من لم يعش المأساة السورية، لن يدرك الرعب الذي ينتظر السوريين في وطنهم، تجربة العيش في ظل نظام الأسد أصعب وأوسع وأكثر قسوة من أن ينقلها الإعلام أو الضحايا الذين نجوا.
منذ سنوات، زرتُ صديقتي اللبنانية في بلدتها القريبة من الحدود السورية، استضافتني لأيام، اختبرت فيها بلدة هادئة، تبدو بعيدة عن الخوف الذي عشته تحت حكم النظام السوريّ، أو هذا ما كنت أظنه، إذ لم يخطر في بالي أن تحضر إحدى أدوات نظام الأسد في بلدة لبنانية صغيرة.
كنّا نتمشى أنا وصديقتي في أحد شوارع البلدة حين أشارت لي بيدها قائلة: “أتعلمين أن النظام السوري كان يستخدم هذه المدرسة كمعتقل؟”. هكذا إذاً يحضر نظام الأسد ويتغلغل في حياة اللبنانيين كما السوريين. كانت صديقتي طفلة حينها، وكان والدها يخشى عليها وعلى أختها من عناصر النظام السوري المنتشرين في البلدة، لذلك كان يمنعهما من الخروج ليلاً.
تتكرر القصص من هذا النوع في المجتمع اللبناني، صديقة أخرى من البقاع، أُجبرت قريبتها على الزواج من ضابط سوري، في زمن الوصاية السورية، لأن والدها كان يدرك أن الرفض، يعني أن يخطفها الضابط ويتزوجها بالقوّة.
تلك القصص يتجاهلها الكثير من المسؤولين في لبنان الذين “يطلبون” من السوريين العودة إلى بلادهم رغم معرفتهم بظلم نظام الأسد؟ فلماذا تتجاهل السلطة اللبنانية فظائع نظام الأسد في لبنان، التي طاولت شعبين لم يختبرا تحت حكم هذا النظام سوى الخوف والظلم؟
أذكر شعور الرعب الذي يعنيه الترحيل من لبنان، قبل سنوات كنتُ سورية عالقة في لبنان بانتظار الرحيل إلى بلد أوروبي، أقيم بطريقة غير شرعية، لا لأني اخترتُ ذلك، بل لأن “الجهات المختصة” لم تجدد إقامتي، رغم استيفائي جميع الشروط. استعيد تلك الأيام المرعبة مع انتشار موجة التحريض الجنونية، حاولت في البداية تخطّي الأمر، لكن لا يمكن تخطي مَن يتجاهلون الظلم ويدفعون بالضحايا إلى الموت.
ترددتُ في الكتابة، لم أرد تصديق الخوف مرة أخرى، أردت أن يكون كل شيء على ما يرام، دون قلق أو رعب، على من أحب وعلى أصدقائي في ذلك البلد الصغير والطيب، الذي مرّ عليه آلاف السوريين، عبروا مطاره ونجوا.
كان لبنان محطّ السوريين نحو نجاة محتملة، لم أرد التفكير باحتمال عودتنا إلى نظام الأسد، لذلك أدركُ شعور الخوف، كلما سمعت عن مداهمة جديدة وكلما علا خطابٌ عنصريّ ضد أناس لا حول لهم ولا قوة، ينتظرون مصيرهم ويسألون بعضهم: “يعني رح يرحلونا؟”.
من لم يعش المأساة السورية، لن يدرك الرعب الذي ينتظر السوريين في وطنهم، تجربة العيش في ظل نظام الأسد أصعب وأوسع وأكثر قسوة من أن ينقلها الإعلام أو الضحايا الذين نجوا. لذلك من المستغرب أن يكرس المسؤولون اللبنانيون خطاب العنصرية بعدما اختبر بلدهم ويلات نظام الأسد لسنوات، وأقصد هنا الحواجز، والنهب، والتخويف، وسلطة اللاقانون، والأهمّ رجال الأمن.
كان لبنان محطّ السوريين نحو نجاة محتملة، لم أرد التفكير باحتمال عودتنا إلى نظام الأسد، لذلك أدركُ شعور الخوف، كلما سمعت عن مداهمة جديدة
المفارقة أن الشعبين اللبناني والسوري اختبرا ديكتاتورية نظام الأسد، ومثلما شعر اللبنانيون يوماً بالخوف من هذا النظام، وكانوا محظوظين بخروجه من أرضهم، نشعر نحن السوريين أيضاً بالخوف والعجز، لذلك هربنا، لم نُرد أن نترك بيوتنا وحاراتنا وأصدقاءنا وأراضينا وأشجارنا، لكن من حق الواحد منّا أن ينجو بحياته.
يحنّ كل سوري ترك بلاده إلى “أرضه”، يحن إلى كرم الزيتون الذي يملكه في إدلب، ودالية العنب في السويداء، والكرز في قرى جبل الشيخ تغوي القسوة لتصير أكثر رقة. هذا الحنين معلّق، رغبة العودة لا تتلاشى، لكن ببساطة، لا نستطيع أن “نرجع”، لا لصعوبة القرار، بل لأن “القاتل” ينتظرنا، ويصادر ما نملكه.
يعيش اللبناني أزمة اقتصادية غير مسبوقة، لا يمكن تجميل الواقع، يقع لبنان تحت وطأة أزمات كبيرة، لكن السؤال الجدّي: هل السوري هو سبب هذه الأزمة حقاً؟.
تمتلك السلطة اللبنانية ذاكرة السمك فيما يخص اللاجئين السوريين، إذ تتناسى الحقائق البسيطة، فالسوريون ليسوا السبب المباشر للأزمة اللبنانية، هم ببساطة “كبش محرقة” للسلطة الفاسدة، وحين اختار سياسيو لبنان استقبال اللاجئين، كانوا يدركون تماماً تبعات الخيار الذي اتخذوه، سياسياً واقتصادياً، كان خيارهم منطقياً ،حتى قرروا العكس.
إن كان قرار استقبال اللاجئين اتُخِذ دون استراتيجة أو تفكير بأبعاده، فهناك مشكلة إذاً في أهلية وجدارة هذه الحكومة، وفي أخطاء كارثية ترتكبها عن عمد، وتهدد حياة كلّ اللبنانيين، كالودائع العالقة في المصارف مثلاً! . بدل التوقف عن بث “خطاب الكراهية”،الأجدر وضع خطط استراتيجية لا تنتهك حقوق اللاجئين، استراتيجية تقوم على ضمان حمايتهم من نظام الأسد أولاً، وتأمين البنية التحتية والمساعدات الكافية، او التفكير قليلاً بقضية اللجوء السوري، وحقيقة “العودة الطوعيّة”، التي لا يمكن وصفها سوى برمي الناس إلى حتوفهم.
الاستهانة بمخاوفنا كسوريين تتضمن ادعاء حقائق تبدو للوهلة الأولى منطقية، كمن يدخلون إلى سوريا في فترة الأعياد، لا نعترض على هذا الأمر، بالطبع هناك موالون لنظام الأسد، ليس لديهم أي مشاكل أمنية مع النظام، وهناك طلاب سوريون يدرسون في لبنان. لكن ألا يجب التعامل مع هؤلاء والتأكد من وضعهم، ومن أن عودتهم آمنة، وتحديد أعدادهم بالأرقام، وتوضيح إن كانوا لاجئين أصلاً؟ لماذا تُعمم الحالة على كل السوريين، وبأنهم كلّهم سبب المشكلة! .
خطاب “من انتخب الأسد في لبنان يجب أن يعود” يحوي سذاجة ما، أو على الأقل، عدم دراية بـ”سوريا الأسد”، إذ فعلاً يُفاجئ للوهلة الأولى من يشاهد صوراً وتقاريراً عمن يعيش لاجئاً في لبنان ثم يذهب لينتخب الأسدّ!.
يمكن تفسير ما سبق بكلمة واحدة ” الخوف”، فشكوك اللبنانيين بعدم وجود معارضة وأن انتخاب بشار يعني أن الوضع آمن وطبيعي، وهي شكوك مشروعة، لكن المحزن في الأمر ألّا أحد يدرك وكيف كان النظام يسجل قوائم المنتخبين ويطلب منهم الانتخاب.
كان موظفو شعبة “حزب البعث” يتصلون بالعائلات ويطلبون من أفرادها إرسال البطاقات الشخصية لانتخاب الأسد، لذلك يخشى اللاجئون رفض المشاركة في الانتخاب، فمن المتوقع أن يحاسبوا على خيارهم فيما لو عادوا إلى سوريا. ما زال نظام الأسد في أفكار السوريين، يلتهم حريتهم حتى بعدما تركوا بلادهم، المفارقة أن اللاجئ يخشى نظام الأسد وهو في بلد آخر، فكيف يمكن أن يتصرف بشكل” منطقي “وأن يرفض التصويت لبشار الأسد!.
الحل لا يتمثل ببقاء اللاجئ السوري في لبنان، على العكس نتمنى كسوريين أن نعود، وأن يساعدنا المجتمع الدولي على العودة الآمنة إلى بلادنا، لكننا نخشى ما تفعله السلطة اللبنانية، التي تتجاهل انتهاكات نظام الأسد، وتستخدم اللاجئين كورقة سياسيّة، تحاول عبرها النجاة والتستر على فسادها وأخطائها، بحق اللبنانيين أولاً ثم السوريين.
كارمن كريم – درج
اترك تعليقاً