لا يكفي وصف كمال أعراض الذين خضعوا للاختبارات لتحديد نوع المخدر بدقة، فعدم النوم يمكن أن ينطبق على طيف واسع من المواد المخدرة، واصفرار الوجه يمكن أيضاً أن يُعزى إلى عوامل كثيرة.
شهادة مساعد في أحد الأفرع الأمنية
في حي شعبي من ضواحي مدينة اسطنبول التركية، يخفض كمال (رفض التصريح عن اسمه الكامل) صوته عند الحديث عن النظام السوري، على رغم أنه بعيد آلاف الكيلومترات. يتحدث كمال بكلام غير مترابط، حالته النفسية مضطربة، يعدّل جلسته مراراً أثناء الحديث، يقف، ينظر حوله ثم يجلس، ليتحدث عن تجربته في سجون النظام السوري.
يؤكد أنه لم ينشق عن الأمن، ولم يخن “الدولة السورية” التي لا يسميها النظام السوريّ، لكن الخوف دفعه الى الهرب خارج سوريا، ومحاولة الدخول إلى أوروبا بطريقة غير شرعية. يعتبر كمال نفسه ناجياً ومولوداً من جديد، “فأي مكان خارج السجن هو جنة، ولو أكلت التراب”.
أخبرني كمال قصته على فترات متقطعة، ما ساعدني على رسم صورة ما اختبره في ذهني كي أدونه هنا، هذا التقطّع في سرد القصة، أعطاه وقتاً ليتذكر الأحداث التي مر بها، إلى حد أنه كان يرسل لي أحياناً تسجيلات صوتيّة أثناء عمله في أحد المعامل كلما تذكّر تفصيلاً كان قد نسيه. أخبرني كمال أن من ينشر قصته له “من الأجر كأجر شخص حج إلى بيت الله الحرام، فليس كل من في السجون السورية إرهابيين ومعارضين”.
بدأت قصة كمال، المنحدر من إحدى القرى التركمانية الحدودية مع تركيا في شمال حلب، عندما تطوع في الأمن عام 2009، وهو يحمل شهادة التعليم الأساسي (الصف التاسع).
ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، وبحسب رأيه السياسي ونظرته إلى الأحداث الدائرة ولأسباب عائلية، لم ينشق، ويرى “أن النظام السوري يمتلك حق الدفاع عن نفسه في وجه الإرهاب والثورة التي لم تتذكر أن تخرج إلا عندما باتت سوريا دولة قوية في المنطقة”.
أكتب قصة كمال هنا، مشيراً وموضحاً معلومات يذكرها، وملاحظات تحيط بشهادته، التي أحياناً لا يمكن مقاطعتها مع مصادر أخرى للتيقن من حقيقتها.
يعتبر كمال نفسه ناجياً ومولوداً من جديد، “فأي مكان خارج السجن هو جنة، ولو أكلت التراب”.
كمال الذي لم يقتل أحداً
تنقل كمال في السنوات التي سبقت اعتقاله، بين طرطوس ودمشق والسويداء، يقول “لم أضع دماً في رقبتي (لم يقتل أحداً) بحكم وظيفتي التي كانت في مناطق بعيدة من الاشتباكات والمناطق التي خرجت عن سيطرة النظام”.
يقول كمال: “عام 2018 ومع ” تحرير” دمشق بالكامل من الإرهاب، انتقلت للعمل في فرع أمن الدولة في دمشق، وبدأت أتحرك بين الأفرع بحسب المهمات الموكلة إليّ”، حينها كان كمال برتبة مساعد، وتم فرز سيارة له كي يتنقل بين الأفرع.
اعتُقل كمال أواخر عام 2018، بعدما قدم شكوى لقيادة الفرع الذي يعمل فيه حول الحادثة التي شهدها، وهنا نص الحادثة كما رواه:
“كان الإيرانيون يأخذون سجناء من الفرع لدينا بحجة إجراء بعض التحقيقات معهم ولاستكمال بعض القضايا الأمنية، هذا ما كنت أظنه. فتلك الوجوه ذات الذقون القصيرة والتي تحرك شفاهها أثناء الحديث معنا وحثنا على التقرب من الله، والتي تُكنى بكلمة حاج، أبعد ما تكون من الظلم. في سري، كنت أرى أن وجود بعض المساجين المظلومين لدى الإيرانيين أفضل لهم من الفرع الذي كنت أخدم فيه”.
يواصل كمال كلامه بشكل غير منتظم ويسرد قصصاً جانبية غير مترابطة. على سبيل المثال، عند ذكره كلمة حاج، يتحدث عن أمنيته بأن يحج ،ويذكر اسم حاج يعرفه، يستطرد على هذا المنوال في سرد قصته حتى يعود إلى قصة اعتقاله.
لا يحدد كمال من هم بدقة هؤلاء “الإيرانيين”، هل هم عسكر؟ عسكر بثياب مدنيّة؟ أطباء؟ لكن الواضح أنهم يتحدثون العربية، لكن لم يشر كمال إلى لهجتهم وأسلوب كلامهم.
يتابع كمال: “ذات يوم، كنت في مهمة إيصال بريد إلى فرع الجوية (فرع المخابرات الجوية السورية في دمشق)، كانت فترة الانتظار طويلة، وكان عليّ أن أعود ببريد آخر، فبدأت أتحدث مع أحد الزملاء عن الإيرانيين. وإذ بزميلي يقاطع كلامي بسؤال: هل يأخذون من عندكم أيضاً فئران تجارب؟ قلت له: يأخذون سجناء. قال لي: نعم، يأخذون من عندنا أيضاً بين الفترة والأخرى عدداً من المساجين الأصحاء بدنياً”.
يعلق كمال أنه لم يكن يلاحظ أو يميز بين المعتقلين الذي يؤخذون، ويواصل الحوار الذي دار مع زميله حول أخذ الإيرانيين عدداً من المساجين إلى جهات مجهولة، ليكتشف أن زميله يعرف إلى أين يُساقون.
“ذات مرة ساعدتهم كما طلب مني الضابط المسؤول عني، وأخذنا عدداً من الإرهابيين إلى عدد من المنازل بالقرب من مقام السيدة زينب. بيت عربي كبير له قبو وطابقان أرضي وعلوي، يوجد هناك مختبر وعدد قليل من السوريين. هو مختبر لصناعة المخدرات. هؤلاء الفئران ( يقصد المساجين) تُجرى عليهم تجارب أثناء صناعة الخلطة الخاصة بالمخدرات، حظهم قوي يتعاطون مخدرات بالمجان”.
هذه المحادثة دفعت كمال، عندما عاد إلى فرع أمن الدولة، الى المطالبة برؤية مدير الفرع لأمر عاجل وضروري، أخبر كمال مدير الفرع بمصير المساجين الذين تجب محاكمتهم لدى “الدولة السورية”، وأضاف أنه من الواجب عدم تسليمهم للإيرانيين، وإعادة من أُخذ من الفرع. يصف كمال رد مدير الفرع بالبارد ويردد إجابته: “سنقوم بالإجراءات اللازمة، عد إلى عملك”.
لا نعلم بدقة ما هي “المخدرات” التي يتم اختبارها على من يُساقون من أفرع الأمن، كبتاغون؟ تفيد التقارير بأن الكبتاغون يصنَّع في مختبرات مرتجلة في سوريا، ولا تحيط بها هالة السريّة هذه، ربما الحديث عن “الكريستال ميث”، الذي تحتاج صناعته إلى كيميائيين لتركيبه بعناية، واختبار درجة نقاوته، الشأن المخبريّ حكماً، وهذا ما يدفع الى المزيد من التساؤل حول طبيعة “المخدر” الذي يُختبر على البشر.
من “أمن الدولة ” إلى “الـ601”
اعتُقل كمال أثناء حديثه مع مدير الفرع، الحدث الذي يصفه كمال بسخرية مصطنعة، قائلاً: “ربما كانت هذه هي الإجراءات اللازمة”.
أمضى كمال 20 يوماً في السجن الانفرادي، عذّبه زملاؤه في الفرع الذي كان يعمل فيه، والذي من المفترض ألا يرى المعتقل فيه نور الشمس، كما ردد زملاؤه أثناء تعذيبه، تعرض كمال لاحقاً لأزمة قلبية، دفعت إدارة الفرع إلى إسعافه إلى سجن الـ 601 في المزة.
يقول كمال بحسرة وخذلان: “في عنبر المرضى داخل سجن الـ 601، لم يكن لي اسم ولا تهمة. أنا رقم يجب أن أحفظه في حال ذُكر أو نودي به. علي أن أقول (حاضر) وأقف ورأسي باتجاه الحائط، ربطوا قدمي بالسلاسل وسجنوني مع (إرهابيين) بعدما أمضيت عمري وشبابي كله في خدمة الدولة”.
منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، حُولت مستشفيات سورية إلى سجون وأفرع أمنية، يديرها ضباط أفرع أمنية أخرى. من ضمن هذه المستشفيات، مستشفى المزة أو مستشفى الـ 601، والذي لا يبعد كثيراً من القصر الرئاسي في سوريا، ويتم فيه تعذيب المعتقلين ممن تتطلب نقلهم لأسباب صحية من سجون الأفرع الأمنية إلى المستشفيات. يتم إعطاء السجين / المريض رقماً داخل المستشفى سيئ الصيت حتى لا يتم الكشف عن اسمه الحقيقي ومعرفة ذويه بمكان اعتقاله.
طال اعتقال/ علاج كمال في مستشفى الـ 601 ، أمضى ثلاثة أشهر قبل نقله إلى سجن عدرا المركزي. خلال الأشهر الثلاثة، تعرف كمال على عدد من المساجين/ المرضى القادمين من فروع مختلفة، منهم مقاتلون وضباط مع ” الدولة السورية”، ومنهم ” إرهابيون”، ومنهم من كانوا يخضعون للتجارب المخبريّة من جانب الإيرانيين. يصف كمال بعض المساجين الذين خضعوا لهذه التجارب واختبروا تأثير المواد المخدّرة، قائلاً ” كانوا لا يستطيعون النوم، وجوههم صفراء بشكل مخيف”.
لا يكفي وصف كمال أعراض الذين خضعوا للاختبارات لتحديد نوع المخدر بدقة، فعدم النوم يمكن أن ينطبق على طيف واسع من المواد المخدرة، واصفرار الوجه يمكن أيضاً أن يُعزى إلى عوامل كثيرة.
يقول كمال: “هناك رجل اسمه محمد الكياري من حي الصاخور في مدينة حلب. اعتُقل مع اثنين من أولاده على حاجز في ريف دمشق أثناء عملهم بنقل البضائع بين المحافظات السورية. اعتقله الإيرانيون وسجنوه في شقة، وكانوا بين الفترة والأخرى يطلبون منه تناول بعض العقاقير هو والسبعة الذين كانوا معه في الغرفة ذاتها. هذه الحكاية سمعها كمال من الكياري، إذ تشكلت بينهما ما يشبه الصداقة بحكم أنهما ينحدران من مدينة واحدة، وحسب كمال، اتفقنا في حال خروج أحدهما من السجن قبل الآخر، أن ينقل أخبار من بقي في السجن إلى أهله في الصاخور.
مات محمد الكياري بعد أيام عدة من وصوله إلى مستشفى الـ 601 من الشقة التي كان مسجوناً فيها في مدينة دمشق، أمضى أياماً عدة لم ينم فيها، كان يهلوس، ولم يمت “موت ربه” ( موت طبيعي) بحسب كمال، بل حقنوا جسمه بإبرة، لم يكمل بعدها لفظ كلمة الله أكبر حتى سقط على الأرض ميتاً.
شهد كمال حالات ممن ماتوا بالأعراض والطريقة ذاتها التي مات بها محمد الكياري. لكن لم تتسنّ له معرفة أسمائهم. والبحث في المصادر والتقارير غير مفيد، إذ لا توجد أي إحصائية رسمية تسلط الضوء أو ترصد عدد الضحايا الذين ماتوا نتيجة التجارب المخبرية التي أجريت عليهم من النظام السوري والإيرانيين في سوريا، ناهيك بندرة الشهادات عن هذه الممارسات.
نُقل كمال من مستشفى 601 إلى سجن عدرا المركزي في العاصمة السورية دمشق، وأمضى خمس سنوات في السجن من دون تهمة محددة، ليتم إخلاء سبيله في الشهر العاشر من عام 2022، وبعد شهر من خروجه من السجن استطاع الدخول إلى الأراضي التركية بطريقة غير شرعية.
من بين أسماء الأشخاص الإيرانيين الذين كانوا يأخذون عدداً من المساجين في سياراتهم من فرع أمن الدولة إلى الشقق/المختبرات، ذكر كمال اسم الحاج جواد والحاج كرار والحاج علي. قد تكون أسماء وهمية لهؤلاء الضباط الذين يرتدون الزي المدني أثناء أخذ المعتقلين كما يقول كمال، الذي يؤكد وجود ضابط سوري معهم برتبة مقدم يرافق هؤلاء “المدنيين”، واسمه فراس جزعة.
اللافت، أن اسم فراس جزعة يذكر علناً بوصفه ضابطاً في شعبة المخابرات العسكريّة، وقائد قوات درع القلمون، المرتبطة بالفرقة الثالثة والحرس الجمهوريّ، ويشاع أنه عُزل عام 2018 واعتقل، من دون أي أخبار أخرى عنه.
خليفة الخضر – درج
اترك تعليقاً