قبل أيام، أعلنت وزيرة الخارجة البريطانية أن “غزو أوكرانيا هو تحول في الباردايم بحجم الحادي عشر من ايلول/سبتمبر”2001. الباراديم الذي تشير إليه ليز تروس، يعني أكثر من مجرد تغير نوعي في طريقة التفكير، بل هو تحول نوعي في طريقة رؤية العالم وأدوات التعامل معه. في اللحظتين المحوريتين في التاريخ الغربي، كان الغرب معرضاً للهجوم، في المرة الأولى، المركز، نيويورك نفسها، والآن عند عتبات أوروبا، في الطريق القصير إلى قلبها. بسقوط البُرجين، حل الخطر الأخضر في مكان سابقه الأحمر، كتهديد وجودي للحضارة في سرديات الصِدام الحتمي. هذه المرة يعود الخطر الروسي، في لعبة الكراسي الموسيقية، ليحتل مكانه القديم.
يصعب التخمين أيهما الأقدم في السردية الغربية، الإسلاموفوبيا أم الروسوفوبيا. يشترك الإثنان في كونهما شرقاً، بطريقة أو بأخرى. الروس ليسوا أوروبيين بالمعنى الكامل للكلمة، بل هم آسيويون بِيض أو أنصاف آسيويين. “النموذج الآسيوي” هو ما يتشاركه الروس المغوليون والإسلام، في المنظور الغربي. بل، وحين يحاول بيتر غران، المؤرخ الأميركي، الإفلات من تلك النظرة الجوهرانية، يعيد إنتاجها مع تغيير طفيف في المصطلحات. ففي كتابه “ما بعد المركزية الأوروبية”، يرفض غران مفهوم “النموذج الآسيوي”، ويستبدله بـ”الطريق الروسي”، لكن الطريق الروسي ليس روسياً فقط، بل هو نفسه النموذج الآسيوي. الطريق الروسي منظومة لا تاريخية، صالحة لتفسير روسيا القيصرية والسوفياتية، وتضم تحت مظلتها دولاً عربية، العراق مثلا، وكذلك إيران، إيران الشاه وإيران الخميني. هكذا، لا يصعب تخيل أن يحل الإسلام محل السوفيات، أو الروس محل المسلمين، أو أن يتماهى الاثنان في سبيكة للشر الخالص، في العيون الغربية.
في تقرير بعنوان “كيف أصبحت غولدا مائير المولودة في كييف رمزاً للأمل في أوكرانيا”، يشير موقع “تايمز أوف إسرائيل” إلى مقولة يتم تداولها بين الأوكرانيين كشعار للمقاومة: “إذا ألقت روسيا أسلحتها، فلن تكون هناك حرب. إذا ألقت أوكرانيا أسلحتها، فلن تكون هناك أوكرانيا”. العبارة في أصلها منسوبة إلى رئيسة الوزراء الإسرائيلية السابقة، غولدا مائير، والتي أطلقتها خلال حرب أكتوبر(1973): “إذا ألقى العرب أسلحتهم اليوم، فلن يكون هناك المزيد من العنف. إذا ألقى اليهود أسلحتهم اليوم، فلن يكون هناك إسرائيل بعد الآن”. التقرير يضيف مقطعاً للفيديو، يظهر فيه مقاتل أوكراني يصرح للكاميرا بأن اسمه الحركي هو صهيون، ومع إنه ليس يهودياً فهو يعتبر نفسه صهيونياً، ومن ثم يخرج من حقيبته العسكرية كتابه المفضل، مذكرات مائير في ترجمة باللغة الأوكرانية.
في العبارة الأوكرانية، يحل الروس مكان العرب، والأوكرانيون محل اليهود. يلعب العرب هنا دورهم كمجاز للشر، حين تم تصويرهم وكأنهم الطرف الأقوى والمعتدي ومصدر العنف والعائق أمام السلام. أما الأوكرانيون، فمثلهم مثل يهود إسرائيل، الطرف الأضعف والمعتَدَى عليه، والبطل الذي يخوض حرب بقائه.
إلا أن العرب، وكذا الإسلام، ليسوا مجرد أدوات بلاغية في الحرب الدائرة في أوكرانيا. يجلب بوتين معه القوات الشيشانية إلى القتال، المشاركة الشيشانية تعني أشياء عديدة، تأكيد الدمج الكامل للشيشان في الاتحاد الروسي. يلعب بوتين أيضاً لعبة تحالفات الحروب الأميركية على نطاق أضيق، فكما سوغ الأميركيون حروبهم عبر تحالفات واسعة، كانت في معظمها صورية، تضم عشرات الدول، فموسكو التي ضمت بيلاروسيا إلى جانبها، تحاول تلوين حملتها العسكرية، وكأنها بالنيابة عن الشعوب الروسية بتعدداتها العرقية والدينية.
رداً على تدفق المتطوعين إلى الجانب الأوكراني، أعلن بوتين القبول بالمتطوعين إلى جانب قوات الانفصاليين. كان المتطوعون قد وصلوا بالفعل قبل هذا، فصُور الأيام الأولى للغزو كشفت مشاركة أميركي ينتمي لجماعات اليمين المتطرف، إلى جانب الروس. الراغبون في التطوع، بحسب الروس، من جنسيات عديدة، لكن ما ركز عليه بوتين ووسائل الإعلام، هم السوريون. التلويح بورقة المرتزقة السوريين بالأخص، تهديد بتدنيس أوروبا، بجلب البرابرة إلى قلبها.
يفهم الجانب الآخر، ما يعنيه بوتين جيداً. فقد صرح المستشار بالرئاسة الأوكرانية، أوليكسي أريستوفيتش، مؤخراً، أن الحرب ستنتهي على الأرجح في أول أيار/مايو. فإما أن يُبرَم اتفاق سلام سريع في غضون أسبوع أو أسبوعين، أو ستكون هناك حاجة “للقضاء على بعض السوريين” قبل الوصول إلى اتفاق سلام. الإشارة التهمكية إلى السوريين، لا يجب بالطبع أن تؤخذ بحرفيتها. لكن، هنا أيضاً، يعود العربي كمجاز للشر، شر يجب القضاء عليه لتحقيق السلام.
اترك تعليقاً