Views: 344 في تركيا كما ديمقراطيّات أوروبا: سياسات الهويّة القومية تنتصر على اللّيبرالية – الرقة بوست-Raqqa Post

في تركيا كما ديمقراطيّات أوروبا: سياسات الهويّة القومية تنتصر على اللّيبرالية

وصف مراقبون الانتخابات الرئاسية التّركية، التي جرت في 14 الشهر الجاري – بالتزامن مع الانتخابات البرلمانية – بأنها قد تكون الأهم في تاريخ الجمهوريّة، منذ التأسيس عام 1923.
لعل مردّ ذلك مرتبط بقضايا عالميّة وإقليميّة أكثر منه بسبب التنافس الداخلي بين الكتلة الإسلاموية/ القوموية وتحالف المعارضة الليبراليّة، ما يفسّر حمّى متابعة العملية الانتخابيّة على قنوات التلفزة العالمية والإقليميّة، كما في الصحف الكبرى.
فالغرب، وتحديداً الولايات المتحدة ليست راضية تماماً عن الخط شبه المستقل، الذي سلكته تركيا في عهد رئيسها الحالي، رجب طيب أردوغان، تجاه الأزمة الأوكرانيّة، وإبقاء خطوط التواصل مفتوحة مع موسكو وكييف في آن، بل والنجاح الاستثنائي في التّوسط للسماح بتصدير الحبوب الأوكرانيّة عبر موانىء البحر الأسود، التي يسيطر عليها الرّوس على الرغم من استمرار المعارك بين الجانبين بلا هوادة، على كل الجبهات، فيما ادعى كمال كليجدار أوغلو، زعيم تحالف المعارضة الليبرالية أن روسيا تتآمر من أجل إعادة انتخاب أردوغان.
ومن غير الخفيّ أيضاً أنّ التجديد لأردوغان في السلطة لولاية ثالثة ليس الخيار المفضّل حتماً في العواصم الأوروبيّة، بالنظر للأجواء السلبيّة، التي سادت العلاقات مع تركيا خلال ولايته السابقة والحالية، بل وحتى منذ كان رئيساً للوزراء قبل ذلك، بينما كان مرشّح المعارضة صريحاً في إعلانه حال انتخابه رئيساً في إصلاح العلاقات بالاتحاد الأوروبي، وإزالة مصادر الخلاف، التي تراكمت خلال العهد الأردوغاني. إقليمياً أيضاً، فإن التحولات الجديدة في الإطار العربيّ تجاه سوريا، والتفاهمات السعوديّة – الإيرانية، والأوضاع في الأراضي المحتلة ستتأثر بشكل أو بآخر بشخصيّة وتوجه الزعيم التركيّ، الذي سيقود بلاده خلال السنوات الخمس المقبلة.

الجولة الأولى: خيبات
أمل في المعسكرين

تابع العالم عبر شاشاته كيف لم يتمكّن أردوغان، زعيم حزب العدالة والتنمية الإسلامي المحافظ، من حسم نتيجة الانتخابات الرئاسيّة من الجولة الأولى، بعد أن حصل على 49.2 في المئة من مجموع الأصوات، أي أقل قليلاً من تجاوز حاجز الـ 50 في المئة اللازم للفوز بالتجديد وحسم العمليّة الانتخابيّة من الجولة الأولى، ما فرض عليه الآن خوض جولة إعادة يوم الأحد المقبل. ومع ذلك، فإن خيبة الأمل كانت أكبر بما لا يقاس في المعسكر الآخر، حيث كانت استطلاعات الرأي – ومكاتب المراهنات ترجح فوز أوغلو، زعيم حزب الشعب الجمهوري الديمقراطي الاجتماعي، ومرشح تحالف ستة أحزاب معارضة، الذي حل ثانياً بحصوله حوالي 45 في المائة من الأصوات.
ولانتزاع المنصب الأهم في النظام السياسيّ التركيّ، سيحتاج أوغلو في هذه الجولة النهائيّة إلى سد الفجوة مع أردوغان – أي ما يقارب 2.5 مليون صوت – والفوز بأصوات إضافية، على افتراض أن الرئيس الحالي سيحصل على نفس الأصوات التي حازها في الجولة الأولى. لكّن المطلعين على أجواء الانتخابات يقولون إن أوغلو سيواجه تحدياً كبيراً في إعادة تعبئة مؤيديه المحبطين الذين قد لا يخرجون الأحد المقبل بنفس الكثافة التي اقترعوا فيها في الجولة الأولى. كما أن المرشح الثالث، اليميني المتطرف، سنان أوغان، الذي حصل على 5.3 في المئة، على الرغم من افتقاره إلى تنظيم على مستوى البلاد وأي تغطية إعلامية تقريباً، أعلن دعمه لأردوغان في الإعادة، بما قال إنّه يتماشى مع «القيم الأتاتوركية والقومية». وفي الوقت نفسه، يواجه أردوغان تحديا معاكسا: فقد يتعرض انتخابه للخطر إذا تقاعس أنصاره عن التصويت بسبب الإحساس بأنّه سيفوز على أي حال.

تركيا تالياً في قبضة قوموية إسلاموية

يكاد يتفق معظم المراقبين الآن على أن أردوغان في وضع أفضل لتحقيق الفوز في جولة الإعادة، ومن المرجح عمليّاً أن يعاد انتخابه للرئاسة الآن بعد أن كاد قاب قوسين من أن يحسم الانتخابات في الجولة الأولى، رغم وفرة التوقعات والتمنيات من جهات عديدة بغير ذلك. كما أنّ تحالف حزبه، «العدالة والتنمية»، مع حزب الحركة القومية اليميني المتطرف قد زاد من أغلبيته البرلمانية في الانتخابات الموازية للرئاسيات.
وبشكل عام فإن اليمين القومي بدا المنتصر الأكبر في كل ما جرى، إذ فاق أداؤه في الانتخابات البرلمانية التوقعات فحصل على 10 في المئة من الأصوات ليصبح ثالث أكبر حزب في البرلمان التركيّ، فيما تآكل في المقابل دعم الأحزاب اليسارية والكرديّة بشكل ملحوظ. ولذلك فمن المتوقع الآن أن يصبح اليمين القومي القوة المهيمنة الجديدة في السياسة التركية بعد عقدين من هيمنة المحافظة الإسلاموية لحزب العدالة والتنمية. وفي الحقيقة، فإن أردوغان اقترب بالفعل من القومية اليمينية التي تبناها شريكه دولت بهجلي، زعيم حزب الحركة القومية.
أوغلو – الذي يقود تحالفا فيه حزب الخير اليميني القومي – حاول خلال الفترة ما بين الجولتين التحرك أكثر نحو أقصى اليمين المتطرف، وتبني موقفه الناري المناهض للمهاجرين الأجانب، فهاجم اللاجئين السوريين في تركيا (الذين يزعم أنهم بلغوا عشرة ملايين)، وجدد تعهده الانتخابي بأنه سيخلص البلاد منهم، وهذه المرّة بلغة أكثر عدوانية بكثير من تلك التي استخدمها قبل الجولة الأولى. لكنّه بدا في ذلك يائساً وهو يحاول إعادة تقديم أوراق اعتماده كقومي تركي، وهو من خلال تراجعه عن صورته كديمقراطي ليبرالي واجتماعي وتقدّمي، فإنه يخاطر بخسارة دعم الناخبين الأكراد الذين خرجوا بكثافة لصالحه، فضلا عن دعم مجموعات الليبراليين واليساريين الأتراك.

أوجاع «الديمقراطيات»: صراع اليمين والليبرالية

الانتخابات التركيّة، وبغض النظر عن نتائجها، كانت بحق عرساً ديمقراطياً حقيقيّاً شاهده القاصي والداني، عبر شاشات العالم، ويحق للأتراك الفخر به. لكن الديمقراطية تأتي ومعها أوجاعها، ومنها أن الشعارات التي تطرحها النخب المتنافسة على السلطة اكتسبت لوناً شعبوياً حاداً حول قضايا الهويات واللاجئين دون أن تمس أسس غياب العدالة الاقتصاديّة أو تردي حال العدالة الاجتماعيّة – دولة المواطن بغض النظر عن الدين والطائفة والأصل والمنبت – وهو أمر كان سهلاً بشكل خاص في الحالة التركيّة، حيث معدل التعليم في البلاد لا يتجاوز الـ7 سنوات مدرسيّة، والأغلبيّة الساحقة من المواطنين (95 بالمائة) لم يغادروا بلادهم قط. ويمكن أيضاً أن نقرأ في فشل أوغلو تراجعاً لجاذبية الليبراليّة في مواجهة التّطرفات القومية اليمينية والعداء للآخر المختلف، سواء كان مهاجراً أو حتى من الأقليات، وهو أمر انسحب على جميع الديمقراطيات الأوروبيّة تقريباً التي عاقبت النخب الليبرالية فيها على فشلها الاقتصادي والاجتماعيّ الذّريع عبر تصعيد حركات اليمين القومي المتطرفة.
لقد صعد أردوغان إلى السلطة بداية متحدثاً باسم طبقة رجال الأعمال الأتراك، الذين أرادوا التمتع بفوائد العولمة والانفتاح. وقتها، قبل عقدين من الزمن، كانت تركيا تفتخر بتصدير الثلاجات وأجهزة التلفزيون والمواد الغذائيّة. أما اليوم، فقد مشت خطوات مهمة نحو الاكتفاء الذاتي في التكنولوجيا والتصنيع العسكريّ. ولذلك فإن تحالف الإسلاموية / القوموية المستجد هو أيضاً انعكاس لتغيرات في القاعدة الاقتصادية في البلاد، وازدياد أهميّة وتأثير المجمّع الصناعي / العسكريّ في الحياة التركيّة من النواحي الاستراتيجيّة والاقتصاديّة. ولذلك فليستعد العالم للاحتمال الغالب باستمرار وجود أردوغان، رجل تركيا القوي، لخمس سنوات مقبلة (على الأقل!) في ملعبيّ السياسة العالمية والإقليمية، فإلى سهرة تلفزيونية أخرى مساء الأحد المقبل.

* ندى حطيط – إعلامية وكاتبة لبنانية – لندن

القدس العربي

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »