مع القناعة التي تتعزز أكثر فأكثر بأن بشار الأسد باقٍ في السلطة، عادت إلى موقع المعارِض أسماء كانت قد علّقت معارضتها له، إما بالصمت والابتعاد عن الخوض المباشر في أحداث السنوات العشر الأخيرة، أو حتى بإعلان موقف يصبّ في مصلحته بلا مواربة. بينهما، كان الاكتفاء بالتصويب على “معارضة الخارج” واحداً من التمارين المعتادة للمعارض الوطني عندما كان هناك احتمال ضئيل جداً لاعتمادها دولياً كبديل عن حكم العائلة. الآن، انتهى ذلك كله، ولسان حال المعارض الوطني: لقد زال الخطر عن الأسد، فلنحتفل بالانتصار، ونسترجع معارضتنا له.
المعارض الوطني فكرة، قبل تفرّعها إلى أشخاص ونماذج، وأهم ما فيها تعليق المعارضة عندما يكون هناك خطر يتهدد السلطة، وعندما يكون هناك خصوم للأخيرة يهددونها، وهؤلاء بالتأكيد ليسوا ولن يكونوا من موقعه. المعارض الوطني هو ذلك العاتب الأبدي على السلطة، من موقع الغيرة عليها والراغب في تحسينها وتحصينها. ثم إنه، علاوة على ذلك، مقتنع بعدم وجود سبيل آخر لـ”الإصلاح”، فهذه السلطة لن تتنازل تحت الضغط والشعور بالخطر، لذا ينبغي عدم استفزازها ودفعها لإظهار وحشيتها. هو، للتوضيح، لا ينكر توحش السلطة، بل يشير إليه أحياناً كقدر لا فكاك منه.
في النسخة الأخيرة، بدءاً من آذار2011، كان إعلام الأسد أول من بادر إلى تقسيم السوريين “من خارج مواليه الصريحين” إلى معارضين وطنيين وآخرين لاوطنيين. لكن النسخة الأقدم منها، المقيمة في عقل السلطة، هي مع مستهل حكم بشار، تحديداً مع الانقضاض على ما سُمّي آنذاك “ربيع دمشق”. كان بشار في خطاب قسمه عندما ورث السلطة قد تعهد بقبول الرأي الآخر، واستبشر معارضون “من غير المصنّفين لدى مخابراته كوطنيين” بما قاله، ليخرج بخطاب لاحق ويوضح ضاحكاً “ضحكته الساخرة الشامتة المتشفّية…” أن البعض ظنّ نفسه من أصحاب الرأي الآخر، يا للنكتة المضحكة حقاً.
المعارض الوطني يشارك “رئيسه” ذلك الاستنكار، عندما يرى آخرين ينسبون لأنفسهم أحقية أن يكون لهم رأي آخر. قد يمنعه حياؤه من القول على طريقة القذّافي: من أنتم؟! فيمرّرها من خلال نفي أحقية المعارضة عنهم، واحتكار موقع المعارضة لنفسه؛ هو المعارض الدائم المقيم، وهم الطارئون الآيلون إلى زوال. هم الذين يعارضون من الخارج، بينما يعارض هو من الداخل، وشتّان بين الموقعين.
كان إعلام الأسد أيضاً أول من بوّب معارضيه بين خارج “لاوطني” وداخل “وطني”، الداخل هو التعبير الدارج عن مناطق سيطرة الأسد التي يعيش فيها ما لا يزيد عن نصف السوريين، بينما يتوزع النصف الثاني بين المناطق الخارجة عن سيطرته والشتات. راقَ التقسيم للمعارض الوطني، وعزف عليه بما لا يبتعد عن معزوفة إعلام الأسد أو مخابراته، لا فرق. لكن، عطفاً على إفراغ البلد من “المرتزقة” و”اللاوطنيين”، سيبقى المعارض الوطني بمثابة الأمر الواقع الذي لا وجود لغيره.
مع انسداد أفق التغيير، لن يُطلب من المعارض الوطني ما هو فوق طاقته، لن يُطلب منه الانتحار بمواجهة خاسرة مع السلطة. لا بأس، نحن ننسى “أو نتناسى” أنه لم يدخل هذه المواجهة عندما نزل ملايين المتظاهرين إلى الشوارع. إنه الآن، رغم كل ما سبق، المعارض الوحيد المتاح، حامل الشعلة الأوحد الذي يجب عدم التفريط به، ووجوده “ضمن السقف المنخفض” أفضل من الصمت المطبق. هو الوحيد الذي يجعل فكرة المعارضة حية، إذ لا معنى لأية معارضة تصدر عن سوريي الخارج ما لم يكن لها امتداد في الداخل. والسقف المنخفض الذي تتحكم بارتفاعه المخابرات هو الخيار الوحيد لممارسة المعارضة علناً، أما عهد العمل السياسي السري فقد انقضى منذ عقود بانقراض الأحزاب والأيديولوجيات التي كانت تعتمده.
لن تكون عودةُ المعارض الوطني عودةً إلى ما قبل آذار2011، هي رجوع إلى النصف الثاني من الثمانينات، حين تكرّس بعض الأصوات كاحتمال وحيد لنقد السلطة أو الإيحاء بمعارضتها. في تلك السنوات، كانت المخابرات قد أنجزت مهمتها باعتقال كافة معارضي الأسد من الإسلاميين، ومن شيوعيي “المكتب السياسي” و”رابطة العمل”، لتؤول “المعارضة” إلى بضع كتّاب وفنانين يمارسون النقد، أو العتب على السلطة، فيتحدثون أو يكتبون عن أخطائها وعثراتها، ويشيرون أحياناً بصيغة عمومية أو مرمّزة إلى القمع الذي تمارسه مخابراتها. وكان هذا النوع من “الجرأة” هو الوحيد المتاح، ولم يندر امتداح هؤلاء الشجعان وإيجاد الأعذار لهم إذا اضطروا إلى ممالأة السلطة بين الحين والآخر، بينما صار في حكم المنسيين عشرات ألوف المعتقلين الذين لا يُعرف مصيرهم، والذين ظنوا ذات يوم أن من حقهم أن يكونوا معارضين.
ليس انكشاف بؤس السلطة وآثارها المدمِّرة على الجميع ما سيعيد المعارض الوطني إلى ساحته المفضّلة، سواء بعد الوقوف إلى جانبها أو بعد التزام الصمت خلال سنوات. سيعود المعارض ليشغل الموقع الذي اعتاد عليه، وكما اعتاد من قبل، وسيفعل ذلك بصدق وإخلاص لذاته ولقناعاته. ومن المحتمل جداً أن يكون بعودته متسامحاً أكثر من قبل مع “مراهقي المعارضة” وبقاياهم في الخارج، بل ربما يتمنى على السلطة أن تتحلى برحابة صدره فتسمح بعودتهم ليعود “الوئام” إلى البلد، مبرهناً بأمنياته عن حسّ وطني تفتقر إليه. وقد يكون الود متبادلاً، إذ يتخلى ثوريو الأمس عن “راديكاليتهم”، ويعيدون للمعارض الوطني اعتباره في نفوسهم، ويستذكرون أنهم ما كانوا ليصبحوا ثوريين لولا نشأتهم على كتابات أولئك الذين سمحت السلطة لهم بنقدها، وأن ألوف المعتقلين في ذلك الزمن كانوا مجرد أشباح لم تترك أثراً يُذكر في الفضاء العام.
بميزة قد لا تقتصر على سوريا وحدها، يحدث أن تنتصر السلطة ومعارضتها معاً. انتصار احتفظ بموجبه الأسد بالكرسي، واستعاد البعض شرف المعارضة وهو صادق في زهده بالسلطة!
المدن
اترك تعليقاً