الرقة بوست – مازن حسون
يبدأ “أبو سليمان” تحضيراته لرمضان قبل مجيء الشهر الكريم بعدّة أيام. فيحرص على زيارة جميع أفراد العائلة ويتبادل معهم التهاني , ويسارع الى طلب السماح مِن مَن كان معهم على خلافٍ أو اقتتال قبل دخول الشهر الكريم , الذي يُقال عنه شهر الكرم والرحمة والمغفرة.
يستيقظ “أبو سليمان” صباح أول أيام رمضان بوجهٍ شاحبٍ , وعكر المزاج. ويزداد غضبه مع ازدياد قائمة المشتريات التي حضّرتها “أم سليمان” له التي تشارف على دخول عقدها الرابع في هذه الحياة. يوقظ “أبو سليمان” ابنه البكر “سليمان” لمساعدته في حمل الأغراض , ذلك أنّ “أمّ سليمان” قد أوصته على أغراضٍ تكفي لإطعام الحارة بكاملها.
“رمضان كريم” ينطقها صاحبنا أكثر من خمسين مرّة خلال اليوم الأول من شهر رمضان, على الجيران الذين يصادفهم أثناء خروجه , على المارّة في الطريق , وعلى بائعي الخضروات وأصحاب الدكاكين الباردة مقارنةً بحرارة الشمس الرقيّة في الطرقات. ولكن وعلى الرغم من شدّة الحرّ ترى شوارع الرقة مزدحمة بالناس , بغضّ النظر عن تعابير وجوههم المختلفة. وبعد عدّة ساعاتٍ يعود “أبو سليمان” مع ابنه الى منزلهم بقائمة المشتريات الضخمة ,دون أن ينسى ولا حتّى غرضاً واحد خوفاً من “نقّ” أمّ سليمان. عروق السوس , عُلب التمر الهنديّ وأنواع العصائر المختلفة هي من الطقوس الرسميّة لشهر رمضان.
ساعات الصيام الأخيرة في الرقة أشبه بنزهة الى جهنم , وذلك لشدّة الحرّ في المدينة , إضافةً الى انقطاع الكهرباء عن معظم الأحياء. ولكنّ “أبو سليمان” مُجبرٌ على الخروج مرّة أخرى وقصد فرن “الأندلس” لشراء “المعروك” وذلك تحت “نق” وإلحاح “أمّ سليمان” الذي يُجبر الصائم على أن يفطر حتّى في ساعات الصيام الأخيرة. وللعلم أنّ فرن “الأندلس” هو فرن مشهور في الرقة ومزدحم , وشراء “معروكة” أو أكثر والعودة الى المنزل قبل آذان المغرب يُعتبرُ أحياناً إنجازاً.
يفطر الجمع بعد الآذان , و”تبتل العروق ويثبت الآجر إن شاء الله” كما يقول “أبو سليمان” بعد أن ينال كأس الماء الأول بعد ساعاتٍ طويلة من الصيام. وينال الجميع ساعة ضحكٍ مع “بقعة ضوء” , ومن ثمّ يأتي نداء صلاة التروايح التي لا يمكن أن تفوت “أبو سليمان” في كلّ رمضان. ليعود مسرعاً الى المنزل ليكسب فنجان قهوة مع “أمّ سليمان” على شرفة المنزل , في حال لم تتطفل عليهم إحدى الجارات في حيّهم السكني.
لنعد الى الواقع قليلاً. لم يحضّر “أبو سليمان” أبداً هذه السنة لرمضان, ولم يهنئ أحداً. اكتفى فقط بطلب السماح من الجميع , من هم في الداخل ومن هم في الخارج. ولم يحيّ جيرانه أثناء خروجه من منزله ذلك أنّ معظم سكّان الشارع قد هجروا منازلهم ورمضان وفرّوا من الرقة , وبعضهم قضى بمجازر طائرات التحالف الدولي. لم يشمّ أحدٌ هذه السنة رائحة السوس والتمر الهندي بل رائحة الموت كانت هي البديلة. لم “تنق” أبداً “أمّ سليمان” من أجل “المعروك” ذلك أنّ فرن “الأندلس” غدا كومةً من ترابٍ.
هذه السنة لم يأتِ رمضان الى الرقة بعد. فالرقة محاصرة , ومنذ اليوم الأول لم يهدأ القصف المدفعي ولا الجويّ على المدينة. هذه السنة زفت الرقة حتّى اللحظة أكثر من 130 شهيداً من المرغمين على الصوم عن الحياة. هذه السنة سُرِقت البهجة من الصائمين وعمّ الخراب والموت أرجاء المدينة , عوضاً عن الرحمة والسكينة.
لا أحد يعلم هل أول رمضان تحت حكم “الدولة الإسلامية” يشبه تماماً آخر رمضان, فالأول كان بداية المصائب بإعلان “الخلافة” والرقة عاصمةً لها , ومن ثمّ بداية الذبح والصلب والسلخ , والآخير بتدمير الرقة فوق رؤس ساكنيها بحجة التحرير من “الخلافة” !
“نريد أن نحيا قليلاً , لا لشيءٍ , بل لنحترمَ القيامةَ بعد هذا الموت” , هل كان درويش يا ترى يتحدث عن الرقة اليوم عندما خطّ لنا هذه الكلمات؟ وكأنه يصرخ بلسان آهالي الرقة , ويحمل مطالبهم لجميع جلاديهم وقاتليهم؟
اترك تعليقاً