الرقة بوست – معبد الحسون
رواية “الشياطين” لفيودور دويستويفسكي (1821 ـ 1881)
بوسعنا أن نمضي في سبيل واضح ومضمون في محاولة إعادة تفكيك وتركيب رواية الشياطين. هذه الطريقة سوف تجبرنا أن نفترض بأن جميع ـ أو معظم ـ شخصيات الرواية، إنما هي مركبات يتقاسم بناءَها الجانبُ الواعي من تفكير دويستويفسكي نفسه، مع الجانب غير الواعي، وغير المشعور به.. هذه الميزة بالذات قد تتشارك فيها سائر روايات دويستويفسكي العظمى، (خاصة في روايات: الأخوة كارامازوف والجريمة والعقاب والأبله). لكنها في الشياطين سوف تبدو لنا أكثر تشاركية وتبادلاً حياً بين الرمزي المستغرق في الجانب المظلم من خافية دويستويفسكي، وبين الجانب الواعي.. أي السياق الدرامي الطبيعي. ولسوف أستعين بمثال حي واضح من الرواية نفسها، هو ذلك الانشطار الرمزي في شخصيتي شاتوف وكيريلوف.
إن الشخصيات نفسها هي مركبات غير مكتملة، (مثل لعبة البزل التي يكمل أجزاؤها بعضها البعض حتى تنتهي إلى صورتها النهائية). إن شاتوف وكيريلوف المنقسمين يتممان بعضهما بعضاً كما تتكامل الأضداد في وحدة موحدة، لا يفيد فيها المعنى دون تكامل الضدية بكليتها. سائر الخيوط وأجزاء البزل تنتهي إلى ستافروغين، وستافروغين نفسه من حيث هو تجلٍ لمشروع إله مقترح، لا يبدو لنا واضحاً إلا من خلال أقانيمه الكثيرة المتعددة.. وأوضح هؤلاء الأقانيم الصادرة، كتجليات عن ستافروغين، هما شاتوف وكيريلوف.
يلفت أنظارنا مباشرة في شخصية شاتوف، وكانطباع أولي خام مسألتان: الأولى هي اسمه الغريب.. وهل هو مشتق من معنى كلمة (Chat)= الهر..؟ أو (Chate)= الهرة..؟ وهل ثمة دلالة ربط بين الهر وشاتوف؟ التشرد مثلاً.. ومعدومية الأصل والمنبت، والعيش البائس كالقطط على الفضلات وما يجود به الآخرون من فضل وحماية.. إن شاتوف هو تجلٍ آخر لشخصية دويستويفسكي نفسه كما سوف نرى بعد قليل.. إن جريمة قتل هذا الشقي شاتوف، صحيح أنها من حيث الوضع الظاهر والمشاهد قد تمت بأيدي شياطين بطرس فيرخوفنسكي، (أعضاء المجموعة السرية).. هذا المجنون الكوني العالمي، والذي يدفع بجنونه إلى حافة هاوية من المستحيلات لكي يغير العالم؛ لكن الجريمة حين تُقرأ من موضع آخر غير مشاهد ولا ملحوظ، إنما كانت جريمة دويستويفسكي نفسه تجاه نفسه. إن دويستويفسكي لا يعدم شاتوف/ شخصية روايته، بل هو ينزل العقاب بنفسه هو.. واستتباعاً لهذا الانتحار، (أو الرغبة العميقة فيه)، سوف يقدم له كيريلوف،(النصف الثاني لشخصية شاتوف)، نظريته الخاصة. نظريته التي تنحلُّ في فلسفة رؤيوية خاصة، وترتقي بالانتحار والموت إلى مصاف الحلول في الألوهية. وقانون كيريلوف الرهيب هو: “ما إن تصل إلى درجة من الشجاعة بحيث تتحدى الموت، وتقدم على قتل نفسك فإنك تتحول إلى إله”.. لكن أصحاب نظرية الألوهية هذين: شاتوف وكيريلوف، فشلا لاحقاً في أن يختارا موتهما بإرادتهما، فقد تمت تصفية شاتوف بأيدي رفاقه الثوريين، وعجز كيريلوف عن الإنتحار في الدقائق الاخيرة، فتولى عاتق المهمة وكبرها، نيابة عنه، بطرس فيرخوفنسكي الذي رجاه وتوسل إليه طويلاً(حتى دفعه إلى هذا الانتحار في ما يشبه القسر، وتحت التلويح بقتله): مادمت مقدماً على قتل نفسك ، فلتحرر إقراراً ووثيقة بإمضائك أنك أنت من أقدم على قتل شاتوف.. هكذا تخدم القضية الثورية، وتصرف انتباه الشرطة عن الجريمة، ويكون موتك مفيداً في لحظاتك الأخيرة..
وإذا ما فشل (الحواريان) الرمزيان اللذان هما امتدادٌ وتجلٍ لإلههما الرمزي غير الظاهر: ستافروغين، فلسوف نجد أن إلههما، هو من سوف يتقدم ويأخذ قرار الإنتحار الأخير بشنق نفسه.. إن موت ستافروغين كان تبريراً واعتذاراً عن مأساة تلامذته وفشلهما مع الموت.. ولقد ختم دويستويفسكي رواية الشياطين بقوله: {وكان على المائدة ورقة كتب عليها بالقلم الرصاص: ” لا يُتهمنْ أحد. أنا الفاعل”… إن كل شيء يدل على العمد وسبق الإصرار، ويدل على أن ستافروغين قد ظل إلى آخر دقيقة يعي أفعاله وعياً كاملاً. وقد نفى الأطباء الذين شرحوا الجثة، نفوا نفياً قاطعاً افتراض خللٍ عقلي.}
ذلك هو انطباعنا الأول عن شاتوف، اما الانطباع الثاني، فهو أن شاتوف هو نسخة، أو طبعة حلولية بشكل ما، من دويستويفسكي نفسه. ألم يكن دويستويفسكي ثورياً في شبابه؟ ألم يعانِ مثلما عانى شاتوف من الشقاء؟ ألم يفشل في حبه الأول وزواجه؟ ألم يتنكر له أصدقاؤه القدامى، وروسيا القديمة التي أحبها وبادلته الكراهية؟ ألم يشهد لوعة وفاة ابنه كما عانى شاتوف الذي ألفى طفله عليلاً يحتضر؟ (الطفل الذي أنجبه من ظله الروحي ستافروغين، كما تلمح الرواية دون تصريح واضح.. ولقد مات الطفل فوراً بعد موت شاتوف)..
لنقرأ أولاً كيف يقدم دويستويفسكي شخصية شاتوف في بداية الرواية: (.. زوجة الجنرال فرفارا بتروفنا (والدة ستافروغين)، لا تحب كذلك شاتوف، الذي لم يصبح عضواً من أعضاء حلقتنا إلا في السنة الأخيرة. إن شاتوف هذا طالب قديم طرد من الجامعة على أثر إساءة مدرسية ارتكبها. وكان في طفولته تلميذ ستيفان تروفيموفتش.. لقد ولد شاتوف قِناً من أقنان فرفارا بيتروفنا “..” وهو مدينٌ لها بنعمٍ كثيرة، لكنها كانت لا تحبه لصلفه وكبريائه..)
فشاتوف إذن لم يكن تلميذاً روحياً لستافروغين الشاب، وحوارياً مؤمناً بألوهة ستافروغين فحسب، وإنما يربطه من حيث النشأة والولادة رابط آخر لا يقل أهمية؛ ألا وهو أنه ولد عبداً من عبيد “مزرعة سكفورشنيكي”، التي تملكها الجنرالة ستافروغين، فرفارا بتروفنا، والدة ستافروغين.. كما أن ستافروغين يرتبط ـ عاطفياً وجنسياً ـ بنساء شاتوف: زوجته وأخته داريا بافلوفنا..
(.. وآثر على ذلك أن يعمل تحت عبء العمل في تعليم الأطفال، عند أسرة نكرة من أسر التجار المثقفين، وسافر مع هذه الأسرة إلى الخارج، أقرب إلى الخادم منه إلى المعلم. لقد كان شاتوف يحترق شوقاً في ذلك الوقت إلى زيارة البلاد الأجنبية. وقد صحبت الأطفال أيضاً مربية من المربيات، هي آنسة روسية ذات طبع حاد، دخلت في خدمة تلك الأسرة قبل السفر بيومٍ واحد. ومما أغرى الأسرة في تشغيلها أن مطامعها متواضعة، وبعد شهرين طردها التاجر بسبب أفكارها التحررية، فتبعها شاتوف وتزوجها بعد قليل في جنيف. وعاش الزوجان معاً مدة ثلاثة أسابيع، ثم افترقا افتراقَ شخصين حُرّين لا يربطهما شيء.. (..) وبعد ذلك ظل شاتوف يطوف وحيداً لمدة طويلة في أوروبا، ولا يعلم إلا الله كيف كان يدبر رزقه. قيل إنه كان ينظف الأحذية في أركان الشوارع، وقيل بأنه عمل شيالاً في أحد المرافئ)..
ثم لنتابع بعد ذلك هذا الوصف الذي يقدمه دويستويفسكي لشاتوف: (.. كان شاتوف قد غير بعض معتقداته القديمة أثناء إقامته في الخارج، تغييراً جذرياً، حتى انزلق إلى نقيضها في تطرفٍ شديد. إن شاتوف واحد من أولئك الروس المثاليين الذين متى ما أشرقت في نفوسهم فكرة قوية كبيرة بُهروا بها، وتسلطت عليهم تسلطاً تاماً قد يدوم في بعض الأحيان إلى الأبد. فلا يصلون يوماً إلى هذه الفكرة التي أصبحوا يعتنقونها اعتناقاً عنيفاً، فحياتهم كلها تنقضي بعد ذلك في ما يشبه التشنجات الكبرى، تحت وطأة تلك الصخرة التي سقطت عليهم ذات يوم فحطمتهم نصف تحطيم..)
أليس دويستويفسكي نفسه هو هذا الشاتوف نفسه دون زيادة أو نقصان؟ وهل ينطبق هذا الوصف إلا على دويستويفسكي نفسه؟ زد على ذلك أن شاتوف بعد أن تحول عن نهج الثورية السابق، لم يعجبه ولا ارتضى لنفسه أن يرتدّ شخصاً رجعياً تقليدياً، كواحدٍ من أولئك الروس الأرستقراطيين الذين لا همّ لهم إلا خدمة القيصر، والتعالي على طبقات الشعب البسيطة والمعدمة، وإنما وجد في السلافية مذهباً صوفياً يشحن رغباته ويلجأ اليه، ويرضي مشاعره الملتهبة وتطلعاته الأكثر تطرفاً..
إن شاتوف يرى الله متجلياً في روسيا الفقيرة.. روسيا الأقنان(العبيد) والفلاحين الروس الذاوين في الاكواخ والجوع والمرض والفقر المدقع.. فإذا انتصرت روسيا يوماً على نفسها، فثمَّ إذن تجلي الله وانتصار تعاليمه، وبزوغ فجر السلافية التي وجد دويستويفسكي نفسه غارقاً بها ومنحازاً إليها.. (هذه النزعة السلافية هي مزيجٌ غامض بين أورثوذوكسية غير واضحة التفاصيل والمعتقد الرسمي، وبين نزعة أقوامية؛ غير واضحة المعلم والسمات أيضاً)؛ فدويستويفسكي إذن كان يستقي تعاليمه ورسالته من شاتوف لا شعورياً.
يتبع……
اترك تعليقاً