عمر قدور
تناقلت معظم وسائل الإعلام تقرير صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية، نُشر يوم الاثنين الماضي، عن غارات إسرائيلية على مواقع أسدية لتصنيع السلاح الكيماوي، شنها الطيران الإسرائيلي في الثامن من حزيران الفائت. غالبية وسائل الإعلام التي نقلت الخبر وصفت ما قُصف بأنه كيماوي الأسد، أو مصانع السلاح الكيماوي التابعة لقوات الأسد، بما فيها وسائل إعلام تتبع حكومات أُشيع عن تقاربها مؤخراً مع بشار الأسد.
استخدام “كيماوي الأسد” من وسائل إعلام تعبّر عن تقارب مموليها مع الأسد لا يعكس تراجع مموليها وإن كانت هناك فرملة أمريكية راهناً، فالأقرب إلى الواقع أنها استخدمت تعبيراً تراه حيادياً، أو أنه تعبير اكتسب خلال السنوات العشر الأخيرة صفة الصواب بصرف النظر عن الموقف من بشار. ليس من مواربة تستر حرجاً، ولو متدنياً، فهذه الجهات تنوي التطبيع مع الكيماوي، وهي تقرّ بأنه ليس سورياً في أسباب تصنيعه وغاياته.
في التفاصيل أن الطائرات الإسرائيلية قصفت ثلاثة أهداف قرب حمص ودمشق في حزيران، مرتبطة جميعاً بتصنيع الكيماوي، وفي آذار2020 كانت قد قصفت فيلا ومجمعاً وصلت إليهما مواد مُشتراة من أجل استخدامها في تصنيع غازات الأعصاب. أي أن الأسد مصر على إعادة بناء ترسانة من السلاح الكيماوي، رغم تعهده قبل ثماني سنوات بالتخلي عنه بعد استخدامه الأشهر في قصف غوطة دمشق، ورغم كل ما هو معروف عن الظروف الاقتصادية الخانقة التي يعيشها. إذا، للكيماوي أولوية وله مكانة عزيزة على قلبه.
ربما يفكر والي دمشق في أن يورث ابنه الكرسي، ومعه ترسانة من السلاح الكيماوي كضمانة للحفاظ على الأول. هي وصفة مجرّبة، مثلما ورث من أبيه وصفة استخدام الوحشية والعقاب الجماعي على نطاق واسع. مع بشار، كان الأمر منذ بداية الثورة كأنه مقرر ومحسوم، فإدارة أوباما آنذاك حذّرت مراراً من استخدامه السلاح الكيماوي، فضلاً عن القول أن استخدامه خط أحمر، وصولاً إلى إبرامها صفقة الكيماوي المشينة.
تل أبيب من جهتها واظبت في تلك الفترة ذاتها على إبداء تخوفها من وقوع المخزون الكيماوي تحت أيدي فصائل متطرفة. بمعنى أنها لم تكن في أي وقت تتوقع أن يستخدمه بشار الأسد ضدها، فوجهة استخدامه الكيماوي معروفة ومحسومة، ولا داعي للقلق إطلاقاً.
ذلك كله كان معروفاً من قبل السوريين أيضاً، بل كان الأسديون في طليعة مَن يعلن الوجهة التي سيُستخدم فيها الكيماوي، ومن بينهم متحمسون كانوا يشجعون على استخدامه أو يلومون رئيسهم على التأخر في ذلك. يصادف مثلاً في مثل هذا الشهر من عام 2012 أن صفحات الموالين احتفلت بما وصفته بعملية نوعية، تقدمت فيها قوات الأسد “حسب روايتهم” بعد أن قصفت طائراته فصيلاً معارضاً بالطحين، ما أدى إلى هرب عناصر الفصيل ظناً منهم أنهم يتعرضون للقصف بمواد كيماوية. تلك كانت، إذا صحت الواقعة، من تجليات روح الدعابة الأسدية التي ستنقلب إلى جدية فاجرة في صيف العام التالي.
سبق لتقارير صحفية الكشف عن شحنات تدخل في تصنيع الكيماوي، اشتراها وسطاء للأسد من بلدان أوروبية ووصلت إليه حقاً، أي أنها دخلت في طور التصنيع. الملفت أن عمليات الوساطة تلك لم تكن حاذقة جداً إلى حد تصعب فيه ملاحقة الضالعين فيها، ومن المرجح أن يكون بعض أجهزة المخابرات الغربية “على الأقل” على علم بما توفر لجهاز الموساد، وعلى رأسها المخابرات الأمريكية. لكن إقرار واشنطن بوجود عمليات تهريب يعني إعلانها صراحة أن الأسد لا يلتزم بصفقة الكيماوي، وهو لم يتهرب فقط من تسليم مخزونه كاملاً بموجب ما صرّحت به الإدارة ذات مرة. بعبارة أخرى، تتهرب واشنطن من الكشف عن خبايا نشاط الأسد الكيماوي للتهرب من مسؤولياته بموجب الصفقة التي أبرمتها معه، رغم أن الصفقة مخزية أصلاً.
لندع جانباً أي تفسير يحابي واشنطن بتكهن ينص على وجود تنسيق بينها وبين تل أبيب، تتولى الثانية بموجبه تعطيل البرنامج الكيماوي. الأقرب إلى التصور أن ثقة تل أبيب بالأسد قد تزعزعت عما قبل، فتخوفاتها القديمة من وقوع الكيماوي في حوزة فصائل متشددة أو منفلتة لم يعد لها سند. إنها الآن تنظر إلى سلطة الأسد كتنظيم منفلت غير جدير بالثقة، رغم تأكدها من أنه لن يهاجم إسرائيل، بل لن يرد على اعتداءاتها المستمرة عليه. بما أن الطيران الإسرائيلي يقصف بلا رادع تتصرف إسرائيل على مبدأ السلامة المطلقة، فإذا كان هناك احتمال واهٍ لا تزيد نسبته عن واحد في الألف لاستخدام الكيماوي، ضمن احتمال مواجهة شاملة مع طهران، فالأولى هو التخلص منه.
في الجانب التقني، يحتاج مخزون السلاح الكيماوي عندما يُقرر استخدامه إلى مزج نهائي، ثم إلى تركيب على السلاح التقليدي الذي سيحمله إلى الهدف، وينبغي أن تتسم الطائرات أو الصواريخ بالكفاءة لإصابة أهدافها بدقة. هذه كلها شروط غير متوفرة في مواجهة إسرائيل بما لديها من تفوق تكنولوجي هائل في الرصد وفي التصرف الاستباقي، وعدم توفرها يضيف تأكيداً آخر على أنه “كيماوي الأسد” في مواجهة السوريين ولا أحد غيرهم.
قد يستفيد السوريون من تدمير كيماوي الأسد، لا لأن إسرائيل تريد خدمتهم فهي متمسكة ببقائه في السلطة كما أعلن العديد من مسؤوليها، أي تريد له البقاء كنظام إبادة ضدهم مع تحفظات بسيطة تتولى غاراتها التعبير عنها. وهي تحفظات خاضعة للتغير أيضاً، ما يسمح للأسد باستئناف نشاطه هذا عندما لا تعود مكترثة به، وربما تفعل على منوال بعض أصدقائها العرب فتطبّع معه بوصفه كيماوياً. أما هو فربما يكون بمرور الزمن وتراكم الخبرة قد فقد روح الدعابة من أجل رش الطحين أولاً، ومَن يدري؛ قد يكون مضطراً لاستخدام غاز الأعصاب على سبيل الدعابة أولاً، إذا كان لديه وفرة من الكيماوي وندرة في الطحين.
اترك تعليقاً