أحـمد شـعبان
في مثل هذه الأيام من عام 2017، أعلنت “قوات سوريا الديمقراطية” سيطرتها بشكلٍ كامل على الرقّة بدعمٍ من التحالف الدولي، بعد انسحاب تنظيم “الدولة” الذي كان اتخذ من المدينة عاصمة ثانية له بين عامي 2014 و2017.
اليوم وبعد مرور عامين على هيمنة سلطة الأمر الواقع الجديدة، تشهد المدينة بعض عمليات إعادة تأهيل البنى التحتية “لدعم الاستقرار” بإشراف وتمويل من التحالف الدولي.
إلّا أن عملية التأهيل المموّلة من التحالف الدولي، يقوم عليها أشخاص مقرّبون من “الإدارة الذاتية” (الذراع المدني لقوات سوريا الديمقراطية).
يكشف هذا التحقيق، كيف… وأين… هُدرت أموال دول التحالف الدولي المخصصة لإعادة تأهيل بنى تحتية لدعم الاستقرار في محافظة الرقة، في ظل غياب أية آليات لمراقبة ومتابعة ما ينفذ من مشاريع.
في الواقع الجهة المنفذة لمعظم هذه المشاريع هي”شركة الشمال”. وشركة الشمال هذه هي عنوان فضفاض وواجهة للاستحواذ واحتكار العشرات من الأنشطة المالية والإنشائية والخدمية، ظهرت الشركة بشكلٍ مفاجئ في نهاية عام 2017 باسم شركة “الإنشاءات العامة” بدايةً، ثم غيرت الاسم إلى “شركة الشمال للإنشاءات”. وبدأت سيرورة استيلاء وتحكم بأهم المفاصل الاقتصادية، من إنشاء معامل صغيرة ومتوسطة وورش صناعيّة، مروراً بالسيطرة على سوق مواد البناء، الحديد والإسمنت، وصولاً إلى التعهدات الإنشائية الكبرى.
ظهر اسم “الهافال صابر” (لقب حركي)، المسؤول المالي لـ “حزب الاتحاد الديمقراطي” في الرقة، كمدير فعلي للشركة، قبل أن يتمّ نقله إلى محافظة ديرالزور، على خلفية قضية فساد، حسب ما أشيع في أروقة مجلس الرقة المدني وقتها. المهندس عبدالله الجعبري المدير المسؤول عن مشاريع الطرق في شركة الشمال، أكد لنا بعد خروجه من السجن حقيقة نقل “الهافال صابر”، لكنه أنكر وجود أي صورة من صور الفساد في المشاريع التي نفذتها شركة الشمال، ولدى سؤاله عن مالك الشركة التي تنفذ مشاريع وتعهدات ضخمة مقدمة من الولايات المتحدة والتحالف، رفض الإجابة عن عائدية الشركة، وأجاب بسؤال استنكاري: هل يعقل أنّ الولايات المتحدة لا تعلم من ينفذ مشاريعها؟! وفي سؤالنا له حول منصبه كمدير للشركة، وكيف لمدير لا يعلم من هو مالك الشركة التي يعمل بها؟!، أجاب أنا لست المدير، السيد عماد محمد هو مدير الشركة، أنا كنت مدير مشاريع الطرق، والآن أنا خارج الشركة. جاءت توضيحات السيد الجعبري، خلال محادثتين منفصلتين، عبر وسائل التواصل الاجتماعي مطلع تشرين الثاني 2019.
والسيد الجعبري، مهندس من محافظة إدلب كان قد وفدَ إلى الرقة صحبة “جيش الثوار” المنضوي تحت مظلة قسد، نهاية عام 2017، وسرعان ماتسلم واجهة العمل التنفيذي للشركة، عندما كان “الهافال صابر” هو المدير الفعلي للشركة، وبقي في منصبه هذا حتى دخوله السجن، معاقباً بتهمة رفض توضيحها بقوله “أنا غلطت وبستحق السجن والعقاب… أنا غلطت والحكومة عاقبتني”.
بعد نقل “الهافال صابر” حل محله “الهافال خليل خلفو” والمعروف باسم أبو هادي أحد كوادر حزب الاتحاد الديمقراطي، و رئيس مجلس تل أبيض العسكري أصبح مدير الظل التالي للشركة.
تمكّن” موقع تلفزيون سوريا” من حصر المشاريع التي سيطرت عليها “شركة الشمال” منذ ظهورها، وذلك بعد مقابلات مع عدد من أعضاء لجنة الإدارة المحلية والبلديات، وموظفين من المنظمات المحلية، ونشطاء مستقلون.
يقول أحد موظفي مجلس الرقة المدني، اشترط عدم ذكر اسمه، لـ “تلفزيون سوريا”: “تستخدم الشركة آليات ومعدات مستعملة سابقًا وآليات ذات استخدام جديد، يعود جزء من الآليات للمنظمات التي عملت سابقاً ضمن البرامج الأمريكية العاملة في مدينة القامشلي، وبعد الانتهاء من تنفيذ المشاريع، سلّمت الآليات للمجالس والبلديات العاملة في مدن الحسكة والقامشلي ورأس العين”، موضحًا أنّ رأس مال الشركة من الأصول توسّع بهذه الطريقة.
13 مشروعا ومناقصات مشبوهة
أحصى “تلفزيون سوريا” ” في هذا التحقيق، ثلاثة عشر مناقصة ضخمة حصلت عليها “شركة الشمال”، وفشلت بتنفيذ البعض منها، وذلك بالاعتماد على مصادر مفتوحة من الموقع الرسمي لـ “قوات سوريا الديمقراطية” وتصريحات المسؤولين في “قسد” التي نُشرت على وسائل إعلام مقرّبة منها، بالإضافة إلى مقابلات مع موظفين ومهندسين شهدوا على هذه المناقصات وآلية تنفيذها.
المشروع الأول: حصلت “شركة الشمال” على أوّل مناقصاتها، لتعبيد جزء من الأوتستراد الدولي أو ما يُعرف بـ “طريقM4 ” الجزء الذي حصلت عليه الشركة يمتد من منطقة “العالية” ( نقطة الحدود الإدارية لمحافظة الحسكة غرباً مع محافظة الرقة) إلى ناحية “الجلبية” (النقطة الحدودية لمحافظة الرقة غرباً مع محافظة حلب) بطول حوالي 180 كم، انتهت الشركة من تعبيد الطريق في بداية شتاء 2018، ولكن بدأت تظهر مساوئ التنفيذ والأشغال، بوجود حفر ومطبات تعيق سير المركبات. كما صرح لـ”تلفزيون سوريا” أحد موظفي شركة الشمال السابقين (اشترط عدم ذكر اسمه).
وأضاف المصدر: “عادت “الإدارة الذاتية” وطرحت مناقصة جديدة بعد عدة أشهر!، من مخصصات محافظة الرقة، لترسي المناقصة، على شركة “حاكم العبدالله الأحمد” وهي شركة خاصة قديمة، يقع مقرها في مدينة عين عيسى، تعمل في مجال تعهدات الطرق منذ زمن بعيد، وتمتلك خبرة كافية، الأمر الذي مكّنها أن تقوم بإعادة العمل في هذا الطريق الهام والاستراتيجي، لتبدأ شركة العبدالله بأعمال إعادة تعبيد الطريق، في صيف “2019”.
يقول الخبير الاقتصادي يونس الكريم لـ “تلفزيون سوريا”: “هذا الطريق يعد من أهم الطرق الدولية في سوريا، ومن البديهي أن ينفذ بمقاييس ومواصفات هندسية عالية” وعن أهمية الطريق يشرح الكريم حول ذلك بقوله “أهمية هذا الطريق هي سياسية بالدرجة الأولى؛ فهو نقطة صراع أمريكية تركية من جهة، وأمريكية إيرانية روسية من جهة أخرى، وللطريق أهمية عسكرية لدول التحالف فهو يربط بين قاعدة عسكرية للتحالف في رأس العين مع قاعدة عسكرية أخرى للتحالف قرب ناحية “الجلبية”.
المشروع الثاني: في بداية عام 2018 بدأت الشركة عملها عندما كان اسمها “الإنشاءات العامة” وعملت على إنشاء معمل لصناعة أنابيب المدافئ، ومعمل لصناعة الكراسي، ومعمل آخر لصناعة الألمنيوم وصهره، ومعمل لإنتاج الطوب، بالإضافة لعدة ورش منها؛ ورشة للموبيليا ورشة لف المحركات، ورشة حدادة لصناعة حاويات القمامة التي تورّد للمجالس والبلديات، بالإضافة لصناعة الأبواب والنوافذ الخاصة بالإدارات والمباني الحكومية، ورشة خراطة وتسوية، ورشة تنجيد عربي، ورشة ألمنيوم، بالإضافة لمجبل إسفلت وكسارة صخر، وعدد من الآليات بدأت بأعمال مد الإسفلت وتعبيد للطرق في مدينة الطبقة، وذلك وفق مانشرته صحيفة روناهي “الكرديّة” في العدد 552 الصادر بتاريخ 14\8\2018.
المشروع الثالث: بدأت الشركة في تموز 2018 بالعمل على تأسيس مشروع أكبر مجمع تجاري في المنطقة الشرقية أطلق عليه “الطبقة سنتر” والمقام على أرض عامة (أملاك دولة) كانت سابقاً مديرية النقل لرحبة صيانة آليات الشركة العامة لاستصلاح الأراضي، كما أفاد ل”الوسيلة الإعلامية” موظف سابق في الشركة المذكورة، كانت استولت عليها شركة الشمال بعد عام 2017، ومكانها في الجهة الخلفيّة للسوق المركزي في مدينة الطبقة. ويتألف المجمّع من بنائين تتوسطهما ساحة، يضم الطابق الأول للمجمع 84 محلاً تجارياً، فيما سيخصص الطابق الثاني ل28 صالة للوكالات والمعارض التجارية، أما الطابق الثالث فسيتم تخصيصه لمطاعم ومقاهي هذا المجمّع التجاري الذي يعد الأكبر من نوعه في المنطقة الشرقية ومازال العمل جاريا فيه تمتلكه شركة الشمال ذاتها، وهي من قامت بإنشائه وذلك وفقًا لما نشرت وكالة هاوار الكردية بتاريخ 15\08\2019.
المشروع الرابع: تركّز المشروع على اختلاس الشركة “كنوزاً من الحديد والإسمنت” الناجم عن أنقاض المباني الحكومية حيث حصلت الشركة على عقود مناقصة إزالة مباني الدوائر الحكومية المتضررة أو المهدمة جراء القصف، وأعمال تفتيت الكتل الإسمنتية الكبيرة، والمدارس، أبرزها ثانوية الرشيد، التي تضم في حرمها ثلاث مدارس (ثانوية الرشيد، دار السلام، ثانوية المتفوقين)، المجمع الحكومي (أضخم بناء في محافظة الرقة حتى عام 2010)، مبنى فرع “الحزب الجديد”، وغيرها من الأبنية العامة، والمعروف بأنّ هذه الأبنية الضخمة، لا يدخل في إنشائها سوى الحديد والإسمنت.
واتهمت وسائل إعلامية في شهر آب “متعهداً” يعمل مع قسد بالاستحواذ على أكثر من 200 ألف طن من الحديد المستخرج من الأنقاض، رغم أنه مقاتل سابق في تنظيم “الدولة”، وساهم في الهجوم على مدينة العرب.
المشروع الخامس: كانت استفادة الشركة فيه من جيوب المدنيين مباشرةً حيث حصلت الشركة على مناقصة إعادة تزفيت الشوارع الرئيسية في منطقة الرميلة (مجموعة أحياء في الجهة الشرقية من مدينة الرقة).
يقول الصحفي محمد عثمان من داخل الرقة لـ “تلفزيون سوريا”: “دفع سكان منطقة رميلة مبلغ 10 آلاف ليرة سورية، ضريبة عن كل منزل، للمجلس من أجل عملية إصلاح الشوارع، وتجهيز “المطريات” والمصارف الرئيسية للحي، رغم بدء المجلس بتنفيذ المشروع، إلا أنه تم إيقافه، ودخلت وتابعت شركة الشمال بعض أعمال المشروع، وتوقفت دون إكماله، ليعود المجلس ويتابع بعض أعمال الصرف الصحي”
كما حصلت الشركة على عدّة مشريع منها: الطرق الرئيسية في مدينة الطبقة (الطريق الرئيسي لمدينة الطبقة – الشارع العريض – طريق الكورنيش الغربي – طريق الكورنيش الجنوبي) بحسب المركز الإعلامي لقوات سوريا الديمقراطية.
إضافةً إلى، طريق جسر المنصور (الجسر القديم)، أوتستراد باب بغداد – دوار البتاني “طريق الصناعة” بمسارين ذهاب إياب، شارع الساقية، إضافة لبعض الطرق الفرعية الأخرى داخل مدينة الرقة.
رداءة التنفيذ
بعد الانتهاء من تنفيذ طريق الكورنيش الغربي، يقول السيد ح .ع وهو صاحب محلات مواد غذائية على طريق مفرق الجزرة، “اشتكينا أنا وجيراني أصحاب المنازل وبعض المحلات إلى المجلس، من رداءة الطريق، ومن وجود طبَقة إسفلتية رقيقة فقط، الأمر الذي أدّى لتقشير طبقة الإسفلت المشغولة حديثاً”.
ويتابع السيد ح.ع أنّه “بعد عدة محاولات التقينا برئيسة المجلس ليلى، ووعدتنا بتشكيل لجنة كشف للطريق، وفعلاً تم تشكيل لجنة كشف برئاسة مشلب البوحبال “الرئيس المشترك لما يسمى مجلس الرقة المدني” و مهند الكعكة جي “نائب الرئاسة المشتركة للمجلس”، وبعد جولة الكشف تعهدت اللجنة لنا بعدم استلام الطريق من الشركة، وبأنها ستطلب من الشركة إعادة العمل مرة جديدة في الطريق، ولليوم ومع دخول الشتاء لم تقم الشركة بإصلاح أي شيء”.
بعد تشكيل اللجنة، تمّت الموافقة على توقيع كشف مطابقة المواصفات، دون إعادة العمل، على الأوتستراد، أو حتى القيام ببعض الإصلاحات، واغلق ملفّ الكورنيش الغربي، وعاد الطريق إلى حالته السابقة قبل شهر أيار، كما روى لنا السيد حسن.
الرأي الهندسيّ والفنّيّ في تنفيذ الطرق:
عن جودة المشاريع التي تنفّذها الشركة، قدمنا هذه المعلومات مع الصور إلى المهندس وصاحب مكتب هندسي في محافظة الرقة، يعمل في مجال الطرق والأبنية، لنستكشف رأيه، بعد إطلاعه على كل المعلومات والصور لعدة أيام، أجاب بأنّ هذه “الأعمال ليست أعمال شركات هندسية، ولاتصلح للطرق الرئيسة، والشوارع داخل المدن، وإنما أعمال تهدف إلى الكسب السريع، على حساب الجودة والمواصفات”.
وأوضح المهندس الذي رفض الكشف عن هويته خوفًا على حياته كونه يعيش في الرقة، أنّ مشاريع الأوتسترادات السريعة يجب أن تكون هناك لجنة إشراف تعمل منذ اليوم الأول، بعدها يجب قشط طبقة الإسفلت السابقة، وتسوية التربة بواسطة آلية هندسية ثقيلة هي “الكريدر”.
وبعد ذلك يتم إحضار بقايا مقالع جيدة تكون متدرجة بحجم الحصى، وترصف البقايا على عدة طبقات، وبعد رصف كل طبقة، يتم دحلها ورصها، وترش بعدها بالماء، حتى يتم الانتهاء من رصف كل الطبقات، بنفس الطريقة.
وأوضح المهندس، أنّه يتم بعدها أخذ عينات عشوائية من تلك الطبقات، وتجرى عليها تجربة بروكتر، في مختبر ميكانيك التربة، ويجب ألّا تقلّ درجة الرص في التجربة عن 95% بعدها، يتم التأكد من “المناسيب” ثم تبدأ عملية الرش ثم التعبيد، وفق ثلاث طبقات، الطبقة الواحدة، وهي إسفلت مائع،M C 0 مادة يتراوح حجمها بين 5 – 7 سم كحد أقصى، وتتراوح حجم الطبقات التي تشكل الإسفلت من 10 سم إلى 20 سم حسب نوع الطريق، فرعي أو رئيسي.
اترك تعليقاً