أعلنت وزارة الخارجية التركية أن تركيا ستظل دولة محورية في مستقبل القارّة الأوروبية، مثلما كانت عليه في الماضي، وإن تجديد التعاون الوثيق بينها وبين والاتحاد الأوروبي، كما حدث في اتفاقية اللجوء قبل أعوام، سيواصل جلب السلام والرفاهية والاستقرار للقارّة برمتها. في المقابل، يتمسّك الاتحاد الأوروبي بقرارات تجميد المفاوضات مع تركيا في موضوع العضوية الكاملة، حتى تلتزم بالاتفاقيات والمعايير الأوروبية في الشؤون السياسية والقانونية والاجتماعية والاقتصادية. بين جديد العقبات التي واجهت تركيا في ملف العضوية تدابير حالة الطوارئ المعلنة في البلاد، بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة قبل خمس سنوات. ولكن العرقلة اليوم، حسب الاتحاد الأوروبي، سببها سياسات تركيا الداخلية والإقليمية التي تتعارض مع مصالح المجموعة الأوروبية، وتحول دون تحقيق أي تقدم على طريق انضمام تركيا إلى النادي الأوروبي.
بعد مرور ستة عقود على الطلب التركي المقدّم إلى بروكسل باتجاه العضوية في السوق الأوروبية يومها، لا نتيجة تفاؤل، على الرغم من أربع عمليات توسعة، شملت دول أوروبا الشرقية الاشتراكية، وقبلت قبرص اليونانية دولة كاملة العضوية في العام 2004، على مرأى أنقرة ومسمعها، وكذا قيادات حزب العدالة والتنمية التي كانت تراهن على خطّة متعددة الجوانب والأهداف، تحمل تركيا إلى الدائرة الأوروبية، وتنهي أزمة قبرص الجزيرة، وتقرّب بين أنقرة وأثينا. راهنت أنقرة، مجدّدا في العام 2015، على فرص بديلة تفتح الطريق أمامها مع اتفاقية اللجوء التي كانت ستوفّر لها تسريعَ مفاوضات العضوية الكاملة، وصدور قرار رفعِ التأشيرات أمام المواطنين الأتراك، ولكن من دون نتيجة.
يحاول كل طرفٍ أن يرمي قنبلة التفجير في حضن الطرف الآخر، ويحمّله مسؤولية إيصال الأمور إلى هذه الدرجة من التدهور والتراجع
تردّد قيادات أوروبية، بشكل علني واضح، أنّ تركيا ليست في موقعٍ يؤهّلها لنَيل عضوية الاتحاد الأوروبي قريبا. وتهدّد القيادات السياسية التركية في الحكم بالرد، ولكن من دون اللجوء إلى تنفيذ تهديداتها. قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نفسه، قبل أعوام، ردا على مواقف الاتحاد الأوروبي: “إذا كنتم ترغبون في رفض طلبِ عضوية تركيا، فافعَلوا ذلك سريعاً وأخبِرونا بالنتيجة. نحن سننتظر القرار الأوروبي، ثمّ نلجأ إلى الشعب التركي للاحتكام”. وهذا ما لم تُقدم عليه حكومة أردوغان، لأنها تعرف ارتدادات ذلك السياسية والانتخابية على الحزب الحاكم. المسألة أبعد من أن تكون موضوع مماطلة أو مساومة سياسية، والدليل ما سمعناه من مستشار الرئاسة التركية إبراهيم قالين، وهو ينتقد القرارات الأوروبية “المخزية” التي تطارد تركيا، “.. وفي الوقت الذي أخفقَت فيه أوروبا في معالجة القضايا الحقيقية من تنامي العنصرية وكراهية الأجانب والجماعات المناهضة للهجرة والتطرّف والعزلة والإسلاموفوبيا”، كما يقول.
لا يعكس قرار تمديد تجميد مفاوضات الانضمام التي يجريها الاتحاد الأوروبي مع تركيا فقط المواقف الأوروبية التي تقول إن الأمور وصلت إلى نقطة اللاعودة في مسألة العضوية التركية، بل حالة التجاهل التي يعيشها الداخل التركي في مسألة استراتيجية من هذا النوع. يحاول كل طرفٍ أن يرمي قنبلة التفجير في حضن الطرف الآخر، ويحمّله مسؤولية إيصال الأمور إلى هذه الدرجة من التدهور والتراجع، مع أن كل المؤشرات تفيد بأن لا مفر من مواجهة حافة الهاوية شئنا أم أبينا. البديل الممكن بيد تركيا هو حتما ليس التلويح بفتح الحدود مجدّداً أمام تدفّق اللاجئين الموجودين فوق الأراضي التركية باتجاه العواصم الأوروبية أو تذكير هذه العواصم بجدار الحماية الذي توفره تركيا لهم أو محاولة لعب الورقة الروسية أو الصينية خيارا استراتيجيا بديلا للضغط على دول الاتحاد، بل حسم موقفها وإعلانه للخروج من حالة التردّد الاستراتيجي الذي تعيشه منذ سنوات طويلة.
يميل العامل الاقتصادي في العلاقات التركية الأوروبية نحو الصين وروسيا والهند وإيران وباكستان وأفغانستان هذه المرّة
كان الرأي السائد في تركيا وأوروبا في العام 2009 أن الإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي طالب الاتحاد الأوروبي تركيا بتنفيذها تتقدّم بشكل صحيح، وأن النتائج الإيجابية لرزم الإصلاحات بدأت تظهر إلى العلن على المسارين السياسي والاقتصادي وملفات حقوق الإنسان والديمقراطية، وهي بدأت تعطي ثمارها والقول بإمكانية انضمام تركيا للاتحاد عام 2015.
خيبات أمل ثورات الربيع العربي، والمحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا، وتعقيدات العلاقات التركية الأوروبية في ملفات إقليمية، يتقدّمها شرق الفرات وشرق المتوسط وشمال أفريقيا والعقبتان اليونانية والقبرصية كانت كافيةً لإعادة الجميع إلى خط البداية، وسماع من يقول لنا في المجموعة الأوروبية إنه لا يمكن لأنقرة أن تفرض نفسها على الاتحاد الأوروبي، وإن عليها تبنّي معاييره وقواعده وسياساته، لأنها هي التي تريد الالتحاق بالدائرة الأوروبية وليس العكس، من النواحي التقنية والقانونية والسياسية.
كانت أصوات أوروبية متفائلة تحذّر من مخاطر الابتعاد الأوروبي عن تركيا، وتجاهل قيمتها ودورها الإقليمي الاستراتيجي، وإن من الأفضل أن تكون أنقرة إلى جانبنا، وليس إلى جانب الطرف الآخر. كان الجناح العلماني الأتاتوركي يتناقل ما نسب إلى كمال أتاتورك قبل عقود “الحضارة التي يجب أن ينشأ عليها الجيل التركي الجديد هي حضارة أوروبا”، لكننا اكتشفنا أن هذا الغزل ظل سنوات طويلة حبرا على ورق، ولم يحقق أي تقدّم ملموس يشجّع الطرفين على إيصاله إلى برّ الأمان.
تعيش مسألة العضوية التركية في الاتحاد الأوروبي في غرفة العناية الفائقة بواسطة التنفس الاصطناعي منذ سنوات
لم تعد تعمل نظرية أن أنقرة قادرة على لعب دور جسر العبور أو التواصل السياسي والثقافي والاجتماعي بين الشرق والغرب، أو بين العالمين الإسلامي والمسيحي. يميل العامل الاقتصادي في العلاقات التركية الأوروبية نحو الصين وروسيا والهند وإيران وباكستان وأفغانستان هذه المرّة.
تولت فرنسا قبل أيام، ولمدة ستة أشهر، الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، وهي التي ستحمي مصالح الدول السبع والعشرين الأعضاء، وتبقيها موحدة في تحديد المواقف والسياسات أمام القوى الإقليمية والدولية. تعيش العلاقات التركية الفرنسية أصعب أيامها في هذه الآونة. من المستبعد، إذن، بحث فرص تفعيل الحوار التركي الأوروبي في هذه المرحلة، لكن الخطورة الحقيقية أن تتوتر العلاقات بين الطرفين أكثر فأكثر في الأشهر المقبلة، بسبب ملفات خلافية، ثنائية وإقليمية، لن تتردّد حكومة الرئيس ماكرون بتحريكها ورقة انتخابية في الداخل الفرنسي، لكسب أصوات اليمين إذا ما قرّر الترشّح مرة أخرى لمقعد الرئاسة.
هاجس المخاطر التي قد يلحقها انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي بالنسبة لقواعد إسلامية أو مسيحية أو قوى يمينية متشدّدة لم يعد قائما، لأن الاحتمال تراجع، وأوروبا لم تعد في مواجهة “الخطر” التركي. تعيش مسألة العضوية التركية في الاتحاد الأوروبي في غرفة العناية الفائقة بواسطة التنفس الاصطناعي منذ سنوات. لا مؤشّر حقيقيا في المعالجة الجذرية، على الرغم من أن التشخيص وطريقة المداواة معروفة. السبب انعدام الرغبة لدى الجانبين بالانتقال في الملف من حالة إلى حالة جديدة.
العربي الجديد
اترك تعليقاً