د. رشيد الحاج صالح
تعدّ جماعة الإخوان المسلمين في سورية من أكثر الأطراف التي فاجأتها الثورة السوريّة التي اندلعت في آذار عام 2011. ولعلّ هذا ما يفسّر ارتباكها في كيفية التعامل مع هذه الثورة. وقد أدى هذا الارتباك إلى عدم تمكّنها من قيادة الثورة, بل وعدم تمكّنها حتى من التأثير بشكل فعّال وإيجابيّ في مجرياتها, لا في المرحلة السلمية، ولا في مرحلة تحوّل الثورة إلى صراع مسلح, بل أخذ يزداد تعقيداً يوم بعد يوم.
سرعان ما يدرك, المتابع لتصريحات وبيانات قيادات الإخوان المسلمين في سورية, خلال الفترة الأخيرة, أن الإخوان المسلمين, في النهاية, خسروا أكثر ممّا كسبوا من الثورة السورية, وحاولوا ليَّ عنق الثورة بما يتناسب مع مصالحهم وأهدافهم أكثر من محاولتهم مواكبة الثورة والتكيّف مع أهدافها التي صدح بها السوريون في الشوارع.
الفكرة الأساسية التي انطلق منها تفكير الإخوان المسلمين هي: بما ان الثورة اندلعت، كيف يمكن الاستفادة منها قدر الإمكان بما يخدم مكانة الجماعة، وتمكينها من لعب أكبر دور سياسي ممكن. هكذا عرقل الإخوان تشكيل المجلس الوطني السوري عام 2012 لعدة أشهر حتى يحصلوا على حصة الأسد في المجلس، وكان لهم ذلك. كما تجدهم انتشروا ضمن منظمات المساعدات والإغاثة انتشار النار في الهشيم, حتى لا تفوتهم فرصة استغلال تلك المساعدات لخدمة الإخوان من السوريين دون غيرهم, ومنحهم مزيداً من النفوذ, (نصحني مسؤول التربية السوري الذي ينتمي للإخوان المسلمين في مدينة شانلي أورفا التركية بان تلبس المعلمات الحجاب, إذا أردْنَ الحصول على وظيفة معلم, عندما تقدم بعضهنّ بأوراق للحصول على وظيفة معلم. طبعاً كل من لم تتحجّب لم تحصل على تلك الوظائف).
على العموم يمكن لملمة مشكلة الإخوان مع الثورة السورية بثلاث نقاط أساسية، أدّت في النهاية إلى تنصّل الإخوان من أي مسؤولية أخلاقية أو إنسانية تجاه السوريين ومأساتهم التي تزداد يوماً بعد يوم.
الثورة السورية ثورة شعبيّة وليست أيديولوجيّة :
لم يفهم الإخوان أن الثورة السورية ثورة شعبية عفوية، اندلعت ضد ظلم وفساد النظام السوري, ليس لها من هدف سوى التخلّص من هذا النظام الذي أذاق السوريين مرارات النظام والقهر والفساد المنظّم حوالي نصف قرن من الزمن. إنها ثورة من أجل الحرّية لجميع السوريين الذين لا يريدون أكثر من حياة يتمتّعون فيها بالمساواة والعدالة بين الجميع. أمّا الإخوان ففهموا من الثورة أنها فرصة مؤاتية لفرض أيديولوجيّتهم الدينية, وتقديم أنفسهم بأنهم البديل الممكن, بل والوحيد, للنظام.
بعد عدة سنوات بدأ الإخوان يدركون أن الثورة تجاوزتهم, وأنها غير معنية بأيديولوجيتهم وطموحاتهم, وأنها لن ترضى بالإخوان كبديل للنظام, سيّما وقد اتّضحت ميولهم للانفراد بالسلطة وتهميش باقي أطياف الثورة بعد ما حصل معهم في مصر, عندما تراجع الإخوان عن تعهّدهم في تقديم مرشح لرئيس الجمهورية, ثم في تهميشهم لكل الجماعات التي شاركت بالثورة ومحاولة الانفراد بالسلطة, الأمر الذي استغله قائد الجيش عبد الفتاح السيسي ليقوم بالانقلاب المعروف عليهم.
عجز الإخوان عن إنجاز مراجعة شاملة لأيديولوجيّتهم السياسية:
لم يتجرّأ الإخوان على تقديم مراجعات لأيديولوجيّتهم السياسية بما يرضي الثورة ومطالبها. بقي مفهومهم عن الديمقراطية غامضاً, حتى أنهم لم يطوّروا مفهوم الشورى بما يتناسب مع متطلبات الحياة السياسية الحديثة. مثلما بقيت العلمانية عدوّاً رئيساً لهم. كما لم يتوانوا عن تكفير العلمانيين، على الرغم من أن ربع مسلمي العالم علمانيون, وعلى الرغم من أن المسلمين العلمانيين يعيشون أوضاعاً أفضل نسبياً من غيرهم, وعلى الرغم من أن مشاركة العلمانيين في الثورة السورية كانت أكثر من مشاركتهم, لا سيما في السنة الأولى.
المُراجع لفقه الإخوان سرعان ما يفاجأ بأنهم مازالوا ينظرون للثورة على أنها ” فتنة ” ( هذا ما قاله محمد سيلم العوّا أحد المنظّرين المصريين للإخوان قبل أسابيع من الثورة المصرية). وهذا يعود إلى أنهم لم يأخذوا بالنظريات السياسية الحديثة التي تعتبر أن من حق الشعب أن يثور على الحكام الظالمين. هم يفضّلون مفهوم” الجهاد ” على مفهوم الثورة. وهذا يعود إلى أن نظريتهم في السياسية تنتمي للعصور الوسطى, تلك التي تعتبر مصدر السلطة إلهي وليس الشعب. وعندما لا يكون الشعب هو مصدر السلطة لا يعود لهذا الشعب أي أهمية، إلا بوصفه موضوع للسلطة والهيمنة, وهذه تماماً نفس نظرة النظام الأسدي للشعب السوري.
الانتماء للأيديولوجيا وليس للشعب:
بهذا المعنى فإن اهتمام الإخوان المسلمين منصبّ على كيفية تطبيق أيدولوجيّتهم على الشعب، وليس ما يريده الشعب, بحيث لا تنطلق نظريتهم السياسية من مطالب الشعب، وتقديم تصوّر حديث للشريعة يجعلها تقف مع الناس العاديين ومطالبهم ( على طريقة حزب العدالة والتنمية التركي أو طريقة مهاتير محمد رئيس ماليزيا السابق, أو طريقة الأحزاب الإسلامية في الهند .. ). عدم القيام بتلك المراجعة الجريئة، وضعهم في مواقف محرجة، جعلت شعبيتهم تتراجع بشكل كبير, ليصل الأمر بهم لتقديم تصريحات أثارت سخرية السوريين من جهة، مثلما خلّفت بداخلهم شعوراً بالمرارة. ومن هذه التصريحات ما قاله الدكتور عماد الدين الرشيد على صفحته على الفيس بوك، عندما عاتب المسلمين عتاباً شديد اللهجة لأنهم ” ترحّموا” على المعارض طيب تيزيني؛ لأنه في النهاية علماني.
آخر صيحات الإخوان المسلمين في عالم الفضائح ما وصف به السيد ملهم الدروبي, أحد الممثّلين البارزين لجماعة الإخوان السورية, السوريين المتواجدين في تركيا بأنه ليس عندهم ” لا حسّ ولا ذوق “, لأن تقديم واجب الضيافة من قِبَل الأتراك لا يعني أن يبقى السوريون هناك لمجرّد أن قراهم مدمّرة, والأمان في بلادهم مفقود, وسبل العيش شبه معدومة.
من الواضح أن السيد دروبي يمثّل الحكومة التركية في هذه التصريحات وليس السوريين. هو يتحدث بوصفه ممثلاً لإخوان تركيا, ولذلك فإن لهجته تمنّن السوريين باعتبارهم لاجئين عنده بوصفه إخوانيّ. وهذا ما يفسّر أيضاً أنه يتحدث بوصفه صاحب الدار وليس الضيف. بوصفه من يمثل الأنصار وليس المهاجرين, فالدروبي أكبر من أن يفكّر بنفسه بوصفه لاجئاً. هكذا فقد الإخوان أي تعاطف إنساني وأخلاقي مع السوريين، وكأن هناك شيئاً ما خفيّاً، يجعلهم يشعرون بالعار من السوريين. وهذا ناتج عن نوع من الإحساس بأن الثورة السورية في النهاية أضرّت بهم، وقلّلت من احتمال وصولوهم إلى السلطة.
الثورة السورية همّشت الإخوان:
فالثورة السورية أفقدت الإخوان مكانتهم التقليدية بوصفهم ” المعارضون الرئيسون ” للنظام الأسدي, مثلما أفقدتهم مكانتهم التي كانوا يعوّلون عليها بوصفه ” القيّمون الرئيسون ” على الدين في سورية. هناك أسباب كثيرة وراء تلك الخسائر، منها السوريون أنفسهم, ولعلّ هذا ما يفسّر تخلّيهم الأخلاقي عن السوريين, هذا التخلّي الذي يشبه, إلى حد كبير, تخلّي عبدالله المحيسني عن السوريين في عام 2017 عندما برّر قصف بشار الأسد للسوريين بأنهم ” يسبّون الذات الإلهية”. وفي هذه النقطة تكاد تشترك كل الأيديولوجيّات الإسلامية: الإخوانية, والسلفية, والتكفيرية, وحتى الصوفية والدعوية من حيث تحميل السورين أوزار ما يحصل لهم.
العقلية الإخوانية تقوم على بيع رأسمالهم الرمزي لمن يريد أن يشتري. باعوا أنفسهم لعبد الناصر فاختلفوا على السعر وطردهم, وباعوا أنفسهم لعمر البشير في السودان, فاشتراهم دون أن يدفع لهم، ثم طردهم. مصدر قوّتهم أنهم بضاعة مطلوبة، ولكن كل المشترين يعرفون أنهم بضاعة شبه محروقة, ولا تصلح للاستخدام سوى مرة واحد.
الغاية تبرّر الوسيلة:
قبل عدة أيام نشر السيد ملهم الدروبي بوستاً يقول فيه :” من يُحْسِنُ التفكير من الحكّام ولديه الحرية في اتخاذ القرار يقتربُ أكثر وأكثر لشعبه, وليس هناك أفضل من الإخوان حليفاً لمن أراد أن يتلاحم مع شعبه. النصيحة صادقة أقدّمها لأمثال هؤلاء الحكّام “.
هذا الإعلان التجاري يقول: إن الإخوان لهم شعبية، ويمكن أن يبيعوها للحاكم على أن يتّخذهم حليفاً, ويتّخذهم حليفاً، تعني أن يشركهم في المناصب والسلطة, وهم يتولّون أمر التسويق له. يبدو أن الدروبي مستعدّ أن يأكل نفس المقلب الذي وقع به أسلافه عندما طُردوا من قبل عبد الناصر وعمر البشر، بعد أن استخدموهم. طبعاً الدروبي ليس غبيّاً، ولكن حبّ السلطة والمال يعمي القلوب. عدم إعطاء الأولوية للناس ومصالحهم يجعلهم لا يفكّرون إلا بالحكّام، وكيفية إقناع أولئك الحكّام بأن يشركوهم في السلطة.
هذا الإعلان يذكّرنا بالاعتذار الذي قدّمه محمود الزهّار للنظام السوري- قبل أيام – والذي قال فيه إن مصلحة القضية الفلسطينية تقضي أن تكون لحماس علاقات جيدة مع سورية وإيران, وإنه لم يكن على حماس ترك بشار الأسد. هنا يتّضح مبدأ الغاية تبرّر الوسيلة في أبشع صورة: التعاون مع الظالمين لكفّ الظلم عن الذات, طبعاً لم يسأل الزهار نفسه، كيف سيساعد بشار الأسد القضية الفلسطينية، وهو سليل نظام تاجر بالقضية الفلسطينية لما يربوا على نصف قرن من الزمن؟
لم يؤمن الإخوان يوماً بالسوريين, لا بحريتهم ولا بحقوقهم, لا داخل الوطن ولا خارجه. ولذلك لم يفكّروا بتطوير نظرية سياسية تواكب مطالب السوريين المنتفضين, الأمر الذي يجعلنا نظنّ أن ” انتحارهم السياسي بدأ يلوح بالأفق “.
كاتب وأكاديمي سوري
اترك تعليقاً