خيار المعارضة هو الوفاء لبطولات الشعب وحقوقه ورفض الاستسلام
د.برهان غليون
أصبح من الواضح الآن، بعد ما تسرب من المحادثات التي دارت بين الوزير الأمريكي جون كيري ومنسق الهيئة العليا للمفاوضات الدكتور رياض حجاب أن صفقة قد عقدت بين واشنطن وموسكو تتولى بموجبها روسيا إنهاء الملف السوري على قاعدة تصفية المعارضة المسلحة وتأمين مقعد صغير للمعارضة السياسية في حكومة “وحدة وطنية” تنافي اسمها. وهذا يعني أن الحل الذي تم الاتفاق عليه بين الدولتين الأكبر هو الحسم العسكري لصالح النظام مع التمهيد لجلب المعارضة إلى الطاولة ليس لمفاوضات حول تشكيل هيئة حاكمة انتقالية، وإنما للتوقيع على صك الاستسلام.
والحقيقة أن هذا الاستسلام لن يتأخر إلى أن يتم القضاء على آخر مواقع المعارضة المسلحة ولكنه يبدأ منذ الآن بطلب الانصياع لإملاءات موسكو وواشنطن في استبعاد ممثلي المعارضة المسلحة من الوفد المفاوض واستبدالهم بشخصيات محسوبة على موسكو وطهران ومقبولة من النظام، وفي التوقف عن المطالبة بإجراءات الثقة أو بفصل الملف الانساني وحماية المدنيين من القصف والتجويع المنهجي عن الملف السياسي، والقبول بوجود الأسد وحقه في المشاركة في الانتخابات الرئاسية القادمة، والقبول بحكومة وحدة وطنية في إطار النظام القائم والكف عن الحلم بالانتقال نحو نظام ديمقراطي يوقف آلة القمع والترويع والارهاب التي حكمت السوريين حتى الآن وتحكمت بهم ويفتح الباب أمام عهد من الحرية والكرامة وحكم القانون والمساواة.
مثل هذه النهاية الكارثية لثورة ضحى فيها الشعب بأكثر من نصف مليون شهيد وملايين الجرحى والمعطوبين للأبد والمهجرين والمشردين، ودمر فيها ٧٠ بالمئة من العمران والبنى التحتية والمرافق العامة، لاتعني القضاء على آمال الشعب السوري في التحرر من كابوس إرهاب الدولة الذي قبع على صدره عشرات السنين وإنما تحطيم معنوياتها وثقته بنفسه إلى الأبد والقضاء على أي حلم بالتحرر والانتعتاق لشعوب المنطقة بأسرها.
تعتقد موسكو التي أعلنت عن وجود طاولة مفاوضات أخرى في دمشق، وتعتقد واشنطن التي هددت بقطع المساعدات أنه لايوجد أمام المعارضة في هذه الحال خيار آخر غير الإذعان أو الخروج من اللعبة.
والحال، إذا لم يكن الحل المطروح هو تسوية تسمح بوضع حد لنظام الارهاب وفتح طريق الانتقال الديمقراطي، فليس هناك أي سبب كي تذهب المعارضة بنفسها إلى المذبحة المعدة لها. وليس هناك أي حرج على المعارضة في أن ترفض الدخول في محادثات هدفها تصفية الثورة والمعارضة وتثبيت نظام الجريمة المنظمة والإبادة الجماعية كما اعترفت به تقارير المنظمات الحقوقية والانسانية الدولية نفسها.
ليس للمعارضة أي اعتراض على أن يضم النظام القائم لحكومته سوريين يعملون لصالح الروس أو الايرانيين أو الأمريكيين أو غيرهم. فهذا شأنه. لكن مثل هذا العمل لا علاقة له بمفاوضات الحل السياسي المنشود والمطروح، ولن ينجم عنه سوى حكومة المزيد من الوصاية الأجنبية والانقسام الوطني بدل “حكومة الوحدة الوطنية” المزعومة. وهو لن يقدم أي حل للأزمة ولن يخرج البلاد من الحرب.
فالمشكلة ليست في ايجاد بعض المناصب الوزارية لمعارضين باطلين عن العمل، وإنما الاعتراف بحق الشعب في اختيار ممثليه وقادته، وفي ممارسة حقوقه الأساسية التي تضمن له العدالة والمساواة والحرية والكرامة. المهم هو الشعب ومكانته في النظام الجديد أما المعارضة ومناصبها فأمر ثانوي. واستبعاد هذا الشعب من جديد، وتصفية ما نجم عن ثورته من قوى وتشكيلات، هو الهدف الرئيسي للمخطط الروسي الايراني المدعوم من واشنطن اليوم.
قبول المعارضة بالمساومة على حقوق الشعب هذه لن ينهي النزاع، ولن ينقذها من مصيرها المحتوم. بالعكس، برفضها الانتحار تحتفظ المعارضة بشرف تمثيل المقاومة الشعبية الباسلة التي هزمت أكثر من دولة وجيش، وتضمن أن تولد من صلبها في المستقبل معارضة سياسية فعلية، وأن لا تذهب دماء الشهداء سدا، وأن لا تنجح دول الانتداب الجديد في غسل النظام القاتل من جرائمه، وتبرئته من المسؤولية عن الكارثة التي حلت بالوطن والشعب، وأن تحول دون إدانة الشعب وإعادة إضفاء الشرعية على حكم القتلة المسعورين.
لا الروس ولا الامريكيون ولا الايرانيون ولا أي دولة أخرى قادرة على فرض الهزيمة على شعب قرر الخلاص والانعتاق. وإذا لم يكن هناك خيار آخر أمام السوريين غير الخيار الفيتنامي والأفغاني للاحتفاظ بحقهم وسيادتهم على أرضهم وتقرير مصيرهم، وهو أصعب الخيارات وأكثرها إيلاما، فهم ليسوا أقل شجاعة ولا بطولة من الآخرين. والشعب الذي يقبل بالإذعان ويتخلى عن كرامته لا يبقى لديه سبب للبقاء والارتقاء، ويعيش في التعاسة والذل إلى أن ينفرط عقده ويذوب.
اترك تعليقاً