذكورة أعلاه إضافة إلى دول أخرى مستعدة للمساهمة بصورة ذات معنى. ويكون هذا المجلس منتدباً وموكلاً من قبل مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة لضمان مراقبة وقف إطلاق النار. وتعيِّن الأمم المتحدة أو مجلس تنفيذ السلام مديراً دولياً لإنشاء حكم مؤقّت للمناطق التي تُحرّر من سيطرة الدولة الإسلامية في العراق والشام.
فإذا نحّينا الدولة الإسلامية في العراق والشام جانباً، فإن أسئلة ستُثار في ما يخصّ مشاركة مجموعات أخرى، تُعتبر من قبل كثيرين إرهابية، في وقف إطلاق النار. فعلى سبيل المثال، إن التزام حزب الله، في الحدّ الأدنى، بوقف إطلاق النار سيكون جوهرياً لسلامته. وشرط المشاركة في وقف إطلاق النار يجب أن يكون بنداً شرطيّاً في تعهّد موثوق لوقف العنف داخل سورية، ووقف التحريض على العنف من سورية ضد أهداف خارجية أيضاً. إنه لمن المؤكّد أن ترفض الدولة الإسلامية في العراق والشام مثل هذا التعهّد. وكذا سترفضه، وفقاً لكلّ الترجيحات، جبهة النصرة المرتبطة بالقاعدة. وبدلاً من الدخول في جدل طويل بين الرعاة الخارجيين في ما يخصّ مَنْ ومَنْ خارج هذا الترتيب، يفضّل غالباً أن يتم الاتّفاق على بنود وقف إطلاق النار بين القوى الخارجية وأكبر عدد ممكن من المجموعات الداخلية وأن يُترك المتطرّفون ليُقصوا أنفسهم برفضهم تعهّدات موثوقة عن التزامهم. ويجب أن يكون واضحاً لكلّ المجموعات أن الدعم الخارجي سيُقطع عن المجموعات التي تنتهك وقف إطلاق النار.
ومن المرجّح أن يكون مستوى معيّن من التواجد العسكري الدولي ضرورياً لمراقبة وضمان استمرار وقف إطلاق النار. إذ يمكن أن تنتشر قوات أجنبية في مناطق صديقة لها. فالقوات الروسية هي الخيار الصريح بالنسبة لمنطقة الحكومة. وقوات الولايات المتحدة خيار معقول بالنسبة للمنطقة الكردية، ذلك أن الولايات المتحدة في أفضل موقع لتهدئة مخاوف أنقرة من تحوّل هذه المنطقة الآمنة إلى قاعدة للهجمات الكردية على تركيا أو إلى نواة دولة. وأخيراً، ستكون قوات من دول سنية الضامن الخارجي المنطقي لمنطقة المعارضة السنية العربية- ربما قوات تركية في الشطر الشمالي من هذه المنطقة وقوات أردنية في الشطر الجنوبي. ويُرجّح أن يكون الشطر الشمالي من منطقة المعارضة السنية هو الأكثر إشكاليةً، ذلك أنه البقعة التي تتخالط فيها مجموعات المعارضة المتطرّفة والأكثر اعتدالاً.
ستكون المنطقة المُسيطَر عليها حالياً من قبل الدولة الإسلامية في العراق والشام استثناءً من المناطق الموائِمة للضامنين الخارجيين. وبغية تلافي تجدّد الصراع بين الأطراف على وقف إطلاق النار بعد السيطرة على هذه الأراضي، ستقع المنطقة التي تُسيطر عليها الدولة الإسلامية في العراق والشام تحت إدارة دولية إلى حين إنشاء حكومة سوريّة واسعة التمثيل. وإذ ستلحّ الحاجة إلى قوة دولية لصون الأمن في المناطق المحررة حديثاً من قبضة الدولة الإسلامية في العراق والشام، فقد تُستجلب من الدول الأعضاء في مجلس تنفيذ السلام. كما يمكن نشر قوة صغيرة من أقليات محايدة، ربما تحت رعاية الأمم المتحدة. ستراقب هذه القوة وقف إطلاق النار فحسب، ولا تفرضه. إذ يعود الإرغام على تنفيذ وقف إطلاق النار إلى القوى الكبرى مُستعينة بسطوتها على زبائنها المحليين.
التحدّي الديبلوماسيّ
فإذ تتّضح صعوبة إنجاز اتّفاق حول هذه الخطوط، يجب السعي لتحقيقه بصورة عاجلة نظراً إلى تكلفة الوضع الراهن، ونظراً أيضاً إلى الاحتمالات الأبعد مدىً لتحقيق اتّفاق سياسي شامل في أيّ وقت قريب. ويُشكِّل إنشاء المجموعة الدولية لدعم سورية International Syria Support Group-التي تجمع وزراء خارجية الدول الخارجية الفاعلة كافة بما فيها إيران والعربية السعودية-خطوة أولى مفيدة. وفيما يستمرّ الانقسام عميقاً بين اللاعبين الرئيسين حول أسئلة ما إذا كان يُقتضى رحيل الأسد وكيف ومتى، فإنهم قد اتّفقوا، على الأقل، على مناقشة وقف إطلاق النار وعلى عملية سياسية ستؤدي في نهاية المطاف إلى دستور جديد وانتخابات جديدة. تستطيع الأطراف، من حيث الإمكان، الاتفاق على طريق لوقف الحرب عبر الاعتراف بتكلفة الوضع الراهن وتحري خيارات تفتقر إلى نهايات قصوى ومُتعذرة.
إلا أن المجموعة الدولية لدعم سورية ليست كافية. فنظراً إلى استحالة إنجاز اتّفاق تفصيلي بين أكثر من 20 مشاركاً حول الطاولة، يجب على الولايات المتحدة أن تبادر إلى نقاشات جانبية منفردة تشمل روسيا وشركاء الولايات المتحدة الرئيسيين أمثال العربية السعودية وتركيا. وستكون الغاية من النقاش مع روسيا، وهي الآن لاعب أساسي بالنظر إلى دورها العسكري المتنامي في سورية، التوصل إلى معادلة تطمئن موسكو إلى أن نظام الأسد لن ينهار (وهذه مصلحة روسية جوهرية) في مقابل وقف لإطلاق النار بين النظام والمعارضة وحملة مشتركة ضد الدولة الإسلامية في العراق والشام. فإذا واصلت روسيا إصرارها على دعم النظام ببساطة وقصف كل عناصر المعارضة دون تمييز، فستستبقي الولايات المتحدة وآخرون دعمهم لمقاتلي المعارضة، وتتواصل الحرب، وستستكره روسيا العالم السني وتصبح هدفاً متنامياً للإرهابيين، كما بدا جلياً من خلال تفجير طائرة روسية فوق سيناء في 31 تشرين الأول 2015. والحقيقة أن بعض التوسع في مساعدات الولايات المتحدة إلى مجموعات المعارضة السنية لتمكينها من الصمود في وجه اعتداءات جديدة من النظام المدعوم روسياً يمكن أن يكون دليلاً ضرورياً لضمان تأييد روسيا لهذه المقاربة. لكن، إذا رغبت موسكو في الضغط من أجل تغييرات في السياسة policy changes من قبل دمشق-تشمل دعماً لوقف إطلاق النار واعترافاً باستقلال المعارضة في أجزاء من البلاد اقترحناها هنا-فيمكن لاتّفاق ديبلوماسي أن يكون قابلاً للتحقيق في المدى المتوسط. ستكون مثل هذه الحصيلة مُفضّلة على، وأكثر قابلية للتحقيق من مسعى غير مؤكّد ومكلف في تعزيز قدرة المعارضة على المساومة بأمل الفوز برضى روسيا بإزاحة الأسد. إن اتفاقاً أمريكياً-روسياً حيال هذه الخطوط سيُشكِّل أساساً صلباً لمحاولة جذب بلدان أخرى إلى هذا المقاربة.
وستكون العربية السعودية واحدة من البلدان التي يشكل جذبها إلى هذه المقاربة أشدّ مشقّة. فالرياض ملتزمة بقوة بإزاحة الأسد، وعزمها هذا يعزّزه التنافس مع رعاة الأسد في إيران. وفي الوقت الحالي، يعارض السعوديون أي اتفاق لا يشمل، على الأقل، جدولاً زمنياً ملموساً وقصير الأجل لرحيل الأسد. ويصرّ ممثلو السعودية أن البديل لحل سياسي مقبول هو “حل عسكري”-أي، إسقاط الأسد بالعنف والقضاء على النفوذ الإيراني. ويبدو أن السعوديين مستعدون لمواصلة الحرب طالما دعت الضرورة بغية استنزاف أو عزل إيران. وسيكون ثمة حاجة لأن تُقّنِع الولاياتُ المتحدة الرياضَ أن مسعاها هذا هو وصفة لورطة مكلفة، مع صعود التطرف في المنطقة وخارجها. ويمكن أن تكون الولايات المتحدة قادرة على اجتذاب العون من دول عربية سنية أخرى ركزت في أوقات سابقة على الحاجة إلى وقف الحرب وحماية السكان السنة، ومن هذه الأردن ومصر والإمارات العربية المتحدة. ويمكن للولايات المتحدة أن توضح للرياض أنه ما دامت الولايات المتحدة تعمل دون توقف على وقف القتل وحماية السنيين ومقاتلة الدولة الإسلامية في العراق والشام واحتواء إيران، فلن تكون طرفاً في تصعيد عسكري يهمّش كل المصالح الأخرى لصالح هدف إزاحة الأسد، والقضاء على النفوذ الإيراني في سورية، وهو في المحصلة نفوذ يسبق الحرب الجارية بعقود عديدة.
تركيا ستكون صعبة أيضاً. فحال العربية السعودية، تلتزم تركيا أيضاً إخراج الأسد، الذي تلومه على دفع مليوني لاجئ نحوها وحَفز نشوء الدولة الإسلامية في العراق والشام وتهيئة الظروف لكيان كردي محتمل في سورية. وهكذا فقد كانت سياسة أنقرة أن تدعم أية مجموعات تُبدي فعالية أشد في إزاحة الأسد. وكانت النتيجة نموّاً كارثياً في أعداد المتطرفين ومناخاً متساهلاً مع المقاتلين الأجانب كي يعبروا من تركيا إلى سورية. فيجب إقناع تركيا أن القوة والاستقلال الكرديين في سورية لن يتناميا إلا إذا استمرت الحرب وأن منطقة كردية سوريّة بحكم ذاتي، لكن غير مستقلة، يمكن أن تصبح في النهاية شريكاً لتركيا، كما كان حال كيان مشابه في شمال العراق. وكما هو الحال مع العربية السعودية، فإنه سيكون ثمة عنصر أساسيّ لجعل الأتراك يقومون بهذه الوثبة وهو معرفتهم أن الولايات المتحدة ودول أخرى لن توسِّع الحرب بغية إخراج الأسد أو منع حكم ذاتي كردي جهوي، إذا كان ثمة فرصة واقعية لإنهائها بناءً على ما تقدم هنا.
اعتراضات مُحتملة
سيُهاجم نُقاد هذا المقترح مستندين إلى أسس متعددة. أول هذه الأسس أن تقسيم سورية إلى مناطق مُتّفق عليها يمكن أن يُسعِّر التطهير الإثني والطائفي لسكان الأقليات الذين بقوا في هذه المناطق. وكتّاب هذه الخطة لا يستخفّون باحتمال تقاتل بين مجتمعات يسبق ويعقب تنفيذ هذه الخطة. ففي الأحوال كافة، يجب تقييم هذا الاحتمال في مقابل يقينية مقتلة نعرف أنها تدور دون نهاية مرئيّة لها بمثل هذه العواقب السياسية والجيوسياسية المدمِّرة. يُضاف إلى هذا أن هذه الخطة تضع ضامنين خارجيين قادرين في مكانة يراقبون منها ويفرضون وقف إطلاق النار الذي سيعمل كرادع لأعمال القتل الانتقامية يفوق في قوته تلك الروادع القائمة اليوم. ما من شك في أن إدامة الصراع الدائر لا يُحتمل أن تحول دون تقسيم دائم لسورية؛ في الحقيقة، من المُرجَّح أن يؤدّي استمرار الصراع إلى المزيد من التقسيم والمزيد من التطهير الإثني. وسيكون من الأهمية بمكان أن يتفق مجلس الأمن الدولي وأعضاء مجلس تنفيذ السلام على ألَّا يعتبروا هذا التقسيم بوصفه تقسيماً دائماً وأن يستثمروا تأثيرهم على الأطراف السورية لتثبيت اتفاق حول مخطَّط لدولة سورية جديدة.
وبالنظر إلى الأعمال العدائية الضارية من قبل الأسد على شعب سورية، فإن ثمة نقد آخر يقول إن قبول أي شيء أقل من رحيل فوري للأسد سيكون أمراً لا أخلاقياً. الأسد ديكتاتور بربري يستحقّ أن يُقدّم إلى العدالة. فإذا كان ثمة طريقة عملية لإزاحته عن السلطة وضمان أن تُحكم سورية بصورة محترمة وشاملة بعد رحيله، فسيكون ذلك أفضل من قبول وقف لإطلاق النار دون البت في مصيره. لكن هذا الخيار غير موجود في العالم الواقعي. إذ لم تنجح أربعة أعوام من التصعيد العسكري المتدرج والعزلة المفروضة على سورية في دفع روسيا وإيران إلى إزاحة الأسد، بل، بدلاً من ذلك، أدت إلى مضاعفة حمايته. ثمة مبرّر واهٍ للاعتقاد في أن زيادة متواضعة في دعم المعارضة-سواء في صيغة أسلحة أكثر تطوّراً أو مناطق حظر طيران أو حتى هجمات عسكرية مباشرة-ستغيّر الحال، وأن لمثل هذه الخطوات تكلفة وعواقب أخرى.
والسؤال الحقيقي هو ما إذا كان ما نقترحه من وقف لإطلاق النار على طول الخطوط يمكن أن يتحقق. يجب ألّا يتملكنّ أحداً أوهامٌ حيال صعوبة فعل ذلك. إذ قد يشعر الأسد، مستنداً بقوة إلى روسيا وإيران، أن الوقت في صالحه وأن ما من سبب يدعوه لوقف القتل إلى أن يكون قد سحق المعارضة الأساسية، بينما تبدو معظم المجموعات المعارضة ورعاتها مُصمّمة بالقدر نفسه على القتال حتى تحقيق هدفها الأعظم في تحطيم النظام.
لكن من الصحيح أيضاً أن مُقترحاً لوقف جدّي لإطلاق النار على طول خطوط القتال لم يُقدَّم قطّ إلى الأطراف السورية. إنّ تأكيد أنّ النظام يمكنه الاستمرار في حكم دمشق ومدن أخرى على طول الشطر الغربي من سورية يمكن أن يكون كافياً لإقناع الأسد ورعاته الخارجيين بأن وقف القتال يصبّ في مصلحتهم في مقابل حرب دائمة ومكلفة لا يمكن التنبؤ بحصيلتها. في أية حال، فإنه من الخطأ انتقاد مقترحنا بوصفه مقترحاً غير عمليّ على أرضية أن الأسد لن يوافق أبداً على نقل فعليّ للسلطة، فيما يؤيّد في المقابل مقاربة تُلزمه أن يتنحّى عن السلطة كلّياً.
أمّا بالنسبة إلى المعارضة ورعاتها، فلم يكونوا مطّلعين على ما نطرحه هنا: وقف إطلاق نار يُوقف أخيراً أعمال الأسد العدائية، بما فيها البراميل المتفجّرة؛ وضمان حكم ذاتي محلي، يؤيّده المجتمع الدولي ويقبل به النظام في المناطق التي تسيطر عليها الأطراف حالياً؛ وإيصال مساعدات إنسانية تمسّ حاجة السكان المحاصرين إليها؛ وإطلاق سراح السجناء؛ وعملية مُتوافق عليها لفصل الهياكل السياسية في سورية بشكل نهائي يمكن أن تشمل مساراً للوصول إلى ما بعد الأسد.
ويحتمل أن يكون الانتقاد الثالث هو افتقار ملموس لإرادة سياسية من قبل الأطراف الخارجية في العمل كضامنين للمناطق الآمنة. وهذا المقترح، في نهاية المطاف، يستلزم أن تعمل القوات الأمريكية في المناطق الكردية؛ وأن تضمن توليفة ما من قوات تركية وأردنية ألّا يُجدد المعارضون السنة العرب هجماتهم على دمشق وحمص؛ وأن توافق روسيا وإيران على لجم النظام عن محاولة إعادة احتلال حلب ودرعا وغيرهما من المراكز السكانية التي تقع تحت سيطرة السنة العرب. ولن يكون التعاون بين هذه الحكومات الخارجية يسيراً، لكنه أسهل بكثير من تعاونها مع زبائنها على الأرض. والأمر الأساس لضمان التعاون الضروري بين كلّ الأطراف الخارجية هو إقناعهم بأن هذه الإجراءات هي الخيار الأقل سوءاً عندما يكون البديل هو استمرار الحرب الأوسع بكل تبعاتها.
ويُحتمل أن يُوجه نقد أخير إلى مقترحنا هذا يقول إن تصميم العملية الذي ندافع عنه هنا لا يتوافق مع أفضل الممارسات في حل الصراعات وإحلال الاستقرار. إذ يمكن، بوجه خاص، الجدل في أن المناطق المتصلة أفضل من المناطق غير المتصلة أو في وجوب أن تسبق تسوية سياسية وقفاً لإطلاق النار ما يجعل وقف إطلاق النار هذا قابلاً للاستدامة. وبالفعل، فإن هذه الحصائل هي الأفضل، لكن تحقيقها ليس ممكناً في أي وقت قريب. ونحن نعتقد أن بدائل الأمد القريب الواقعية هي السلام المضطرب والهش الذي وصفناه هنا وحسب أو استمرار الحرب بوتيرة شديدة في المستقبل. وعلى أولئك الذين يعتقدون أن هذه المقاربة غير عملية أن يشرحوا لنا كيف تكون حصيلتهم المفضلة أكثر قابلية للتحقق؛ وعلى أولئك الذين يعترضون عليها أن يفسّروا لنا لِمَ يكون استمرار الحرب أفضل منها.
ليس لأحد أن يدّعي وجود طريق نحو الأمام في سورية دون تكلفة أو مجازفة كبيرتيَن. لكن، كما لاحظ الرئيس أوباما مؤخراً، إن تقديم “أفكار غير مكتملة وكأنها حلولاً” أو “التقليل من خطر التحديات الكامنة في الوضع” لا يساعدان. وبدلاً من ذلك فقد دعا منتقديه لأن يقولوا ” على وجه التخصيص” و”على وجه الدقة” ما الذي كان يمكن أن يفعلوه وكيف كانوا ليفعلوه.
هذا المقترح محاولة لفعل ذلك بالضبط. وهو لا يخلو من التحديات أو السلبيات أو المخاطر لكننا نعتقد أنه أفضل بكثير من الوضع الراهن وأكثر عملية بكثير من أي من البدائل المُتاحة.
اترك تعليقاً