تطبيع سعودي غير مشروط مع الأسد؛ هذا ما يُقرأ بين سطور البيان الصحافي المشترك الذي أعقب زيارة وزير خارجيته إلى الرياض، يوم الأربعاء الفائت. فالبيان لم يتطرق مثلاً إلى تنفيذ القرارات الدولية المتعلقة بسوريا، ولا بإزالة أي سبب من أسباب تجميد عضوية الأسد إلى الجامعة العربية. بل، بخلاف ذلك كله، نص البيان على: “أهمية تعزيز الأمن ومكافحة الإرهاب بكل أشكاله وتنظيماته وتعزيز التعاون بشأن مكافحة تهريب المخدرات والاتجار بها، وعلى ضرورة دعم مؤسسات الدولة السورية لبسط سيطرتها على أراضيها لإنهاء وجود الميليشيات المسلحة فيها والتدخلات الخارجية في الشأن الداخلي السوري”.
فدعم “مؤسسات الدولة السورية” معناه، وفق ما هو معروف، دعم جيش الأسد ومخابراته، وفي التمهيد للتطبيع، سبق أن استقبلت الرياض مرتين على الأقل أحد أهم قادة مخابراته. الدعوة إلى إنهاء وجود المليشيات المسلحة تستهدف “قسد” والفصائل التي تحت النفوذ التركي، لتعود السيطرة التامة للأسد على جميع المناطق. وتستهدف تالياً، من وراء “قسد” والفصائل، الراعيَين الدوليَين، الولايات المتحدة وتركيا، إلا أن هذا بمثابة موقف رمزي لا تأثير له، فلا واشنطن ستصلها أصداء البيان، ولا أنقرة مستعدة للانسحاب طالما كانت هناك سيطرة لقسد شمال شرقي سوريا حسب تصريحات لوزير الخارجية مولود جاويش أوغلو، أوردتها وكالة “الأناضول” يوم الجمعة.
يُذكر أنه في شباط 2012، بعد رفض الأسد المبادرة العربية، تم تعيين كوفي عنان موفداً مشتركاً من الجامعة العربية والأمم المتحدة، بموجب بيان تلاه آنذاك الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، وأمين عام الجامعة العربية نبيل العربي. غاية التذكير أن الجامعة العربية لم تكن بعيدة من الحدث السوري، وإعادة الأسد إليها بلا شروط فيها تنكّر للماضي القريب، أو انسحاب منه.
قد ينطوي الانسحاب من الشأن السوري على واقعية مفادها انعدام تأثير العرب في الميدان، خاصةً بعد استقرار تقسيم مناطق النفوذ على النحو الحالي. لكن هذه الواقعية السياسية لا تجانب فقط ما هو أخلاقي لجهة واجب جميع المؤسسات الإقليمية والدولية تجاه السوريين، بل تقفز أيضاً على قدرة الدول العربية “مجتمعة أو منفردة” على التأثير لدى دوائر صنع القرار الدولية.
من الشائع، على سبيل الاستهزاء، النظر إلى الحكام العرب كأدوات طيّعة لسياسات دول عظمى، أميركا تحديداً. وهذه فكرة غير دقيقة، ولا يلاحظ أصحابها المستجدات الإقليمية والدولية، ومنها مثلاً التنافس الخليجي في أروقة صنع القرار الأمريكي نفسه، أو هامش المناورة الخليجية بين واشنطن وموسكو وبكين. من السهل الجزم بأن معظم القادة العرب، وكثير من غير العرب أيضاً، يرضخ للاستراتيجيات الأميركية بخطوطها العريضة، مما لا يعني بالضرورة انعدام تأثيرهم. المشكلة، في حالتنا السورية، أن هذا التأثير سيذهب لصالح الأسد، وسيتلطى أصحابه خلف عودة الأخير إلى الجامعة العربية، رغم ارتباط عودته باستقالة الجامعة من الشأن السوري.
في الأيام الأخيرة، ظهر في وسائل التواصل الاجتماعي خاصة، استسهالُ معارضين سوريين الاستهانةَ بالتقارب السعودي مع الأسد، على نيّة إعادته إلى الجامعة العربية. ومع الاستهانة بالحكام العرب، عاد الكلام المكرور عن كونهم كلهم سواء، وعودة بشار إليهم تلائم طبيعتهم. تلك الأقوال تتجاهل أدوار عواصم عربية، سابقاً وحتى الآن، في الوصل بين هيئات معارضة وعواصم دولية، ومن مصلحة الأسد أن تكفّ عن ذلك، بصرف النظر عما يمكن قوله في المعارضة نفسها.
على صعيد متصل، من التبسيط والسذاجة معاً العودة مع كل خيبة إلى هجاء أولئك الحكام، الهجاءَ الذي يتكرر منذ عقود، والموروث بمعظمه من القوميين واليساريين. فضلاً عن أن هذه الأقوال تنكر على الأسد فرادته، إذ يصبح واحداً منهم على قدم المساواة، فإنها تجزم بأن السوريين في سعيهم إلى الحرية لم ولن ينالوا دعماً من الحكام العرب، بما أن الأخيرين ضد حرية شعوبهم أصلاً. وفق ما سبق، وهذا قول شائع أيضاً، تدخّل بعض العرب في الثورة بهدف إفسادها وقد فعلوا، وها هم بعد انتهاء المهمة بنجاح يعيدون صاحبهم إلى صفوفهم. بالطبع، لا يشرح هذا اللغو المعارض لماذا يُطلب من الحكام أن يكونوا على غير طبيعتهم في التعاطي مع السوريين، بما أنها محكمة لا فكاك منها!
في المنطق يلتقي الذين يستهينون بالمطلق بإعادة الأسد إلى الجامعة مع حكام عرب يريدون إعادته أيضاً تحت ستار العجز أمام مشيئة دولية تبقي عليه، ولا مفرّ من التطبيع معها قبل أن تكون معه. فهنا أيضاً تسليم عربي بالعجز، لكنه مقرون بفعلٍ قد يكون الأسوأ على قاعدة: تعريب الأسد وتدويل سوريا. إذ بموجبها يعود الأخير جزءاً من المنظومة العربية، في حين يُترك مصير السوريين للقوى الدولية والإقليمية الفاعلة في الميدان. ومن المفهوم أن هؤلاء الحكام غير مسموح لهم أخذ سوريا والأسد معاً على عاتقهم، لكنهم في المقابل غير مضطرين لأخذ الأسد وحده تحت عنوان “عودة سوريا إلى محيطها العربي واستئناف دورها الطبيعي في الوطن العربي” حسبما جاء في البيان المشترك بين وزيري الخارجية.
ربما ينبغي ألا ننسى النقد الفولكلوري الموجَّه إلى الأنظمة العربية، ومفاده مخالفتها توجهات وتطلعات شعوبها، الاتهام الذي لا يصحّ للأسف في هذه الحالة، فموقف معظم الحكام العرب من الصراع السوري كان متقدماً على موقف معظم الشعوب العربية منه. ومن الأفضل عدم منح الأخيرة الأعذار المخفِّفة، لأن مواقف معظمها لم تكن بضغط من سلطات بلدها، ومواقف بعضها على الضد من السلطة التي كانت مؤيدة لثورة السوريين. والإقرار بهذا الواقع قد يكون أفضل لجهة فكّ السوريين ارتباطهم العاطفي-الأيديولوجي الموروث من حقبة البعث، لصالح التفكير بواقعية أكبر وتحرّي المصالح المشتركة الفعلية مع الجوار وفي الداخل.
بالعودة إلى حماس الرياض المستجد لإعادة الأسد إلى الجامعة العربية، فهو يكرر بأسلوب مختلف خطأ تخلي الجوار العربي عن العراقيين قبل حوالى عقدين؛ هذه المرة بترك الحل السوري والسوريين خارج سيطرة الأسد للتدويل، وبعدم القدرة على المنافسة ضمن مناطق سيطرته. قد تكون للمعارضة القطرية والتأني الأردني، وعدم الاندفاع المصري أيضاً، مدلولات تفوق بالجدية والعمق الدولي تعجّل الرياض، وهو ليس بالخبر السارّ لوهم تعريب الأسد حتى إذا كان في طليعة الذاهبين إلى مؤتمر قمة الرياض.
المدن
اترك تعليقاً