رئيس التحرير
في القرن الرابع الهجري ظهر مجلد موسوعي ضخم للثعالبي بعنوان:(يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر)، وفيه ترجمة مفصلة لمئات أعلام الأدباء من أهل ذلك القرن.. ومن أكثر ماشد انتباهي أنه تحدث طويلاً عن شاعر من مشاهير القرن الرابع، لا أتذكر اسمه الأول اليوم، وأظن أن كنيته النوبختي، أفرد له الثعالبي صفحات طويلة من الترجمة.. وفيه يروي لذلك النوبختي عشرات القصائد الطويلة والبليغة، التي تشبه معلقات الجاهليين، كلها في وصف “اليبرق” و”المحشي” و”أصابع زينب” و”الهريسة” و”اللوزينج” و”كيس الحَمَّام” و”أباريق الغسيل”.. وغير ذلك..
لا أدري لمَ ذَكَّرني هذا النوبختي بدولة قطر العظمى.. ربما لأن الرجل يعيش عماء فقدان الأحاسيس والمشاعر، ويفتقد الموهبة والاستبصار الفذ والشاعري الحقيقي بالحياة، مثلما تفتقر قَطَر إلى السياسة في تدخلاتها السياسية التي تصر على أن تكون أبرز مواهبها.. ومثلما أن النوبختي الذي فقد باصرة الشعراء، وحِسَّهم اللماح بالجمال، كذلك افتقدت ـ هذه الدولة الميكروسكوبية قَطَر ـ كل ماله صلة بالسياسة والإنسانية.
قَطَر التي لا تمتاز بشيء إلا في كونها بحراً لُجِّياً ينتج الغاز ليوزع في أسواق للعالم، لم ترَ في سوريا التي تتدخل فيها منذ سبع سنوات، وعلى جميع الأصعدة السياسية والعسكرية والمدنية، لا نظاماً يقتل شعبه ولا براميل متفجرة تتساقط على رؤوس الناس، فتمزق الأطفال وتفتت منازل المدنيين، وتقطع أشلاء الكبار والصغار، لكنها رأت في سوريا “داعش”!!، ورأت أن من واجبها التدخل في كل صغيرة وكبيرة. قَطَر لم ترَ ثورة سوريا، ولا أبصرت عبر “جزيرتها” ملايين المتظاهرين، وأكثر من ثمانين نقطة تظاهر، وأمواج بشرية هادرة كالمحيط من ملايين المتظاهرين الغاضبين في كل ساحات سوريا، لكنها رأت “جبهة النصرة وجيش الإسلام”، ولم تلمحْ يوماً، ولو بالصدفة، أهل سوريا ينزحون بالملايين، ويُقتلون بالملايين، ويُصب على رؤوسهم حميم نيران الأسلحة الكيماوية، وهي التي لم تستضفْ يوماً عائلة سورية نازحة، لكنها تعرفت علينا من خلال ذلك الطفح الجلدي الثؤلولي المسمى أعضاء الائتلاف، وهي تعرف رياض حجاب ورياض نعسان آغا ومعاذ الخطيب؛ لكنها لا تعرف باسل شحادة وحمزة الخطيب.
قطر التي افتدت صياديها المخطوفين في العراق بتهجير أربع مدن سورية، مثلما يؤثر لاعب الشطرنج بيدقه على وزير خصمه المقابل، يبدو أنها تحمل رسالة وظيفية في هذا العالم.. رسالة تشبه العماء الشعري الذي يغوص في المياه الآسنة، ومسخ الإحساس العميق بالحياة، كشاعر مثل ذلك النوبختي؛ لم يرَ في هذه الحياة الجمال والروعة التي تستحضر الموهبة، وتفتق فنون الإبداع. لم يرَ النوبختي الشجر والطبيعة والجبال والأزهار والينابيع وصدح الطير.. لم يرَ عذوبة الطفولة ولا الحب ولا فتون الجمال الكامن في كل تضاريس هذا الكون البديع، لم يحسنْ أن يحب ولا أن يُبغِض، ولا أن يهجو ولا أن يمدح أو يرثي عزيزاً أو يتفجع على حبيب غائب، لكنه فتن باليبرق وأباريق المخلل، ولم يسكب موهبته المتدفقة ولغته البالغة التأثير في كل ما يجذب الشعراء ويغريهم، لكنه شُغِفَ بأصابع زينب وليفة وكيس الحَمَّام، مثل دولة قطر التي لم ترَ الشام، ولا مأساة الشام، ولا آلاف المعتقلين من أحرار وحرائر الشام، لكنها شُغِفت بـ”النصرة”، وذابت لوعةً بـ”أحرار الشام”.
قطر صديقة الشعب السوري، تنفق مئات الملايين على دعم الإرهاب مثلما تنفق على محاربة الإرهاب، وتسعى مع المجتمع الدولي لمحاربة الجهاديين، ثم تنفق عليهم الملايين لتُسَهِّل وصولهم إلى بلادنا.. وتستقبل أعوان النظام وجهابذة المعارضة ودهاقنتها المتصرفين في الأمور، وتساعد “ديمستورا” على كل ما يسهل مهمته، وتعرقل في نفس الوقت المفاوضات كلما وجدت حكمة وضرورة، وفي سبيل واجباتها الإنسانية والعربية والإسلامية، تستعين بالشيطان، ولكن لا بأس من العطف والإنفاق على الأخوان، وتعاكس “الاتجاه المعاكس”، وتنفق المزيد والمزيد على كل ما من شأنه أن يطيل أزمة السوريين، ويكاثر فاتورة المؤمرات ضدهم، ويفجر جداول الدماء والخراب العام في سوريا.
ومثلما أن بعض النزعات الهوسية التي تشبه حكة الجرب لا تترك خياراً لأصحابها أن يكفوا وأن يحيدوا ويدعوا ماهم عليه، كموهبة النوبختي، لا تخلي سبيله فيترك الشعر وينصرف عنه إلى ماهو أجدى وأكثر فائدة له، أويدعه لغيره من الشعراء المبدعين وأهل الموهبة، كذلك فإن حكة الجرب المتأصلة لا تفارق قطر، فتجعلها تفارق وساوس الدول العظمى وهواجس الأمم الكبرى على خارطة هذا الكوكب، في تدخلها فيما يعنيها ولا يعنيها، وفيما يجدر بها وبحجمها الحقيقي، وهي الدولة التي تقلُّ عدداً عن بعض مباريات كرة القدم في سوريا، التي تجمع على مدرجاتها أحياناً من المتفرجين أكثر من عدد سكان قطر.
حين تورط المتنبي ذات مرة بالقول:
إني على شَغَفي بما في خُمْرِها * لأعفُّ عما في سراويلاتِها
قال عنه الصاحب بن عباد: قاتله الله.. واللهِ إن كثيراً من الخَنَا والزِنا والفجور أشرفُ من هذا العفاف الباهت البارد الفظ، والذي يفتقد براءة الطهر والكلمة الحيية الفاضلة والطاهرة.. ومثل مقاربة الصاحب بن عباد، يحق لنا أن نقول: والله إن كثيراً من الأعداء خيرٌ من هذا الصديق اللدود المدعو دولة قطر، وإن أفجر الذين فتكوا بالسورين ودعموا أعداءهم، هم أشرف من قطر، ومن دعم قطر، ومن مساعدات قطر، ومن عروبة قطر، ومن إسلام قطر، ومن إنسانية قطر.
اترك تعليقاً