الرسالة الأولى
بداية… أرجو أن تُقرأ رسالتي هذه حتى نهايتها. رسالة من شخص يكتب إليك، ويريد من الكتابة أن تكون علاجًا لأحوال نفسية وجسدية مؤلمة كُنتَ أنت أحد مسبّبيها، فمن حقه عليك الآن أن تقرأ. ليس مجهولًا مَنْ يكتب إليك الآن؛ لستُ مجهولًا من جانبك أنت على الأقل، فقد عشنا فترة من الزمن في المكان ذاته، وكان بيننا حائط وسور من حديد فحسب، هناك في سجن “سدّ البعث” ببلدة “المنصورة”.
يا سجّاني! لا تزال كوابيس الاعتقال والتعذيب وإجرام دولة خلافتكم المزعومة تطاردني، وتطارد الناجين وعائلات المغيّبين. لم تنته بعدُ آلام الاعتقال. أكاد أجزم أن جميع المعتقلين والمعتقلات يتعرضون لكوابيس بشكل دوري، وأنا منهم، رغم مرور سنوات طويلة على نجاتنا من براثنكم، وابتعادنا آلاف الكيلومترات عنكم. هل نجونا حقًا؟
لا يزال مكتبكم الأمني و”النقطة 11″(1) ودوريات حسبتكم، يتسلّلون الى أحلامنا ويداهموننا في أثناء نومنا، لنستيقظ، ونقضي نهارنا البائس محاولين التخلّص من آثار الكابوس، وما يسبّبه من آلام جسدية.
أتعرف أيها السجان السجين أنَّ هذه الكوابيس ليست من ذاك النوع المعتاد الذي يراودنا بعد مشاهدة فيلم رعب؟ هذا النوع من توهّمات عقل النائم، تلك التي نستيقظ بعدها فنطردها من ذاكرتنا ونبتسم لأنها كانت مجرد أحلام وتوهّمات. لا، ليس هذا. أنت تعرف وأنا أعرف أي نوع أقصد: إنها الكوابيس الناجمة عن اختبار حقيقي وشخصي للرعب والعذاب ومشاهد القتل والدماء وفظاعات أخرى عيّشتمونيها هناك.
هل تتخيل يا سجاني أن تستيقظ وتتحسّس فراشك، فتجده مبتلًا! كوابيسي عنكم تجعلني أتبوّل في فراشي؛ عندها، عندما أتحسّسُ فراشي المُبتلَّ، أُدركُ أنَّي كُنتُ هناك، كُنتُ هناكَ فعلًا، أنتَ وأنا في ذلك المشهد المرعب.
هل تتبوّل في فِراشكَ الآن يا سجّان؟ وعندما تستيقظ، هل تتحسّس جسدك لتلامس ندوبك وغيرها من آثار التعذيب التي لا تزول مع الزمن؟ هل على طاولتك صورة لأخٍ فقدتَهُ تحت التعذيب يا سجّاني؟
أتصفّح فيسبوك فأراكم لا تزالون تخطفون، لا تزالون تعذبون، ولا يزال فَقدُ أشخاص آخرين مستمرًا متواصلًا. وأرى أيضًا وجوه كُثر منكم على مبعدة أمتار هنا في أوروبا “الكافرة”، على ما كنتم تقولون. أرى صوركم، وأنت ترفلون بنعيم “الكفار”. هل تدرك يا سجّاني، هل تدرك هذه الحال: مَنْ عذَّبونا، مَنْ اختطفونا، مَنْ قَتَلَوا أحبابنا، من أمثالك، أحرار طُلقاء هنا. حتى مَنْ ساقه منهم حظه العاثر إلى السجن، لن يلاقي ما لاقينا في سجونكم. بطبيعة الحال، لا داعي لأن أشرح لك الفارق بين سجن “سد البعث”، حيث فعلتَ ما فعلتَ بنا، أنتَ وجلادوك، وسجنك الآن. بقيتُ وأمثالي في سجون الخوف التي زرعتموها في نفوسنا، الخوف من كوابيس تدهم نومنا، أو سكاكين تطاول أعناقنا، أو متفجرات تحصدنا، ونحن غافلون.
يا سجّاني! في كل صباح، يكاد يطير ما بقي فيَّ من عقل حين أنظر إلى أطفالي، فأفكر في ما قد يعترضهم من جحيم صنعتموه هناك، وتصنعونه هنا. جحيم عيّشتمونا فيه هناك، جحيم لا أتمناه لأحد، لا هناك، ولا هنا، ولا في أي مكان آخر. أفكر أيضًا في أطفالك، لا أريد لهم هذا الأذى؛ كم أتمنى أن ينجو هم أيضًا، لكن من دون كوابيس.
لا أدري إن كنت سأُشفى يومًا من كوابيسي وأوجاعي ومخاوفي وهواجسي، لكن يا سجّاني يقولون: إن للعدالة تأثيرًا علاجيًا، أو تأثيرًا مُلطِّفًا على الأقل، وبالعكس فإنَّ عدم تحقيق العدالة، واستمرار الإفلات من العقاب، واستمرار الجرائم، تعزّز جميعًا الشعورَ بالظلم عندنا، نحن الضحايا، وأُسرَ الضحايا، وهذا بدوره سيفاقم معاناتنا النفسية، فينعكس على حياتنا بأسرها. أريد أن أُشفى، أن أتخفّف منكم.
لك ولي، أريد عدالة إنصاف، لا عدالة انتقام. عدالة هي مخرجنا، وهي خلاصنا.
إن قبلت، ستكون هنالك رسائل أخرى، فإلى رسالة قادمة.
فرنسا 6/8/2019
***
الرسالة الثانية
في رسالتي الثانية، ما زلتُ غير مستقرّ بعد على تسمية أُخاطبكَ بها. في الرسالة الأولى، خاطبتكَ بـ “سجّاني”، وأنت اليوم سجين، ولا أريد أن أخاطبكَ بوصفك سجينًا، لأنك لن تكون في حالي وحال من كانوا معي في سجنك ذاك، أخذتَ المكان، لكنك لن تأخذ الصفة. كما لا أريد لك هذا الوصف؛ لأنه يضعك في مصافّ مئات آلاف المسجونين هناك في بلدنا المُستباح، ممَنْ لا نعرف مصائر أكثرهم. لا أراك منهم، ولا أرغب بأي شكل من الأشكال أن ترتقي إليهم، فتُسمّى بما يُسمّون. هذا يحطّ من قدرهم ويغبنهم حقّهم؛ وإلى أن أجد صيغة ما مناسبة، سأُبقي الوضع على ما هو عليه، فأستخدم صيغ المُخاطب وضمائره. لكن هل لديك اقتراح ما حول التسمية؟
في هذه المدينة، حيث أعيشُ، وحيث أتجولُ يوميًا من دون هدف واضح، حالي الآن، أعانق وجعي وأرجوه ألَّا يؤلمني، لكنه يفعل. مررتُ في إحدى جولاتي أمام ورشة بناء ضخمة جدًا. غرف المشرفين في هذه الورشة تُذكّرني بذلك المكان الذي كُنتم تخيفوننا داخله، في “سد البعث” ببلدة “المنصورة”. الورشة وذاك المكان يتشابهان في هندستهما. هنا خطرتَ على بالي مرة أخرى، تذكّرتُ ملامحَكَ وتعابيرَ وجهكَ وعقدة حاجبيك، وعينيك اللتين تشبهان عيني ذئب تلوبان الزنازين بحثًا عن فريسة.
على ذكر المدينة، هنالك قول عربي شائع نصّه أن “لكل امرئ من اسمه نصيب”. هل ينطبق هذا القول على المدن كذلك؟ أعتقد أن نعم. اسم المدينة Blois، وتُلفظ بالفرنسية مثل ما نلفظ في العربية كلمة “بلوى”. والبلوى كما تعلم من البلاء؛ وبلائي أنتم أهم أسبابه. أتعرف لماذا؟ لأنني أحملكم معي؛ أحمل كوابيسي: “أبو علي الشرعي”، و”أبو لقمان”، و”أبو أنس العراقي”، و”خلف الحلوس”، و”أبو حمزة الرياضيات”، و”أبو الهمام”، و”عبد العزيز العمر”، وأنت معي. لا تغيب أدقّ تفاصيل وجوهكم عن بالي، رغم طول السنين.
أتعرف نعمة النسيان يا سجّاني؟
كنتُ أعتقدُ أنّي سأنسى بمرور الزمن، وسينمحي من ذاكرتي كل ذلك الألم، لكنّي لم أنَلْ بعد هذه المكافأة. أُقرُّ أنكم أنسيتموني كثيرًا من الأمور. أحيانًا، يفاجئني أحدهم بسؤال، إلَّا أنّي “أَفصلُ”، أعجز عن الردّ، رغم معرفتي الجواب. هذا سببتموه لي أنتم، هناك في “المنصورة”. طوّرت آلية دفاعية تحمي ما في عقلي من أسماء ومعلومات، لكنه استقرّ وأصبح عادة. لا بدّ أن ذلك حدث بعد جلسات التحقيق والصعق بالكهرباء على الرأس والخاصرة وما بين الفخذين. إلى الآن، لا أستطيع أن أحفظ رقم هاتفي؛ لا أستطيع تذكّر أرقام مهمة أخرى، هي جزء من حياتي اليومية، كلمات السر للإيميل ولتطبيقات دائرة العمل والشؤون الاجتماعية وغيرها، لا أستطيع تذكّر تواريخ ميلاد أفراد عائلتي.
لكني لا أنساكم أنتم الثمانية، لا أنسى أسماءكم، لا أنسى أدقّ تعبير في وجوهكم، لا أنسى الشرر المتطاير من عيونكم. ولن أنسى.
في هذه المدينة، يستفزّني الشتاء بأمطاره الغزيرة، وأنا ابن الصحراء العطشى للمطر. هنا أهرب من المطر الذي كان يفرحني دائمًا، وأحب المشي تحته؛ ذات مرة التجأتُ إلى مقهى هربًا من لسعاته. هناك بدا لي خيال صورتك غير الواضحة تمامًا مرتسمًا بسيلان المطر على زجاج المقهى. لا أدري لماذا ذَكَّرني بالجدار الملاصق لمكان الطبخ في تلك الزنزانة في سجن “سدّ البعث” في “المنصورة”!
هذا التذكّر يستدعي السؤال: “هل تنقش على جدران زنزانتكَ الآن تواريخ وذكريات تتداعى”؟ أتذكّرُ نظرة عينيكَ حين قرأتَ ما كَتَبَ “عيد الشمسي”، الشاب البدوي الأسمر المبتسم دائمًا ـ الفتى القادم من بادية مدينة “سلوك” ـ على الحائط الملاصق لمكان الطبخ، حيث كان يتكثَّف ويسيل البخار المُتصاعد من أواني الطبخ. حال الحائط حينها تشبه تمامًا حال زجاج المقهى الآن.
سؤال آخر: “ما الذي فعلهُ الفتى “عيد” كي تُنزلا ما أنزلتما به أنت و”أبو علي الشرعي” من عذاب، ما الذي خَطهُ “عيد” على الجدار؟
الآن أتذكّر المشهد بوضوح، لأنيّ على الأغلب من كان يقوم وقتها بأعمال الطبخ على قِلّتها. كان “عيد” يقابل جلستي أمام السخانة الكهربائية التي ينقطع سلكها كل حين، وكتب حفرًا بحدّ سكين الطبخ التي لا تقطع حتى الزبدة، عكس سكاكينكم المسنونة جيدًا: “ذكرى، عيد عبد الله فليحان الشمسي العنزي. من مواليد 19/ 4/ 1990، قرية سلوك الغبين. 19/ 7/ 2013 سدّ الشهداء(2) البعث سابقًا، المنصورة. والله العظيم إنّي بريء… يا رضا الله ورضاكِ أمي”.
كان “رضا أمّه” أن كسرتم إبهامه وسبابته، وعوقب بالحبس ثلاثة أيام في بيت الكلب. هل تعرف ماذا قال لنا عيد بعد أن أنهى عقوبته في بيت الكلب؟ قال وهو باسم ضاحك كعادته، رغم تيبّس ظهره وتشنّج أطرافه من أثر إقامته ببيت الكلب الضيق، قال: “أتعرفون كنت أموت كل يوم، ولكنّي أُقررُ ألَّا أموت! كل يوم كنتُ أؤجلُ موتي ليوم أبعد، ليوم لا يشبه هذا اليوم. وهنا خفض صوته وتلفّتَ حوله وأومأَ برأسهِ نحو مَحرسكم وأَكملَ: “أريدُ موتًا… موتًا بسيطًا… هكذا من دون أن يكون لأحد سببٌ به إلّا الله؛ وأريدُ بيتَ عزاء كبيييير وقبر. قبر تزوره أمي وأختي كل عيد”.
أنت تعرف أنَّ “عيدًا” لم يتحقّق له “ترف الموت” بالطريقة التي تمنّاها؛ فقد أخذه “أبو علي الشرعي” ونفَّذَ به “حدًا من حدود الله” بعد صلاة الجمعة في بلدة “الكرامة”، وألقى جثته في البرية للكلاب الشاردة، والضباع، لأنكم اعتبرتموه مرتدًّا كافرًا لا يدفن في مقابر المسلمين.
“عيد” يقول إنه بريء؛ وكلنا آمنا بقوله: “يا جماعة والله أنا بريء من رمي المُهاجر(3) الذي أرادَ الزواج من أختي رغمًا عنّا… بريء من رميه في البئر براءة الذئب من دم يوسف!”
وأنت هل تفكّر بالبراءة الآن، وتعيش مظلوميّتك أيضًا؟ لا أتخيّل أنكَ تفعل.
لا أدري ربما نسأل أم عيد إن التقيناها ذات يوم.
إلى رسالة قادمة
بلوا 19/1/2019
***
الرسالة الثالثة
إلى روح خليل الحليسي
في سجن الطبقة، كتب أحد السجناء “رضاك يا أمي” فرسم السجان شعارات “الدولة الإسلامية” فوق ما كتب… كسر إبهامه وسبابته، وعوقب بالحبس ثلاثة أيام في بيت الكلب |
“لاجئ”. أكره هذه الكلمة التي تجمعنا في صنف واحد هنا؛ أكرهها لأنّي وإياك نحمل اليوم الصفة نفسها. هل أصابتكَ أنت أيضًا حُمَّى المقارنة بين هنا وهناك؟
أما عني، حالي حال أغلب اللاجئين، فقد أصابتني. أُقارِنُ يوميًا بين هنا وهناك، وفي كل شيء؛ طريقة التعامل في المشافي والمدارس والقضاء؛ أقارن بين الطرقات والخدمات. ومن هذا الباب، أودُّ أن أسألَكَ: “هل زنزانتك اليوم، حيث تُسجَن، تشبه زنازيننا، حيث كنتَ تَسجننا؟”.
الأرجح أنك في زنزانة بأربعة جدران وسرير نظيف؛ وربما لديك مرحاض وحمام خاصين. أيمكن مقارنتها بزنازينكَ، حيث كنت تسجننا هناك؟ أيشبهُ مرحاضك اليوم ذاك المرحاض الوحيد الذي كنا نتشاركه مع جميع الزنازين؟ هل تتذكّرَ ما أصابنا من جَرب، وغيره من أمراض جلدية هناك؟ أم تريد أن نُقارن بين مشاعرك وأنت هنا الآن، ومشاعرنا هناك حين نُعاقب بالحبس في “بيت الكلب”، أو “التابوت”، أو “خزان المازوت”؟ أو نقارن بين وسائل التعذيب؛ هل يجلسونك على “كرسي الشمعة” هنا؟ هل يعذبونك؟
ما رأيك في أن أكتبَ لك اعتبارًا من هذه الرسالة عن وسائل التعذيب، ونقارنها بوسائل التعذيب التي تتعرّض لها الآن. لكن قبل ذلك أرجو أن تجيبني عن سؤالي هذا: مَنْ منكم ابتكر وسائل التعذيب هذه؟
عندما حدثني “خليل الحليسي” عن أيامه الأربعة في خزان المازوت، لم تصلني الفكرة جيدًا. لكن عندما أمضيت ثلاثة نهارات وليليتين في ذلك الخزان، فهمت ما كان قاله لي. أي عقل تفتّق عن تلك الفكرة الجهنمية؟ أهي أيضًا “من ربع اللي شافوه أُمراء اليوم في صيدنايا الأمس”؟ أم هي من الطرق التي تقودنا إلى الجنة نحن “المرتدين الكفرة أهل الرقة”، حسب قول الأمير أبو البراء التونسي في خطبته ذات يوم جمعة في جامع الفردوس(4).
سأصفُ لك الآن وضع مَنْ عاشَ بعض البعض من طرقكم الوحشية في التعذيب. أعرف أن الأمر لم يعد مجديًا، كما أتألّم للتذكّر وما يحمله من عذاب، ربما يضاهي عذاب تلك الأيام، أو يزيد، لكن لعل هذا يُريح نفسي قليلًا، وعساه أيضًا يصبح تذكرة بمَنْ قضَوا هناك بصمت، ومن دون أن يعرف حتى أحبابهم مصيرهم حتى الآن؛ عسى الكتابة عنهم تنقذ مرورهم في هذه الدنيا من النسيان.
سأبدأُ بخزان المازوت، المكرمة الأولى التي منَّ عليَّ بها “أبو علي الشرعي” ليريني أن الوازرة تَزِرُ وزرَ الأخرى، وأن “خالد أخو أحمد” حتى لو كانت المسافة بينهما 5000 كم.
أَتتذكّرَ جلسة التحقيق الصباحية الصاخبة التي تخللها قطع إصبع السبابة في يد “أبو صالح”؟ أَتذكرَ كيف قطع “أبو علي الشرعي” سبّابة الرجل بمقص تقليم الشجر؟ أَتتذكّر كيف جثمتم أنتَ وعناصركَ على صدر الرجل حتى ازرَقَّ وجهُهُ. كل هذا لأنه أشار إلى شرعيّكم بسبابته، وقال له: “أنتَ ظالمني”. في مساء ذاك اليوم بالذات أرسلني “أبو علي الشرعي” للإقامة ثلاثة أيام في الخزان.
خزان المازوت، وصف خارجي:
خزان من الحديد المبروم طوله حوالي عشرين مترًا، وارتفاعه أربعة أمتار؛ له فتحة واسعة بقطر خمسين سنتمترًا تقريبًا من أعلى طرفه الغربي؛ على ظهر الخزان يوجد ممرٌّ بعرض حوالي المتر مُسوَّرٌ من الجانبين بسياج حديدي بارتفاع يقلّ عن متر واحد. ويوجد سلّم حديدي متحرّك يستند إلى طرف الخزان من الجهة الغربية، ومن اتجاه الفتحة الكبيرة. الخزان مصبوغ بدهان أساس بلون قرميدي، مكتوب عليه من كل الاتجاهات عبارة “محجوز جبهة النصرة”. هذا الخزان يُستخدمُ عادة في محطات توزيع الوقود، حيث يُدفن تحت الأرض، لكنه هناك كان فوق الأرض بأكمله.
في الساعة العاشرة من أحد صباحات تموز القيظ، جرّني “أبو المقدام” ترافقه زمرته من شعري من الخلف بعد أن كَبَّلَ يديّ خلف ظهري، واقتادني وأنا محني الظهر إلى طرف الخزان الغربي، حيث أمَرني أن أخلع ملابسي، وأبقى بالكلسون وحسب. ثم أمرني أن أصعد السلم إلى ظهر الخزان بعد أن فَكَّ قيدي. كان اثنان من ملثّميه قد سبقاني في ارتقاء الخزان. كنت حافيًا وحرارة الحديد تجعلني أتقافز مثل القرد، وفق ما علق أحد الملثّمَين من على سطح الخزان. ومن هناك رأيتُكَ و”أبو علي الشرعي” وآخرين تحت المظلة الكبيرة لمحطة الضخ تراقبون. قُلْ لي أكنتم تضحكون؟
أمسكَ المُلثّمان يديَّ وحشراني في فتحة الخزان وأدلياني إلى داخله، بعد أن ركعا على ركبتيهما ليصلا إلى أعمق ما يمكن من أسفل باطن الخزان، ثم أفلتاني قبل أقلّ من متر ربما من قعر الخزان وغادرا.
رائحة خانقة لبقايا مازوت وزيوت مخلوطة بمخلفات بول وغائط مَنْ سبقوني ترتفع في أسفل الخزان إلى ما دون منتصف الساق. أسدّ أنفي بأصابعي وأتنفّسُ من فمي؛ أغمض عيني بشدة وأفتحهما ببطء. أضعُ يديّ على جدار الخزان خشية الانزلاق، لكن حرارة الجدار تجعلنُي أسحبهما تلقائيًا بسرعة، فأتزحلقُ ثم أقفُ ثم أتزحلقُ، حتى وصلت ما يقرب من منتصف الخزان. وهناك اصطدمت بجثة آدمية لم أرها، لكن جسمي ويديّ وقدميّ تحسّستها. ونتيجة تحركها، أو تحرك السوائل المحيطة بها، ازدادت الروائح القاتلة. أردتُ أن أبتعدَ عنها، لكنّي تزحلقت مجددًا. بعد صراع، اكتشفتُ أن أفضل تكتيك هو أن أقف ساكنًا وسط خليط تحلّل الجثة، أو الجثث والخراء والبول والزيوت والمازوت.
يتقدمُ الوقتُ ويتحوّلُ الخزانُ إلى أتونٍ مُلتهب. أستفرغ ما في معدتي الخاوية أصلًا مرات ومرات. أحاول الدقَّ بيديّ العاريتين على جدران الخزان الملساء فلا أنجحُ إلّا بمزيد من التزحلق والحروق لنفسي. اتخذتُ وضعية السباحة على الأرضية الزلقة في محاولة الوصول إلى تحت الفتحة، ولتجنّب الحروق من خلال البقاء وسط هذا الخليط، وأيضًا بأمل أن يسمعني أحد من هناك. بعد عدد من المحاولات اليائسة نجحتُ، ووصلت إلى ما تحت فتحة الخزان مباشرة، وأخذت بالصراخ، لكن ما من مجيب. بقيت هناك إلى أن حلَّ الظلام. إنه الليل، لا أرى من السماء إلَّا “كشمة”(5)؛ كانتْ صافيةً صافية، وقريبة قريبة تكاد تلامس فتحة الخزان.
هنا، ومن طبيعتي الآدمية في لحظات ضعفها، سألتُ الله في السماء: هل أنتَ مَنْ أمرهم بذلك؟ هل تريدُ ذلك؟
من كل سماواتك وأرضيتك لم يبقَ لي سوى هذه الفتحة طريق بيني وبينك، فادنُ مني وخلصني من هذا الأتون بأي طريقة وأنت القادر القدير. استحضرتُ له كل الآيات التي أحفظُها، وكل الأدعية التي مرّت بحياتي. لم يُجبني، رغم “أنّي أخبرتُهُ بكل شيء”. خاطبتُ جميع الأولياء الصالحين الذين كانت تزورهم أُمي: “الشيخ عيسى”، و”الخليل أبو إسماعين”، و”أبو الجداح”، و”الشيخ شبلي”، و”عبد القادر الجيلاني”(6)، الذي استطاع إسقاط سبع طائرات إسرائيلية في حرب 1967، كل طائرة بـ “تفلة”(7) منه، على ما كان يُخبرنا عمي “محمود” الصوفي العتيد. وهنا أيضًا أستذكرُ شيئًا مضحكًا مبكيًا عندما ناشدتُ “الجيلاني”، نافقته بأن غنيتُ له أغنية راب للشاب خالد تقول: “عبد القادر يا بو علم… ضاق الحال عليّا… داوي حالي يا بو علم… سيدي ارؤف عليا”، لكن ذلك لم ينفع أيضًا.
أعاتبُ أُمي: أماه لا الشريط الأخضر الذي كنت تعلّقينه برقابنا وبأيدينا من مزار “الخليل أبو إسماعين”، ولا تغطيسنا في “نبع الخليل” نفعا، فهنا لا شفاعة لأي من هؤلاء. كفرتُ بكل الأديان والكتب وعَبّرتُ عن ذلك بكل الكلمات البذيئة التي بقاموسي وأيضًا لا مجيب.
صوت نقيق الضفادع يصلني ضعيفًا مخنوقًا. لا أدرى متى نِمتُ أو كيف، لكن الليل وحده من عطف عليَّ وبَرَّدَ الخزان الى درجة الإحساس بالقشعريرة. توالت الأيام هكذا مع قنينة ماء ورغيفي خبز على دفعتين يتدليان بحبل من فتحة الخزان لثلاثة نهارات وليلين.
يا أنتَ رأيتكُ أيضًا عندما أخرجتموني وغسلتموني بمدفع مياه سيارة الإطفاء. أتذكّرُ قهقهتكم كلما أوقعتني قوة دفع الماء. كل ذلك لم يكن مهمًّا، ولا حتى عُريي الكامل أمام جمعكم الكبير. ما همني وقتها أنّي كنت أريد أن ينتهي كل هذا كي أُعاتب “خليل الحليسي” على عدم إصراره على إيصال الفكرة كاملة عن الخزان، لكن “أبو علي” لم يمهله ولم يمهلني لأعاتب خليل. أرانا الشرعي العظيم على هاتفه الخليوي إصدار مشاهد رجم “خليل” بعد صلاة الجمعة.
أين أنت من كل هذا الآن؟ قارن!
هوامش:
(1)- النقطة “11” هي مركز اعتقال وتحقيق تابع لتنظيم “داعش” في مدينة الرقة. ليس معروفًا حتى اليوم سبب تسمية مركز الاحتجاز والتعذيب والتصفية “الداعشي” بهذا الاسم على وجه التحديد، لكن عناصر التنظيم وسكان المدينة استمروا في إطلاق هذه التسمية أي مكان اختاره التنظيم لغايات التحقيق والحبس والتعذيب داخل المدينة طوال فترة سيطرته عليه. أول موقع عُرف باسم “النقطة 11” هو مبنى المحكمة العسكرية الملاصق لمبنى الأمن الجنائي في الجزء الجنوبي من المدينة ثم انتقل إلى الملعب البلدي، المعروف بالملعب الأسود في وسط المدينة بعد أن دمر قصف نظام الأسد مبنى المحكمة العسكرية. في الأحوال كافة، تشكَّلتْ في أذهان سكان مدينة الرقة صورة عن “النقطة 11” بوصفها مسلخًا بشريًا ومنطقة بين الحياة والموت تساوي تلك التي في أذهان السوريين عامة عن سجني “تدمر” و”صيدنايا”.
(2)- في أثناء سيطرته على المنطقة كان تنظيم “داعش” يطلق على هذا السد اسم “سدّ الشهداء”.
(3)- في خطاب تنظيم “داعش”، تُطلق صفة “مُهاجر” على الأجانب القادمين من بلدان أخرى للالتحاق به.
(4)- أحد جوامع مدينة الرقة.
(5)- “الكشمة” قدر قليل مُستأصل من شيء ما؛ من الفعل “كَشَمَ” بمعنى قَطَعَ.
(6)– هذه جميعًا أسماء شيوخ وأرباب طُرق صوفية كانت تنتشر في المنطقة.
(7)– “التفلة” هي البصقة أو التفة.
(يتبع…)
أحمد إبراهيم – ضفة ثالثة – العربي الجديد
اترك تعليقاً