محمد السلوم
كان مُتوقعاً أن يُعلن عن وفاة مصطفى طلاس مؤخراً، ولكن الذي لم يكن مُتوقعاً أبداً هو ما حدث بعد الإعلان.
مصطفى طلاس وزير الدفاع السوري الذي منذ وعيتُ الدنيا وهو وزير دفاعها، دون أن أعلم عن ماذا كان يدافع! المهم أنه كان ثابتاً قارّاً في منصبه كواحد من بديهيات الكون؛ حافظ الأسد رئيساً ومصطفى طلاس وزيراً للدفاع.
ساعد في توطيد حكم حافظ الأسد، كان شريكاً في كل ما ارتكبه الأسد بحق السوريين من مجازر متنقلة من حلب إلى تدمر إلى حماة، وإلى عمليات الإعدام المنظّمة التي نالت من كل من تجرّأ على معارضة الأسد بدعوى الانتماء للإخوان المسلمين، ثم أكمل معروفه بالإشراف على انتقال السلطة للابن. ومع انطلاق الثورة السورية انزوى في فرنسا.
يعلن فراس طلاس رجل الأعمال المعروف، وفاة والده عبر حسابه على “فيسبوك”، ومع هذا الإعلان بدأت ثورة “العامة”! إذ لأول مرة يحصل منشور نعي على “وجوه ضاحكة” أكثر مما يحصل على “وجوه حزينة” أو علامة “إعجاب”.!
كانت وجوهاً شامتة لا ضاحكة فقط، لم تتوقف هذه الشماتة عند المنشور نفسه، بل طاولت كل تعليق على المنشور ترّحم على الوالد أو سأل الله الصبر للأبناء.
بعد سويعات، وأمام الكم الهائل من الشامتين، اضطر فراس إلى إخفاء منشوره عن العامة. ولكن البعض كان قد التقط صوراً لكل تعليقٍ ولكل تعبيرٍ بالإعجاب أو الحزن. ومع إخفاء المنشور دقت ساعة الحساب!
نصب “العامة” المقاصل الافتراضية على عرض ساحة “فيسبوك” السوري، وسيق إليها كل من قام بالتعليق على المنشور المختفي، أو اكتفى بالتعبير عن تضامنه “بوجه حزين” أو بعلامة “إعجاب”!
أسماء معروفة من ناشطين وإعلاميين ومعارضين وفنانين وأدباء وشخصيات اعتبارية؛ كلها كانت مُدانة، وبات تصرفها ذاك مثاراً للسخرية والتندر، وتعرّضت لواحدة من أكبر حملات الإذلال والنيل منها منذ بداية الثورة، ومن أبناء الثورة أنفسهم لا من شبيحة نظام الأسد!
كان هؤلاء غاضبين، منفعلين، أمام ما اعتبروه خيانة هذه “النخب” الافتراضية، لثورتهم وإيثارهم التملق للمليونير ابن الجنرال المجرم.
النخب بدورها لم تتفق على رد، بعضها أغلق حسابه على “فيسبوك” حتى تمر العاصفة، والبعض الآخر سكت تماماً، والبعض الأخير قرر الرد، وليته لم يفعل.
اتُّهم الشامتون بأنهم همج ورعاع، وعشاق للدماء لدرجة أنهم لم يُشفقوا على رجل ينعى أباه، وأنهم بهمجيتهم هذه سبب انهيار الثورة وفشلها، في حين عاب البعض الآخر على “العامة” ملاحقة الناس على “إعجاباتها” واعتبر ذلك سبباً من أسباب عدم انتصار الثورة!
لم يسكت “العامة” بالطبع، بل حملوا مقاصلهم مرة أخرى، ونصبوها في صفحات هؤلاء، الذين اعتادوا منهم دائماً على آلاف الإعجابات، ومئات عبارات الإجلال والتقدير والفخر بالصداقة والتشرف بالمرور. كانت هذه الصفحات مكتظة بكل معنى الكلمة بالشتائم المقذعة والعبارات الحاطّة من قدر هؤلاء. وخلت بعض منشوراتهم من أي مُدافع أو مُتضامن مع أصحابها.
كان الرد عنيفاً أيضاً، ودافع “العامة” بأن هؤلاء تناسوا أن ملاحقتهم لهم على إعجاباتهم وأنشطتهم في “فيسبوك” كانت حتى وقت قريب أمراً محبباً ويدعو للتفاخر. وأنهم تناسوا أن أطفال الرقة ودير الزور الذين يقتل آباؤهم وتُمزّق أجساد أمهاتهم تحت وقع غارات التحالف والطيران الروسي من حقهم أيضاً أن يعزيهم أحد ما بأهلهم، ولكنهم – ولأنهم ليسوا “رجال أعمال”- لم يجدوا متّسعاً في صفحات النخب المعارضة.
ما حصل بعد وفاة مصطفى طلاس في “فيسبوك” السوري هو ثورة بكل معنى الكلمة، ثورة افتراضية، أطاحت بمن اعتاد الجلوس على كرسي المنظّر والمدرّس والمقرر والقائد.
والعامة الذين كان يُحسب حسابهم فقط في تكثير القطيع “الفيسبوكي” وزيادة التفاعلات وتضخّم الشعبية والمباهاة بهم أمام الآخرين؛ انقلبوا فجأة ليصبحوا خطرين ومتمردين وربما مندسين أيضاً!
وسيجعل هؤلاء “الفيسبوكي” السوري المعروف يعد للعشرة قبل أن يضع علامة “إعجاب” أو غيرها، على منشور ما، قد يثير حفيظتهم، ويمس خطوطهم الحمراء!
ما فعلته وفاة مصطفى طلاس درس قاسٍ لكل من صنّف نفسه في مصاف الشخصيات الاعتبارية المعارضة، درس مفاده أن الثورة لا تتسامح مع من يتملق أو يهادن أو يتخاذل أو يبحث عن مصلحة شخصية نفعية. الثورة تحفظ جيداً وجوه القتلة والمجرمين والمنتفعين، لا تنساهم، لا تتسامح معهم أو مع من يشفق عليهم قيد “إعجاب”!
اترك تعليقاً