الرقة بوست – مازن حسون
“السد تدمّر , اهربم يا عالم, أمريكا هدّت السد وجاية المي , يالله انقصف السد”.
كان ذلك صراخ بعض أهالي مدينة الرقة السورية عندما أدركتهم إشاعة انهيار “سدّ الفرات” غربي المدينة. لم يكن “م.س” إلا أحد الـ300 الف شخصٍ الذين عايشوا تلك الواقعة وشهدوا أهوال يوم “قيامة الرقة” .
“كنتُ أقف في مكاني مشلول الحركة , مسلوب الإرادة . ارتجف خوفاً ممّا سمعت أذناي . كان كلّ ما سمعناها صدمةً بالغة الصعوبة , الجميع كان يقول بأنّ السد قوي ويستطيع الصمود , لكنّهم ذهلوا عندما سمعوا أنّ السد قد انهار”. قال “م.س” ثمّ انقطاع اتصال النت معه , ترك المحل خوفاً من دوريات الحسبة التي قد تداهم مقهى النت.
لكم شتمتُ حظّي لأنّ من هناك ولستُ هناك، بين جموع أولائك البائسين المنسيين . صحيحٌ أنّني كنت سأموتُ رعباً من هول المشهد ، لكنّ ذاك كان أهون عليّ من البقاء في غرفتي الصغيرة في إحدى المدن الألمانيّة . أشاهد الكوارث تعصف بمدينتي ، وأنا عاجزٌ كل العجز الا عن البكاء ، والقهر.
كان المشهد مرعباً بحق ، كيف انتشرت شائعة انهيار “سدّ الفرات” بين المدنيين . في البداية ساد الصمت أرجاء المدينة ، لم ينبس أحدٌ ببنت شفّة . الجميع كان مصعوقاً . “هل وقعت الكارثة حقاً؟” قال بعضهم لنفسه . ثمّ بدأت النساء تصرخ ، والأطفال تبكي ، والعجائز تئن ، كلٌّ يصرخ من هول الخبر . عويلٌ يلي عويل ، لا أحد يعلم ماذا حصل ، فقط يصرخون ، هُدِم السدّ واقتربت الساعة التي قال عنها الله. “لا تكاد تسمع في المدينة سوى أصوات العويل والصراخ وزمامير السيارات التي أخذت تزمّر بشكلٍ هستيري” استئنف “م.س” حديثه في اليوم التالي للحادثة.
شارع 23 شباط ، حيّ الفردوس ، شارع تل أبيض ، شارع المنصور ، حارة البدو ،وسط المدينة, شمال الرقة ، جنوبها ، شرقها وغربها ، كان الناس بحالةٍ هستيريّة وجنونيّة “وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ” . حوادثُ سيرٍ في المدينة ، سائقو السيارات يبكون أثناء القيادة ، ومعهم الركاب ، أصحاب المحلات أغلقوا وركضوا الى عوائلهم يبكون . الجميع كان يبكي ويصرخ ، فبعد دقائق ستغمر المياه المدينة. مخارج المدينة اكتظّت بالناس ، آلافٌ يحاولون الفرار والنجاة. بعض النساء كانت تحملُ خبزاً وما تيسر من طعامٍ وثياب . ويركضون بشتى الإتجاهات ، لا أحد يعرف الى أين ، البعض كان يصرخ “عالجبل ياعالم محدا يغرق هناك”, المهم أنّهم كانوا يركضون هرباً من الطوفان القادم.
استطعتُ التواصل مرّة آخرى مع “م.س” وأكمل وصف ما جرى “أغلقتُ محلّنا في شارع المنصور وركضتُ باتجاه المنزل, كانت والدتي جالسة وأخواتي على عتبة المنزل بانتظاري “ماروح مندونك أبوي ” قالت لي وهي تصرخ من شدّة الكباء. “يلا المي دقايق وتكون بالركة أمشم نروح مع هالعالم”. ويضيف “الناس تصرخ بعضها تقول لأولادها “امشم نطلع عالبرية, وبعضها تقول عالجبل. الأب يلي شايل أولادو والأم تركض وتصرخ “يالله”. وناس كانت بالسوق وتركت الغراض يلي اشترتها وصارت تركض على بيوتها “.
وتابع : “الجوامع تكبّر كلها , والشيخ يبكي ويقول ” يا أخوة روحم عالجبل انضرب السد , سامحونا يا أخوان الله يسامحكم”. وناس تقع بالأرض وناس تركض تحاول تطلع برا المدينة.” كان “م.س” يرسل هذا الكلام عبر “الواتساب” وأنا أبكي لمجرد تخيّل هذا المشهد . أنتظر الرسالة تلو الأخرى لتخبرني ماذا حدث بمدينتي بعد تركي لها منذ أكثر من ثلاثة أعوامٍ.
المشهد كان صعباً أيضاً على النازحين , كانوا هم الآخرون يركضون دون جدوى , اجتمع السوريون من جميع المحافظات وشهدوا يوم “قيامة الرقة” معاً. تشاركوا معاً ذاك الرعب والخوف من كارثة لم يشهدوا مثلها خلال أعوام الثورة الستة.
كنّا جميعاً نراقب ماذا يحصل من خلف الشاشات في العوالم الإفتراضيّة . كان الناس في الخارج يحاولون الاتصال بذويّهم , بعضهم تمكن , واستطاع أن يودّع من تبقى من أهله في المدينة. البعض كان على اتصالٍ هاتفيّ ويبكي هو الآخر , لم يكن يتوقع بأنّه بعد كلّ هذا الصبر على جرائم “الدولة الإسلامية” ستكون النهاية بهذه الطريقة , سينهار السدّ ويموت الجميع غرقاً بعد أن أغرقهم التنظيم ذلّاً.
استمرّ الحال في المدينة لساعتين , كانت أعصابي قد انهارت تماماً لدى سماعي الخبر . “يالله راحت الرقة” أصرخ في نفسي. وانا عاجزٌ كل العجز عن الاتصال بأحد في المدينة . كما كنتُ عاجزاً عن فعلِ أيّ شيئاً لإنقاذ من تبقي من عائلتي في الرقة.
“شعرتُ كما لو أنّني في حلم , أو أنّي أشاهد فيلم نهاية العالم. لا أعرف كيف أوصف لك ما جرى, كيف كان البعض يحضن الأخر ويبكي. الجميع شعر بأنّه يعيش لحظاته الآخيرة, فعلى الرغم من أنّ البعض كان يركض ويحاول الهرب الا أنّه يعلم جيّداً أنّ المياه ستغمر المدينة في غضون دقائق قليلة. تجمّع الناس على أطراف المدينة, كان وكأنه يوم المحشر , صدقتُ الرسول بأنّ هذه الأرض ستحشر يوم القيامة كلّ البشرية, بل رأيته بأمّ عيني. أعجز عن اختيار التعبير المناسب , قيامة , قيامة . ما حدث كان قيامة يا أخي.” قال “م.س” خاتماً كلامه معي.
“م.س” كان مثلي ومثل الكثير من أبناء الرقة في الداخل والخارج, الجميع كان واثقاً بالفرات وسدّه.لم يصدّق أحدٌ بأنّ الفرات قد غضب. لم يكن يصدّق أحدٌ أنّ الفرات سيخون أبنائه يوماً . ذات الفرات الذي شاركنا بدايات الثورة , وتحمّل معنا كل المصائب والشدائد. وثق الناس بسدّ الفرات فلن يطوف الفرات مجدداً كما طاف على “نوحٍ” عليه السلام, قوم “نوحِ” كانوا من الكافرين لكنّنا لم نكن يوماً منهم , كلّ ما كفرنا به هو الذلّ والخنوع .
استمرّت الفوضى بضعة ساعاتٍ كان الناس قد شهدوا أهوالاً لم يعهدوا مثلها يوماً , الى أن كُذِبت الإشاعة عن انهيار السد وبدأت قلوب البعض تسكن , والبعض الآخر لازال حتّى اللحظة مخيّماً على الجبل بالقرب من الرقة خوفاً من انهيار السد وقدوم الطوفان. الا أنّ “عبد المنعم الشديد” البالغ من العمر 67 عاماً مات من شدّة الهلع والرعب جرّاء سماعه شائعة انهيار “سد الفرات”.
اترك تعليقاً