Views: 108 الحركات السلفية في الثورة السورية: الشبكات العابرة للحدود في مواجهة الوقائع المحلية – الرقة بوست-Raqqa Post

الحركات السلفية في الثورة السورية: الشبكات العابرة للحدود في مواجهة الوقائع المحلية

توماس بييريه

الترجمة: وحدة الترجمة في معهد العالم للدراسات
نشر هذا النص بعد أخذ موافقة كاتبه والذي قام أيضاً بمراجعة الترجمة. وبإمكان القارىء الاطلاع على النص الفرنسي للمادة على الرابط التالي: www.academia.edu
لم تكن السلفية، حين قامت ثورة آذار 2011، سوى تياراً هامشياً على الساحة الدينية السورية حيث أن شعبيتها المتنامية قد ووجهت بقمع شديد من قبل الدولة منذ حوالي خمسة عشر عاماً. ومع ذلك، فهذه العقيدة السلفية هي نفسها التي ألهمت، وبعد أقل من عامين على بدء الصراع، الفصائل الأربعة المعارضة الأكثر قوة والتي بلغ مجموع أفرادها عشرات الآلاف من المقاتلين: إننا هنا إزاء تشكيلين جهاديين عالميين ونعني بهما: “جبهة النصرة” و”الدولة الاسلامية في العراق والشام”، إضافة إلى فصيلين أكثر براغماتية وهما: “أحرار الشام” و”جيش الاسلام”[1].
إلى حدّ ما، يمكن اعتبار الصعود السريع للسلفية خلال الصراع السوري ناجم عن السمات المتأصلة لهذا المذهب حيث ينسجم فهمها الخاص للعقيدة تماما مع سياق الاستقطاب الطائفي بين السنّة والعلويين، والذي كلما أخذ الصراع بعداً سنياً- شيعياً، كلما ازدادت مشاركة أطراف إقليمية فيه. كما يعبّر صعود الفصائل السلفية أيضاً عن رغبة الانتقام لدى الأطراف الهامشية في البلد من المدن الكبرى؛ فقد شكّل سكان القرى والمدن الثانوية والضواحي الهامشية حاضنة الثورة السورية كما أنها أفرزت غالبية قيادتها الحالية.
ومع ذلك تظل السلفية المقاتلة عبارة عن ظاهرة مستوردة إلى سوريا. فبالرغم من أن الاستبداد البعثي قد حدّ كثيراً من دور التأثير الخارجي على الساحة الدينية في سوريا، إلاّ أن انهيار سيطرة الدولة على أجزاء واسعة من أراضيها قد فتح البلاد أمام الشبكات السلفية العابرة للحدود والتي تتمركز قواعدها في كلّ من العراق وشبه الجزيرة العربية. وبسبب مهاراتها التنظيمية و/ أو مواردها المالية استطاعت هذه الشبكات أن تبسط نفوذها بسرعة بين الثوار الذي كانوا يسعون وراء الدعم الخارجي.
إن هذا الدعم الخارجي قد أعطى للفصائل السلفية السورية وزناً عسكرياً غير متناسب مع الجذور الاجتماعية الأصلية لعقيدتهم السلفية. في الحقيقة، ونظراً لضعف وسوء تنظيم الساحة السلفية في مرحلة ما قبل الثورة، فإن اعتناق هذا المذهب من قبل العديد من المقاتلين الثائرين قد بدا للوهلة الأولى بأنه موقف سطحي بل وانتهازي أيضاً. ولكن هذا الوضع قد تغيّر تدريجياً مع الجهود الدعوية لهذه الفصائل.
إن انخراط شبكات سلفية عابرة للحدود في الصراعات من خلال التمويل والمقاتلين الأجانب هي ظاهرة شائعة في العالم الاسلامي منذ فترة الجهاد الأفغاني خلال الثمانينات. ولكن الأزمة السورية أنتجت تركيبة جديدة غير مسبوقة إلى حدّ كبير، وتكمن هذه التركيبة في أن المنافسة بين الشبكات السلفية (الجهادية والحركية والعلمية) قد أثّرت بعمق في بنية الثورة السورية في مجملها. لم تكن هذه المنافسة غائبة عن المشهد الافغاني ولكن تأثيرها كان هامشياً خارج المجموعات الصغيرة من المقاتلين الأجانب. أمّا ما حدث في سوريا فقد كان العكس، حيث تأسست العديد من جبهات المقاتلة الرئيسية بتحريض من شبكة سلفية معيّنة عابرة للحدود.
إن انخراط مجموعات الشبكات السلفية المختلفة الاقليمية في الصراع السوري يتناقض مع الوضع الذي كان سائداً خلال العقد السابق للربيع العربي. فخلال الثمانينات والتسعينات لم يشكّل الجهاد الافغاني والبوسني والشيشاني قضايا خلافية كبيرة لدى دول الخليج وبالتالي فقد كان هذا الجهاد محل دعم كبير من قبل تلك الدول. ولكن الوضع اختلف تماماً بعد عام 2001 نتيجة قيام الولايات المتحدة بحربها ضدّ الارهاب والعمليات الذي شنّها تنظيم القاعدة على الأراضي السعودية، حيث دفع هذا الوضعُ الجديدُ شبكات تمويل الجهاد المسلح للعمل سراً.
لم تكن المنافسات الداخلية بين الحركات السلفية، خلال سنوات الثمانينات والتسعينات، بهذه الحدّة، ذلك لأن الأمر كان يتعلق بحروب محلية كانت تشنّها تلك الحركات ضدّ أعداء من غير المسلمين المحيطين بديار الاسلام الأمر الذي كان يحدّ من النتائج المباشرة لهذه الصراعات على المجتمعات الشرق-أوسطية. ولكن الصراع السوري الحالي يقع في قلب المنطقة حيث قام في سياق موجة ثورية تهدّد مباشرة كافة الأنظمة العربية. وهكذا أدركت الشبكات السلفية بأن النتائج السياسية للحرب سوف تمتدّ حتماً إلى ما وراء الحدود السورية وبأن الجماعة السلفية التي ستنتصر في هذه الحرب سوف تكتسب ميّزة عظيمة على الصعيد الاقليمي.
 تَعرضُ هذه المقالة مختلف اصطفافات القادة المحليين، والشبكات غير الحكومية العابرة للحدود، والدول الاقليمية، في بعض الحالات، التي أفرزت التحالفات الأساسية للثوار السوريين ذووا الانتماء السلفي. حيث يقوم الجزء الأول بعرض الجبهات التي تأسست عام 2012 للترويج لطرح محدّد للسلفية: الجهادية التي تمثّلها “جبهة النصرة” والجهادية (المعتدلة) “للجبهة الاسلامية السورية” والسلفية الحركية “لجبهة تحرير سوريا الإسلامية” و(العلمية) “جبهة الاصالة والتنمية”. بينما يقوم الجزء الثاني بتحليل إعادة تشكيل هذه الجبهات في سياق صعود “الدولة الاسلامية في العراق والشام” اعتباراً من صيف 2013.

2012: الشبكات العابرة للحدود تدخل المعركة:
 لقد سعت الجهات الاقليمية والدولية الراعية للانتفاضة السورية على إنشاء هياكل للجيش السوري الحرّ عن طريق توحيد المعارضة المسلحة في وجه نظام الأسد تحت إدارة معتدلة سياسياً، وهي الجهود التي توصّلت في كانون الاول من عام 2012 إلى تشكيل المجلس العسكري الأعلى وهيئة الاركان برئاسة اللواء سليم ادريس. وفي الوقت نفسه، كانت بعض الشبكات غير الحكومية والعابرة للحدود تعمل على استمالة وضمّ فصائل من الثوار داخل “جبهات” لصالح توجّه أيديولوجي معيّن. ليست جميع هذه الجبهات سلفية لأن إحداها وهي “هيئة حماية المدنيين” والتي أنشئت في شباط من عام 2012، مرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين. ومع ذلك فإن التفوّق التنظيمي و/ أو المالي منح السلفيين بسرعة ميّزة حاسمة على الآخرين.

“جبهة النصرة”: غطاء لـ “الدولة الاسلامية في العراق”:
في سياق الحروب الأهلية التي يكون فيها اللجوء إلى السلاح هو المعيار السياسي، فقد تميّز الجهاديون عن باقي السلفيين بطموحاتهم العسكرية التي تتجاوز الحدود المكانية والزمانية للثورة السورية. هذه الطموحات التي تجسدت في التمرّد الذي قادته “الدولة الاسلامية في العراق والشام” بنفس الوقت في كل من العراق وسوريا أو التي جسّدها تمدد “جبهة النصرة” في لبنان بنهاية عام 2013.
لقد التحق الجهاديون رسميا للقتال ضدّ نظام الأسد مع تأسيس “جبهة النصرة” في كانون الثاني من عام 2012، وهذا الاسم هو اختصار لـ “جبهة النصرة لأهل الشام”. وكان يقود التنظيم أبو محمد الجولاني، وهي شخصية سورية غير معروفة، وذلك لصالح “الدولة الاسلامية في العراق” وهو أحد أفرع تنظيم القاعدة الخارجة عن سيطرتها علميا. وقد بقيت العلاقات بين “جبهة النصرة” و”الدولة الاسلامية في العراق” سرية في البداية بسبب تكتم الشخصيات الرئيسية المعنية، ولكن سرعان ما كشفت الحكومة الأمريكية عن هذه العلاقة.
لقد كانت جبهة النصرة أول فصيل ثوري يتخّذ موقفاً واضحاً ضدّ “الجيش السوري الحرّ” والذي لا يتعدّى الحالة الرمزية. وفي الوقت الذي كانت فيه معظم المجموعات المسلحة تؤكد على أنها تعمل لتحقيق ثورة ديمقراطية، كانت جبهة النصرة بالمقابل تقتدي بأصلها العراقي حيث تبنّت خطاباً اسلامياً متطرفاً، طائفياً ومعادياً للغرب مع حرصها على إخفاء هوية قادتها وقيامها بهجمات انتحارية مروّعة ضدّ أهداف حكومية تقع بمناطق حضرية مكتظّة بالسكان. وطوال أشهر عديدة كان يعتبر هذا الموقف ضاراً جداً لصورة الثورة، لدرجة أن العديد من المعارضين السوريين قد شككوا باستغلال مخابرات الأسد لهذه الجماعة.
ولكن هذه الصورة بدأت تتغير خلال صيف 2012 حين ازداد عدد مقاتلي النصرة بسرعة نظراً لتجنيد مقاتلين سوريين ومن بينهم عدد كبير من المنسحبين من باقي الفصائل الثورية. ويعود هذا النجاح أولاً إلى الروح القتالية التي أظهرتها الجماعة الجهادية حيث بدأت بتنفيذ عمليات عسكرية تقليدية ضدّ جيش النظام؛ كما يعود ثانياً إلى انضباط الجماعة في سياق اقتصاد حرب حيث شهد انحرافات اجرامية لبعض الفصائل الثورية؛ ويعود هذا النجاح ثالثاً إلى العمل الانساني والاغاثي الذي أدارته الجماعة بكل نزاهة وكفاءة. إن هذه الصفات تعود لطبيعة قيادة “النصرة” أكثر مما تعود إلى الايديولوجيا العقائدية للجبهة، حيث تمتّعت هذه القيادة بتماسك كبير بسبب التجربة القتالية الطويلة والمشتركة لأعضائها. وفي المقابل، اتسمت باقي الفصائل الثائرة بقيادات أكثر انقساماً وبالتالي أقل فعالية لكونها قد تشكّلت على عجل اعتباراً من 2011.
مقاتلون من جبهة النصرة
إن “سورنة”[2] كوادر “النصرة” قد ترافق بتطور نحو نهج أكثر براغماتية. حيث يقوم هذا النهج أولاً بالتركيز على الأهداف “القُطرية” فقط للمنظمة دون سواها. وبصرف النظر عن مصداقية هذا الموقف، فإنه يعكس مراعاةً لمشاعر الشعب السوري الذي لا يبدي حماساً كبيراً للجهاد العالمي. كما تظهر براغماتية “النصرة” أيضاً وبشكل ملموس أكثر في علاقاتها مع الفصائل الاسلامية غير الجهادية والتي أدارت معها هيئات شرعية مارست من خلالها السلطات القضائية والتنفيذية في المناطق التي تمً اجلاء النظام منها. إن هذا التطوّر – وبالرغم من إدانة “النصرة” للائتلاف الوطني السوري وهي الهيئة الرئيسية المعارضة للنظام، واعتبارها نتيجة مؤامرة أجنبية– هو الذي يفسّر الاستنكار شبه العام الذي أثاره إدراج هذه المنظمة الجهادية على اللائحة الامريكية للمنظمات الإرهابية العالمية في كانون الاول من عام 2012. كما أن هذا التطور نفسه كان أساس الانقسام الذي حصل بعد بضعة أشهر بين “النصرة” والمنظمة العراقية الأم.

جهاديون معتدلون؟ “أحرار الشام” و”الجبهة الاسلامية السورية”:
لقد تأسست “الجبهة الاسلامية السورية” في كانون الاول من عام 2012. وبخلاف “جبهة النصرة” ذات الهيكلية الطليعية المركزية والتي ليس لها من صفة “الجبهة” سوى الاسم، فإن “الجبهة الاسلامية السورية” هي عبارة عن تحالف مجموعات موجودة سابقاً ومن مختلف محافظات القطر. كما أن الهدف من اتحادها لا يخصّ التنسيق التكتيكي بل جمع التبرعات عبر ايجاد اسم يدلّ على هوية الفصائل المنضوية تحته وذلك للفت اهتمام الجهات المانحة. وتسيطر على هذه الجبهةِ حركةُ “أحرار الشام” بشكل كبير، حيث أصبحت هذا الحركة، بعد بضعة أشهر من تأسيسها في بداية عام 2012، إحدى أقوى الفصائل الثائرة في سوريا. تبدي “أحرار الشام” مظهراً غامضاً حيث تنضوي ضمن الجهادية “المعتدلة”. إن مؤسسي هذه الحركة شأنهم شأن معظم فروع الجبهة الاسلامية السورية، هم من المقاتلين الجهاديين منذ عهد طويل. وكان الكثير منهم معتقلاً بسجن صيدنايا قبل إطلاق سراحهم في الأشهر التي تلت ثورة آذار 2011. وهذا ما ينطبق خصوصاً على حالة زعيم “أحرار الشام” حسان عبود (أبو عبد الله الحموي) ونائبه في حلب محمد بهايا (أبو خالد السوري) وهو من المجاهدين القدامى المقربين من زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري. وبسبب جذورها في شبكات الجهاد العالمية، فقد كانت “احرار الشام” ولغاية صيف 2012 الفصيل الرئيسي الذي كان يستقبل أوائل المقاتلين الأجانب (حيث كانوا بمعظمهم من العرب) الذين دخلوا سوريا، وكان هذا قبل أن تفقد الحركة هذا الموقع لصالح “النصرة”.
وبالرغم مما سبق، فإن موقف “أحرار الشام” يتناقض في الحال مع موقف “النصرة”. تصرّ الحركة في المقام الأول على استقلالها التنظيمي إزاء أي تشكيل أجنبي، وهو ادّعاء على ما يبدو صحيح بسبب كونها، وبخلاف “النصرة”، غير معترف بها من قبل المواقع الالكترونية المرتبطة بالقاعدة. إضافة إلى ذلك، فإن الحركة تدين مبايعة “النصرة” للظواهري في إطار طلاقها مع “الدولة الاسلامية في العراق” في أيار من عام 2013. ثانياً، بينما كانت “النصرة” تجنّد مقاتليها بشكل فردي، فإن “أحرار الشام” التزمت منذ البداية في تعيين الكتائب الموجودة سابقاً وبشكل مباشر والتي تكون أحياناً قناعاتهم السلفية سطحية. ثالثاً، إن موقف “أحرار الشام” من باقي المعارضة هو أكثر مرونة من موقف “النصرة”. في حزيران 2012 انضمّت “أحرار الشام” إلى “جبهة ثوار سوريا” وهو تحالف لم يدم طويلاً حيث شمل مكتبها السياسي أعضاءً من المجلس الوطني السوري وهو الهيئة التي سبقت الائتلاف الوطني السوري. كما أن الحركة تتحفظ أيضاً على الحملات الخطابية التي أطلقتها “النصرة” ضدّ الائتلاف الوطني. وبالرغم من عدم انضمام “أحرار الشام” بشكل رسمي إلى الجيش السوري الحرّ، فإنها تتعاون مع المجالس العسكرية المحلية التابعة للجيش الحرّ، كما أنها تشارك في الاجتماعات رفيعة المستوى التي كان يدعو إليها سليم ادريس قائد الجيش الحرّ. إضافة إلى ذلك، قامت “أحرار الشام” بسرعة بفتح قنوات اتصال مع الدول الغربية. رابعاً، تمّ طرح البرنامج السياسي لأحرار الشام بعبارات غامضة والتي يبدو أنها تدلّ إلى الشعور بعدم ارتياح الحركة من توجهاتها العقائدية الخاصة بها. لقد أثار ميثاق “الجبهة الاسلامية السورية” انتقادات من قبل المنظّرين المتشددين، دون أن يتطرّقوا بشكل صريح إلى بعض القضايا كإنشاء الدولة الاسلامية أو التبعية القانونية لغير المسلمين، وقد أعربوا عن أسفهم لكون الوثيقة غامضة بما فيه الكفاية بحيث تثير تفسيرات متناقضة.
إن البراغماتية النسبية لأحرار الشام ناجمة مباشرة عن سياق الربيع العربي. منذ الستينات طوّر الاسلاميون المتشددون رؤية نخبوية للسياسة مستمدة من الطليعية الثورية. وهكذا فإننا نجد أنه ومن بين كوادر أحرار الشام الأكبر سناً من كان يقاتل في نهاية السبعينات ضمن “الطليعة المقاتلة” حيث استعير هذا الاسم مباشرة من معجم اليسار. وقد كان هذا النموذج نفسه نتاج ظروف تاريخية معينة، أهمها التطرّف الاسلامي إزاء أنظمة الحزب الواحد التي تصادر فكرة المشاركة الشعبية، والرواج العالمي لفكرة الطليعة المسلحة، وفيما بعد تبلور الايديولوجيا الجهادية العالمية ضمن مجموعة صغيرة من المقاتلين العرب الأفغان القدامى. ومقابل ذلك، فقد وضعت الثورات العربية عام 2011 الاسلاميين المتشددين في مواجهة الواقع والذي يعتبر بالنسبة إليهم جديد تماماً حيث يمكن فيه للشعب أن يكون طرفاً فاعلاً في عملية التغيير السياسي. وقد جمعت أحرار الشام بوضوح بين براغماتيتها واقرارها بفعالية الشعب، وتجلّى ذلك خصوصاً في دمجها بين تطرّف “النصرة” و”جهاد النخب”.
يجب أن ننظر أيضاً إلى موقف أحرار الشام على ضوء تقاربها من المحور التركي-القطري. علينا أن نتذكّر بأن الاجتماع التأسيسي للحركة قد جرى في اسطنبول كما أن قادة الحركة لم يخفوا دور قطر في تقاربهم مع الائتلاف الوطني والجيش السوري الحرّ، في أوج تأثير الدوحة على هذه الهيئات، أي في النصف الأول من عام 2013. وبالمقابل، وبناءً على هيمنة السعودية على الائتلاف الوطني، فقد وقعت “الجبهة الاسلامية السورية” وفصائل اسلامية أخرى، من بينها “النصرة”، في ايلول 2013، على البيان رقم 1 التي تنكّرت فيه لشرعية الكيان الممثل للمعارضة في الخارج.
وكان من المنطقي جداً أن ينظر الممولون الخاصون لأحرار الشام في الخليج والذين ينتمون إلى الشبكات السلفية، بإيجابية إلى الموجة الثورية التي تجتاح العالم العربي اعتباراً من 2011 ، على غرار موقف قطر وتركيا وبخلاف السعودية. وقد نظمّ الداعية الكويتي حجاج العجمي، والذي يعتبر مقرباً من حزب الأمة التابع لحكيم المطيري والمعادي للسعودية، نظّم حملة جمع تبرعات لصالح “أحرار الشام” في كل من الكويت وقطر.

جبهة تحرير سوريا الاسلامية: عودة السروريين الى المنابع
 لقد تأسست “جبهة تحرير سوريا الاسلامية” في ايلول من عام 2012 وكانت تنتمي إلى نفس الخطّ الاقليمي الذي تنتمي اليه “الجبهة الاسلامية السورية”، ولكنها تختلف عنها بعدة أوجه. أولا، ففي حين تمارس أحرار الشام على الجبهة الاسلامية السورية نفوذا مؤكداً، فإن جبهة تحرير سوريا الاسلامية هي تحالف متعدد الأقطاب يرتكز على أربع مكونات رئيسية: “صقور الشام” التي انشقت عن هيئة حماية المدنيين التابعة للإخوان المسلمين في إدلب، ولواء الاسلام بدمشق، وكتائب الفاروق بحمص، وأخيراً لواء التوحيد في حلب.
ثانياً، في حين أن قيادة الجبهة الاسلامية السورية تقع على عاتق المحاربين القدامى من الجهاديين، فإن الوجوه الهامة للجبهة الاسلامية لتحرير سوريا تعبّر عن شخصيات أكثر تنوعاً. واثنان من تلك الوجوه هما من سجناء صيدنايا القدامى ولكن أحدهما وهو أحمد أبو عيسى الشيخ قائد صقور الشام قد انتمى حقيقة إلى الحركية المسلحة. أمّا الآخر وهو زهران علوش مؤسس لواء الاسلام فقد انتسب إليها بفضل جهوده الدعوية. ومن جهة أخرى، فإذا كانت الشخصيات المذكورة آنفاً هم سلفيون أصيلون، فإن ذلك لا ينطبق على الشخصية الكاريزمية للقائد العسكري للواء التوحيد عبد القادر صالح وهو تاجر ينتمي الى الجماعة الدعوية “التبليغ”، كما لا ينطبق أيضاً على معظم كوادر كتائب الفاروق التي ينتمي إليها العديد من الضباط المنشقين كالملازم عبد الرزاق طلاس الذي يعتبر أول ضابط قد أعلن عن انشقاقه عن النظام في حزيران من عام 2011.
ويكمن الاختلاف الثالث في كون “جبهة تحرير سوريا الإسلامية ” تعتبر أكثر اعتدالاً من “الجبهة الاسلامية السورية”. حيث رفع معظم فصائل الجبهة الاولى، أثناء تأسيسها، علم الثورة على شعاراتهم الخاصة، بينما تعمدت الجبهة الثانية بتبني شعار اسلامي خالص. إن المواقف الرسمية في الأساس لهذه الفصائل حول الأقليات الدينية، بما فيها العلويون، هي أكثر اعتدالاً، حيث أنها تنسجم مع أطروحات الاخوان المسلمين حين تطالب بأسلمة القوانين ولكنها تطالب أيضاُ بنظام انتخابي تنافسي.
رابعا، إن كافة أعضاء جبهة تحرير سوريا الإسلامية يجتمعون في الأساس في المجلس العسكري الأعلى للجيش الحرّ الذي تأسس في كانون الاول من عام 2012 وتربطهم علاقات وثيقة بالمعارضة السياسية كما اتّضح ذلك بالاستقبال الحارّ الذي خصّ به لواء التوحيد، رئيس الحكومة الانتقالية غسان هيتو أثناء زيارته لحلب في آذار من عام 2013. كما هي علاقات الجبهة الاسلامية السورية بالمعارضة السياسية حيث تتوقف بشكل كبير على تقاربها مع المحور، فإن جبهة تحرير سوريا الإسلامية كانت من ضمن الموقعين على البيان رقم 1 الذي رفض سلطة الائتلاف الوطني الواقعة تحت سيطرة السعودية.
عندما يتعلق الأمر بالجهات الممولة الخاصّة، فإن أكثر المؤيدين اخلاصاً لجبهة تحرير سوريا الإسلامية يتواجدون في الشبكات المعروفة بـاسم “السروريين”، نسبة للمنظّر السلفي السوري محمد سرور زين العابدين (ولد عام 1938). من أصول درعاوية، التحق زين العابدين بالإخوان المسلمين قبل أن يختار لنفسه طريق المنفى إلى السعودية عام 1965. وبالرغم من أنه قد غادر المملكة منذ عام 1973 إلى الكويت وبريطانيا والأردن ومؤخراً إلى قطر( توفي في 11 نوفمبر من عام 2016 وذلك بعد نشر الباحث لدراسته/ المترجم)، فإنه ترك بصمة دائمة على الساحة الاسلامية السعودية. وقد عمل على التوفيق بين العقيدة السلفية والفكر السياسي للإخوان المسلمين، فشكّل مصدراً رئيسياً للإلهام بالنسبة لحركة “الصحوة”، وهي حركة اصلاحية تحدّت النظام الملكي السعودي في بدايات التسعينات.
 الشيخ محمد سرور زين العابدين
لم يُبدِ زين العابدين اهتماماً كبيراً بسياسة بلده الأصلي طوال معظم حياته العملية، مركّزاً انتقاداته على نظام البلد الذي له فيه معظم معجبيه، أي المملكة السعودية. وبعد عام 2011، قام زين العابدين بحشد شبكاته الواسعة في دول الخليج لجمع أموال لصالح فصائله الثورية، أي لصالح مكونات جبهة تحرير سوريا الاسلامية، وفقاً لتصريحه. إن تفضيل زين العابدين لهذا التحالف المختلط، على السلفيين المنتمين إلى الجبهة الاسلامية السورية يمكن تفسيره بالعلاقات السيئة التي تربطه بالحركة الجهادية وبسبب تشجيعه على ترك العمل المسلح من قبل الإسلاميين المتشددين المصريين والجزائريين اعتباراً من نهاية التسعينات.

جبهة الأصالة والتنمية: اختبار حاسم للسلفيين العلميين
إن إطلاق صفة “العلميين” على بعض الشبكات السلفية التي تدعم بشكل جدّي الكفاح المسلح، قد يبدو أمراً متناقضاً، وخاصة حين يكونوا متجمّعين حول “جمعية إحياء التراث الاسلامي” الكويتية، اذ شارك أعضاؤها في الانتخابات التشريعية منذ عام 1981. إن هؤلاء السلفيون هم مع ذلك من “العلميين” طالما أنهم يعلنون بصورة عامة الاخلاص غير المشروط للأنظمة الحاكمة وبشكل خاص النظام الملكي السعودي. ونتيجة لذلك فقد عارضوا في الأساس ثورات 2011 وأعادوا النظر فقط بموقفهم حول سوريا وذلك حين اصطفّت السعودية خلف المعارضة السورية ضد نظام الأسد. وكمثال على ذلك، قبل بضعة أسابيع فقط على اندلاع أولى المظاهرات بدرعا، كان عدنان العرعور الداعية التلفزيوني السوري والمؤيد للسعودية، يدعو السوريين بعدم الاقتداء بالثوار التونسيين والليبيين. ولكن بعد بضعة أشهر فقط، أصبح هذا الداعية مشهوراً بفضل برنامجه الأسبوعي المؤيد للثورة الذي كان بعنوان “مع سوريا حتى النصر”.
عندما بدأت الدولة السعودية بتقديم الدعم المادي للثوار السوريين منذ الأشهر الأولى من عام 2012، فضّلت الضباط المنشقين الذين يترأسون الفصائل الوطنية على القادة المدنيين للجماعات الاسلامية. ففي هذا الشأن، لم تكن الاستراتيجية السعودية في سوريا تختلف جوهرياً عن استراتيجيتها في مصر حين رأيناها تدعم الجيش في مواجهة الإخوان المسلمين. ولذلك من هذه الزاوية يجب أن نفهم الدعم الذي قدّمه العرعور لمشاريع تنظيم الفصائل بحيث تكون في كنف الضباط القدامى من جيش الأسد. وهذا الاختيار يفسّر أيضاً حالة العداء الاعلامي بين الممولين الكويتيين من أمثال حجاج العجمي وشافي العجمي الذين عاتبهم العرعور بسبب تمويلهم المباشر للفصائل الاسلامية متجاوزين في ذلك المجالس العسكرية المحلية التي يسيطر عليها ضباط عاملون سابقاً في الجيش.
كما يفسّر هذا السياق السمات المتناقضة لـ “جبهة الأصالة والتنمية” وهو تحالف سلفي مقرّب من السعودية أُسّس في تشرين الثاني من عام 2012، والذي لم يكن له وزن يذكر مقارنة بباقي التحالفات السلفية. إن العمود الفقري لجبهة الاصالة والتنمية هي “جمعية أهل الأثر” وهي جمعية إنسانية ودعوية، كذلك بعض الكتائب التي حملت نفس الاسم. وتقوم جمعية إحياء التراث الاسلامي الكويتية بتمويل هذه الجبهة والتي ينتسب إليها زعيمها خالد الحماد، وهو سوري يقيم في الكويت. إن قرب جبهة الاصالة والتنمية من الرياض يثير الكثير من الشكوك من قبل الفصائل المتطرّفة، لدرجة اضطرّ معها الحماد إلى التدخّل ببرنامج تلفزيوني للعرعور كي ينفي أن تكون منظمته ليست سوى النسخة السورية للصحوات التي  (هي مجالس عشائرية) أنشأها الجيش الأمريكي في العراق لمحاربة تنظيم “الدولة الاسلامية في العراق” خلال العقد السابق.
ونظراً لضعف الشبكات السلفية العلمية في سوريا قبل عام 2011، فقد جنّدت جبهة الاصالة والتنمية، من دون أية معايير مذهبية حقيقية، مجموعة غير متجانسة من الضباط المنشقين كالشخصية الرئيسية لكتائب الفاروق الملازم عبد الرزاق طلاس من أبناء عشائر مدينة الرستن، وبعض الجهاديين السابقين كتوفيق شهاب الدين قائد كتائب نور الدين الزنكي بحلب.
وعلى أي حال، فإن توافق هذه الجبهة مع الأجندة السعودية قد انعكس في موقفها السياسي المعتدل. وترفع هذه الجبهة بفخر العلم الوطني السوري، حيث يذكّرنا اسمها بالأحزاب الاسلامية المعتدلة في كل من تركيا والمغرب، كما أن برنامجها السياسي بعيد تماماً عن الخطاب الاسلامي بل أنه يخلو أيضاً من أية اشارة لأي طموح سياسي بعد سقوط الأسد.

صعود الدولة الإسلامية وإعادة خلط الأ
وراق:
 في نيسان من عام 2013، كشف زعيم تنظيم “الدولة الاسلامية في العراق” عن علاقات التبعية التي كانت تربط منذ البداية جبهة النصرة بتنظيمه، كما أعلن عن دمج الكيانين ضمن ما يسمى بـ”الدولة الاسلامية في العراق والشام”. رفض هذا القرار زعيم جبهة النصرة، أبو محمد الجولاني، كما رفضه أيضاً زعيم تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري. وبعد دخوله في صراع حول شرعية “أمير المؤمنين”، أبو بكر البغدادي، قام الجولاني مباشرة بمبايعة أيمن الظواهري، فأصبحت “النصرة” رسمياً “تنظيم القاعدة في بلاد الشام”.
إن إنشاء “الدولة الاسلامية في العراق والشام” وانفصالها عن مجموع الثورة السورية، ومن ثم تأسيس شبه-دولة على جانبي الحدود السورية-العراقية من قبل هذا التنظيم، كل ذلك عمل على إعادة رسم خريطة السلفيين بعمق من بين الثوار السوريين: إضافة إلى الظهور العلني لأيديولوجية خاصة بتنظيم الدولة، فإننا شهدنا تطرّف جبهة النصرة وتمدّد الفصائل الأقوى عن طريق ابتلاع شركائهم الأضعف، وذلك ضمن الفصائل من غير الجهاديين.

عندما يجتمع الحماس الجهادي بـ”جمهورية الخوف”: تنظيم الدولة الأسلامية
إن قرار إنشاء “الدولة الاسلامية في العراق والشام” كان استجابة لمجموعة من التهديدات والفرص حسب وجهة نظر التنظيم. وكان من بين هذه التهديدات التطبيع النسبي لجبهة النصرة، والتي سبقت الاشارة إليه، الأمر الذي يعتبر انتهاكاً جوهرياً للأيديولوجيا الاقصائية للقيادة العراقية. وفي نفس الوقت، إن انهيار النظام السوري في شمال وشرق البلاد، بين صيف 2012 ونهاية شتاء 2013، كان سيخلق فراغاً سياسياً حيث تتطلع “الدولة الاسلامية في العراق” لاستغلاله بشكل جيد مع علمها بأنها ليست الوحيدة على الساحة. فالجهات الفاعلة المدعومة من قبل دول الخليج و/ أو الدول الغربية كانت إذاً في قمة تألقها سواء كان الأمر يتعلق بالجبهات السلفية الأخرى أو فصائل الجيش السوري الحرّ كأمثال كتائب أحفاد الرسول، بقيادة صدام الجمل الذي يحظى بتمويل سخي من المملكة السعودية، وتظهر قوة هذه الكتائب بشكل خاص في دير الزور، نقطة عبور تنظيم “الدولة الاسلامية في العراق” إلى سوريا. وقد كان هذا التنظيم قلقاً أيضاً من قيام إدارات مدنية في المناطق المحررة من سلطة الأسد، كذلك طرح مبادرات متعارضة في جوهرها مع مشروع الدولة الخاصّ بالتنظيم. فبعد عدة أسابيع من إعلان قيام “الدولة الاسلامية في العراق والشام”، من المرجح أن تكون إحدى أعمالها خطف عبد الله الخليل رئيس المجلس المحلي لمدينة الرقة بعد تخلي النظام عنها[3].
عندما سحب البغدادي التفويض الممنوح للجولاني، فقد اكتسب بذلك ورقة لم يكن يمتلكها من قبل عام مضى: وهي ورقة المقاتلين الأجانب. فانتصارات الثوار في الشمال، اعتباراً من صيف 2012، قد فتح البلاد أمام تدفق آلاف المتطوعين الأجانب الذين انحازوا بمعظمهم إلى “الدولة الاسلامية” – أثناء فترة القطيعة مع جبهة النصرة- بسبب جاذبية نموذج النقاء العالمي الذي تمثله والذي يعتبرونه أكثر جاذبية من براغماتية النصرة المتمحورة حول سوريا.
وهكذا بدأ يظهر صراح مسلح بين تنظيم الدولة والفصائل الثورية الأخرى منذ الأشهر الاولى على وجود هذا التنظيم. نادراً ما حارب التنظيمُ النظامَ السوري، بل ركّز جهوده في السيطرة على المناطق الحدودية مع تركيا، مهدّداً بذلك خطوط إمداد الفصائل الثورية. فمنذ صيف 2013، ضاعف من أعمال الخطف والاغتيال والهجمات والعمليات العسكرية ضدّ باقي الفصائل التي تعمل في تلك المناطق. ومنذ الأيام الأولى من عام 2014 شنّت بعض الفصائل المعتدلة (جبهة ثوار سوريا، جيش المجاهدين، لواء التوحيد) هجوماً مشتركاً، طردت على إثره تنظيم الدولة من محافظات اللاذقية وادلب وأجزاء من محافظة حلب. ولكن الهجوم أخفق في المناطق الشرقية، حيث استطاع التنظيم أن يقيم منطقة واسعة تحت سيطرته تنحصر بين شرق محافظة حلب (الباب، ومنبج) ومحافظة الرقة التي تعتبر مركز ثقل التنظيم في سوريا. ويمكن تفسير إخفاق الفصائل الثائرة جزئياً بمماطلة أحرار الشام وجبهة النصرة حيث تمّ استغلال تردّدها في البداية من قبل تنظيم الدولة. كما يمكن تفسير هذا الافتقار إلى الحماس بجملة من العوامل التي تختلط فيها البراغماتية والايديولوجيا: أولاً، إن فكرة محاربة “إخوة المنهج” جنباً إلى جنب مع الفصائل “العلمانية” التي تدعمها الولايات المتحدة والمملكة السعودية (جبهة ثوار سوريا)، قلّما جذبت المقاتلين الجهاديين حيث يخشى قادتهم حدوث انشقاق في سياق يتفاقم فيه العداء لأمريكا بسبب قرار واشنطن بعدم معاقبة نظام الأسد عسكرياً على المجزرة التي ارتكبت بالأسلحة الكيماوية في آب 2013. ثانياً، لقد استفادت كل من جبهة النصرة وأحرار الشام من تمويل الجهات المانحة الخاصة والذين بذلوا كل وسيلة في التوفيق بين الفصائل الجهادية. ثالثاً، إن هذه المجموعات نفسها تمتلك مصادر دخل أخرى كآبار النفط في محافظة الحسكة التي يحاربون فيها القوميين الأكراد جنباً إلى جنب مع تنظيم الدولة حيث يخشون أن يتمّ القضاء عليهم في حال صراعهم مع هذا التنظيم.
وجب الانتظار لغاية شباط 2014 وفشل آخر محاولات الوساطة، حتى تضع أخيراً كل من النصرة وأحرار الشام كل ثقلها في المعركة. ومع ذلك، وبعد سلسلة من النجاحات العسكرية ضدّ تنظيم الدولة في محافظة دير الزور، تمّ طرد جبهة النصرة وباقي الفصائل المقاتلة تماماً من المنطقة نتيجة الهجوم المضاد الذي شنّه تنظيم البغدادي في أعقاب حربه الخاطفة في العراق بحزيران 2014. وتدشيناً لهذا العمل قام تنظيم “الدولة الاسلامية في العراق والشام” بإطلاق اسم “الدولة الاسلامية” على نفسه كما أعلن عن استعادة الخلافة. وبسيطرتها الآن على كل وادي الفرات في سوريا باستثناء بعض القواعد التابعة للنظام السوري، ركّزت “الدولة الاسلامية”، وبالرغم من قصف قوات التحالف الدولي الذي بدأ في أيلول 2014، على مشروعها في بناء الدولة مع استمرارها بمحاربة الأكراد في الشمال، وقوات النظام في الصحراء والفصائل الثورية على الأطراف الشرقية لمحور حلب – دمشق.
إن القدرة على زعزعة الاستقرار الاقليمي وقوة الجذب العالمية لـ “الدولة الاسلامية”، لم يسبق لهما مثيل، فقد حققتا في هذا الصدد قفزة نوعية وكمّية في تاريخ الحركات الجهادية. ولا يمكن تفسير مثل هذا النجاح فقط بالظروف المواتية كالانهيار المتتالي لدولتي البعث في كل من العراق وسوريا: حيث لم تكن “الدولة الاسلامية” أول مجموعة جهادية تعمل على أراضي دولة منهارة، ولكن لم تُظهر أياً من التنظيمات الجهادية السابقة لها قدرتها على “إدارة الفوضى”[4] بهذه الكفاءة المشهودة. ليس ما يميّز “الدولة الاسلامية” ضمن الحركة الجهادية هي قضية سياسية، أي العمل الموجّه نحو إقامة دولة: فبالرغم من كون تنظيم القاعدة قد اشتهر أساساً في سجل الارهاب العابر للحدود، فقد سبق لزعيمه، أيمن الظواهري، أن دعا – منذ عام 2001- إلى “خطّة ترمي لإنشاء دولة اسلامية في العالم الاسلامي” وذلك تمهيداً لـ “استعادة دولة الخلافة”[5]. وفي وقت لاحق، كان سيعيّن تنظيم القاعدة فرعه العراقي كرأس حربة لهذا المشروع قبل أن يخفف من حماسه بسب تمرّد وتطرّف هذا الفرع[6].
صحيح أن الخطاب العقائدي الصريح للدولة الاسلامية يميّزه بوضوح عن خطاب القاعدة، وقد يوحي بأنه يختلف عنه بسبب خلطه الشأن السياسي، أي إنشاء دولة خلافة جديدة، بالمفهوم العقيدي، أي فكرة يوم القيامة. فمجلة “دابق” التي صدرت في حزيران من عام 2014 أثناء إعلان الخلافة، تحمل في الحقيقة اسم بلدة من ريف حلب التي ستكون مسرحاً للمعركة قبل يوم القيامة بين المسلمين و”الروم”، وذلك وفقاً لحديث نبوي شريف[7]. مع ذلك، فلا شيء في سلوك “الدولة الاسلامية” يشير إلى أن للعقائد الأخروية تأثيراً كبيراً على مسار العمليات. فالوقائع تشير بدلاً من ذلك، إلى أن التنظيم يركّز تماماً على تحقيق غاياته السياسية الدنيوية، كما لا يستخدم عقيدة المسيح الدجال إلاّ كوسيلة دعائية لتشجيع قواته وتجنيد أتباع جدد إليه.
إن خصوصية “الدولة الاسلامية” تقع أكثر في خطابها الموجّه إلى عالم محاصر تماماً. من المؤكد أن فكرة كون المسلمين يواجهون مؤامرة كبرى تشمل القوى الغربية واسرائيل والقادة المسلمين الخاضعين لهم، هي فكرة مشتركة في الايديولوجيا الاسلامية المتشددة. كما أن الحروب الأهلية العراقية والسورية ومؤخراً اليمنية قد ألحقت إيران والشيعة بهذه المؤامرة. ومع ذلك فإن خصوصية “الدولة الاسلامية” كان في إعدادها للائحة واسعة جدا بأعدائها حيث تشمل كل من يرفض مبايعتها ولو كان من السنّة بل حتى ولو كان من الاسلاميين المتشددين: فمنذ عام 2007، كان أمير الدولة الاسلامية ينعت كافة العراقيين الذين لا يعترفون بسلطته بـ”الآثمين”. ومع إعلان الخلافة عام 2014، امتدّ هذه الوصف ليشمل الأمة الاسلامية بأكملها[8]. إذاً فقد تجلّت خصوصية أيديولوجيا “الدولة الاسلامية” في العلاقات السنّية البينية مقارنة بباقي التشكيلات الجهادية كجبهة النصرة.
إن النزعة الاقصائية “للدولة الاسلامية” تستند على حجّة دينية- سياسية، فهذه الجماعة ليست مجرّد حركة سياسية بل هي “دولة” والتي تعتبر نفسها الدولة الاسلامية الحقيقية في عصرنا الراهن. وعلى هذا الأساس فإن رفض سلطتها يعادل إهمال المسلم لواجباته الدينية. إنه ذات المنطق الذي قاد “الدولة الاسلامية”، حين اندلع الصراع بشكل مكشوف بينها وبين باقي الفصائل الثورية السورية، قادها إلى رفض فكرة التحكيم المستقل والتي اقترحتها شخصيات عديدة من الحركة الجهادية الدولية. فحسب رأي أحد أهم علماء “الدولة الاسلامية”، وهو البحريني تركي البنعلي، فإن مثل تلك الوساطة ستشكل “انتهاكاً لحقوق الحاكم المسلم ودولته”[9].
إن عداء “الدولة الاسلامية” إزاء باقي الجهات السياسية الفاعلة، بما فيها تلك التي تشاطرهم الخطوط العريضة لتوجهاتهم العقيدية والسياسية، إن هذا العداء ناجم عن تركيبة تجمع بين موقف طائفة دينية (بالمعنى السوسيولوجي الذي يشير إلى جماعة دينية تحافظ على علاقة صراعية شديدة مع بيئتها الاجتماعية) وبين موقف نظام الحزب الواحد. إن مصدر هذا التوجّه ذو شقين: أمّا الأول فيكمن في تطور الجهادية العراقية والتي وصفها أحد الكتّاب “بالنزعة التكفيرية الجديدة”[10]. إن هذا التطوّر نفسه كان نتاج التوجهات الفقهية للمؤسس أبو مصعب الزرقاوي إضافة إلى عملية انغلاق ذُهانية كانت نتيجة للمعارضة التي واجهت “الدولة الاسلامية” ضمن المجتمع السنّي العراقي قبل وبعد إنشاء “الصحوات”. أمّا الشقّ الثاني، فيكمن في وجود ضباط قدامى من جيش ومخابرات النظام البعثي العراقي ضمن الهيئات القيادية “للدولة الاسلامية”، وكان أشهرهم حجّي بكر الذي قتل في سوريا عام 2014 والذي كان يعتبر الرجل الثاني في الجماعة[11]. وبدلاً من اعتبار هؤلاء الضباط عناصر بعثية تعمل بالسرّ مستخدمة عباءة الجهاد لتحقيق غايات سياسية[12]، بدلاً من ذلك يجب أن نرى في هؤلاء الضباط عناصر فاعلة براغماتية كان انضمامهم، والذي يبدو حقيقياً، إلى أيديولوجيا المنظمة الجهادية قد تمّ تسهيله عبر تزكية عضوين أصليين: ففي ظل الاستياء الهوياتي السنّي إزاء الشيعة وإيران من جهة، وفي إطار تعريف فضفاض للعدو مع وهم الاضطهاد من جهة ثانية، سيعتبر أي تمرّد داخلي وكأنه تحالف مع القوى الخارجية المعادية[13].
إذاً، فبدلاً من الطابع العقائدي، لقد كان دور ضباط النظام القديم لدى “الدولة الاسلامية” هو في تزويد المنظمة بالمعرفة والخبرة في مجال الاستخبارات. إننا نتكلّم هنا عن أفراد مدربين على مراقبة الناس والتغلغل بينهم وتصفية العناصر غير المرغوب فيها. وما هو أكثر من ذلك، هو أن هذه الأذرع التنفيذية لـ”جمهورية الخوف” التابعة لصدام حسين[14]، كانت تتحرك ضمن المجتمعات السنّية العراقية التي تعرفها تماماً. وبعد عام 2011، فإن هؤلاء العناصر قد استعملوا خبرتهم بمنطقة وادي الفرات بسوريا وهي بيئة اجتماعية شبيهة بمنطقة غرب العراق من حيث ثقافتها وبنيتها الاجتماعية العشائرية[15].
وهكذا نجد بأن دور الضباط العراقيين القدامى في “الدولة الاسلامية” كان في ترسيخ الطابع السياسي الاقصائي للمنظمة. إضافة إلى إضفاء مظهر مميّز لزعامتها التي تتّسم بما يمكن تسميته بالانفصال بين الزعامة الرمزية والزعامة الفعلية. وقد اختلط هذان النموذجان من الزعامة في تنظيم القاعدة سواء حين كانت بقيادة بن لادن أو الظواهري من بعده. فمن جهة أخرى، وباستثناء البغدادي نفسه، فإن الشخصيات الموجودة في واجهة “الدولة الاسلامية”، هي وجوه شابة للغاية إضافة إلى كون هالتهم الاعلامية كبيرة أيضاً، الأمر الذي يثير الشكوك حول وزنهم الفعلي فيما يتعلق باتخاذ القرارات: وخاصّة حين نستحضر هنا بعض الزعامات الشابة كالشيشاني: أبو عمر الشيشاني والعراقي: أبو وهيب اللذان ولدا عام 1986، كذلك الناطق الرسمي للمنظمة، السوري أبو محمد العدناني (المولود عام 1978) بل وحتى أرفع عالم الدين لديها وهو البحريني تركي البنعلي الذي ولد عام 1984.

غياب النزعة الاعتدالية لدى جبهة النصرة:
منذ تأسيسها، كانت هوية جبهة النصرة موضوع نزاع بين دعاة عالمية القضية وأنصار “سورنة”[16] هذه الجبهة. وقد رأينا كيف أن هذا التطور الأخير قد دفع “الدولة الاسلامية في العراق والشام” إلى تذكير فرعها السوري بالالتزام بعالمية القضية، وبعد أن أخفقت في ذلك دخلت في حرب ضدّها. ومع ذلك، فبدلاً من أن تعزّز هذه القطيعةُ النزعةَ الوطنيةَ للنصرة، فقد حركّت الأمور باتجاه إعادة إضفاء الطابع العالمي للجبهة ولكن بتشجيع من “القاعدة” هذه المرة.
فبعد الطلاق الذي حصل في نيسان من عام 2013، عزّزت التطورات الأولية للوضع على الأرض من التوجّه الوطني السوري لدى النصرة، في بادئ الأمر. اذ استطاعت النصرة أن تعوّض عدداً من قواتها التي التحقت بالدولة الاسلامية وذلك عن طريق استقطاب العديد من الوحدات الثائرة من غير الجهاديين وعن طريق تعبئة الموارد النفطية التي استثمرتها في المناطق الشرقية سواء في وجه في “الدولة الاسلامية” أو بالاستفادة من انهيار بعض الفصائل الموالية للغرب بعد أزمة المجزرة الكيماوية في آب من عام 2013. ففي الرقة رأينا كيف أن وحدات من الجيش السوري الحرّ تتخلى عن ولائها لهيئة الأركان التابعة لسليم ادريس لتضع نفسها تحت حماية الجولاني. لقد تبنّى مفتي النصرة، ميسر الجبوري والمعروف باسم أبو ماريا القحطاني، التوجّه التوفيقي ودعا إليه. هذا العراقي، قائد المنظمة بدير الزور، استطاع أن يطوّر تعاوناً في منطقته مع باقي الوحدات الثورية، تجاوز فيه الكثير من الخلافات الايديولوجية. وقد بلغ هذا التوجّه ذروته في ربيع عام 2014 حيث تجلّى بمشاركة النصرة في مجلس شورى مجاهدي المنطقة الشرقية، وهو تحالف مناهض للنظام و”الدولة الاسلامية”، ضمّ كافة الجهات الفاعلة الثورية في المنطقة. كان من الممكن أن يؤدي مثل هذا التجمّع إلى قطع العلاقات بين النصرة و”القاعدة”. ففي تموز قضت الدولة الاسلامية في العراق والشام على هذا التحالف الأمر الذي وضع حداً للشائعة، ولكن القحطاني لم يكن غامضاً، فيما بعد، حول قبوله فكرة الابتعاد عن الظواهري[17].
وفي هذه الأثناء، نرى الاتجاه الاقصائي يعود إلى الواجهة. حيث لجأ القحطاني، برفقة مقاتلين من عشائر المنطقة الشرقية، إلى محافظة درعا فدعا إلى نفس الفكرة التي كان عليها من قبل، وشارك بشكل خاص في إدارة هيئة قضائية إلى جانب فصائل الجيش الحر (دار العدل)[18]. ومع ذلك، فإن هزيمته أمام تنظيم الدولة الاسلامية قد أضعفت موقعه ضمن جبهة النصرة، كما اتّضح ذلك من عملية استبداله، من منصبه كالشرعي العام للجماعة، بالأردني سامي العريدي، من جناح الصقور. إن التصلّب الايديولوجي للنصرة ناجم جزئياً إلى حاجتها إلى رصّ الصفوف لمواجهة الكوارث العسكرية التي لحقت بها في دير الزور. إضافة إلى ذلك، فقد كان أيضاً استجابة لدواعي هيكلية. ففقدانها لمواقعها في المناطق الشرقية حرم المنظمة من مواردها النفطية وزاد من اعتمادها على الجهات الممولة الخارجية الخاصة والذين بطبيعتهم يميلون لتشجيع النقاء الايديولوجي وبالتالي يدفعون إلى مزيد من التواؤم مع تنظيم القاعدة. وفضلا عن ذلك، فبعد قطيعتها مع “الدولة الاسلامية”، عملت القاعدة على تعزيز نفوذها على النصرة من خلال إرسال كوادر رفيعة المستوى إلى سوريا منهم الكويتي محسن الفاضلي الذي أكّدت القوات الأمريكية مقتله خلال هجمة شنّتها في تموز عام 2015[19]. وقد شكّلت هذه الكوادر ما أطلقت عليه واشنطن اسم تنظيم “خوراسان” (وهو إقليم تاريخي كان يمتدّ بين أفغانستان الحالية وأجزاء من شرق إيران وطاجيكستان وتركمانستان وأوزباكستان)، إشارة إلى كون أعضائه قد التحقوا بسوريا انطلاقاً من قواعد تنظيم القاعدة في المنطقة الحدودية الأفغانية- الباكستانية.
إن أبرز مظاهر التحوّل الأيديولوجي للنصرة يكمن في تسجيل متسرّب، في آب 2014، يعرض فيه الجولاني على أنصاره مشروع إقامة إمارة في سوريا، وهو ردّ واضح على عملية استعادة الخلافة مؤخراً من قبل “الدولة الاسلامية”. فإذا كانت النصرة قد حاولت طمأنة من تخاطبهم حين أشارت بأن هذا المشروع طويل الأمد، فإن سلوكها لم يبتعد عن منهجها الاقصائي. ففي الشهر الماضي انسحبت النصرة من الهيئات القضائية التي كانت تديرها بالتعاون مع باقي الفصائل، كي تؤسس “دور القضاء” ذات التوجّه الجهادي وتطبّق الحدود الاسلامية بصرامة غير معهودة[20]. واعتباراً من هذه اللحظة، وباستثناء محافظة درعا، لم تعد تشارك النصرة بمبادرات الإدارة المشتركة التي طرحتها الفصائل غير الجهادية، كما أنها لم تعد تشارك أيضاً سوى في هيئات التنسيق ذات الطبيعة التكتيكية. كما كان الحال مع قضية الأسلحة الكيماوية في العام الماضي، فإن العملية العسكرية الأمريكية في أيلول 0142 التي استهدفت “الدولة الاسلامية” وكذلك “النصرة”، بينما تجنّبت قوات الأسد، قد عزّزت موقف الجهاديين في مواجهة الفصائل الموالية للغرب، ووطّدت في نفس الوقت من مكانة الجناح الأكثر تشدّداً في النصرة على حساب التيار البراغماتي. فاعتباراً من خريف العام نفسه، قامت النصرة، متذرّعة بالسلوكيات الاجرامية المنحرفة (وهي صحيحة إلى حدّ ما) لجبهة ثوار سوريا وحركة حزم، بالقضاء على هذين الفصيلين المقرّبين من واشنطن في شمال البلاد من دون أية مقاومة.
وبالرغم مما كان يبدو في الأشهر الأولى من عام 2015 من أنّ تشدّد النصرة سيؤدي حتماً إلى استنساخ تجربة “الدولة الاسلامية”، فقد خفّفت النصرة من حماسها من جديد وذلك بتأثير من بعض الدول الفاعلة، قطر وتركيا. فخلال الأسابيع الأولى من العام، شهدت الساحة الإقليمية حدوث تطورات كبيرة. وشهد شهر شباط ما اعتبرته القوى السنّية، بقلق، ذروة النفوذ الإيراني في المنطقة وخاصة مع هجوم الحوثيين في اليمن إضافة إلى الحضور المتزايد والظاهر لعناصر الحرس الثوري الإيراني إلى جانب قوات مكافحة “الدولة الاسلامية” في العراق، وأخيراً مع التدخّل المباشر لأول مرّة للقوات الإيرانية في جنوب سوريا. وقد ترافقت هذه التطورات مع وفاة العاهل السعودي الملك عبد الله الذي شلّت معاناتهُ المرضية السياسةَ الخارجية للمملكة؛ فحلّ محله شقيقه سلمان والذي يُظهر حزماً أكبر إزاء طهران. فشكّل هذا التوجّه الجديد أساساً للتقارب مع تركيا وقطر اللتان حصلتا منذ ذلك الحين على الضوء الأخضر للرياض؛ وهكذا أصبح بإمكانهما استخدام كافة الوسائل اللازمة لإلحاق الهزيمة بقوات الأسد والقوات الحليفة في شمال البلاد. حيث رأينا كيف استطاع، خلال ربيع 2015، التحالف العسكري المعروف بـ “جيش الفتح” أن يستولي على آخر المعاقل الحضرية للنظام في محافظة ادلب (إدلب، جسر الشغور، أريحا). وحرصاً منها على الحدّ من العواقب الدبلوماسية الناجمة عن الدور الكبير للنصرة في هذه العمليات، فقد سعت قطر إلى إقناع المنظمة بقطع علاقاتها بتنظيم القاعدة. ومع ذلك فقد تمّ الإعلان عن فشل هذا المشروع- وعلى قناة الجزيرة القطرية نفسها- في مقابلة مع الجولاني الذي أكّد فيها للعالم متانة العلاقات التي تربطه مع الظواهري، محاولاً المواربة حين أكّد على أن منظمته لا تسعى للتحضير لهجمات ضدّ الغرب. [21] وقد استمرّ تهميش الجناح القُطري في المنظمة وخاصة مع فصل صالح حماة أحد مؤسسي النصرة.[22]

الاصطفاء “الطبيعي” لدى الفصائل غير الجهادية:
بتشرين الثاني من عام 2013، اندمجت كل من “الجبهة الاسلامية السورية” و”جبهة تحرير سوريا الاسلامية ” ليشكّلا معاً “الجبهة الاسلامية”. لم تفاجئ هذه المبادرة أحداً كون الفصيلين مقرّبين من التحالف الاقليمي (قطر- تركيا). ولكن ما هو أعمق من ذلك، في أنه كانت للفصيلين مصلحة واضحة في رصّ الصفوف لمواجهة التهديدات المتنامية للدولة الاسلامية في العراق والشام، هذا من جهة ومن جهة أخرى لملء الفراغ الناجم عن انهيار الجيش الحرّ. إن صورة القوة الكبيرة التي يوحيها اتحاد هذين الفصيلين الرئيسيين من الفصائل الثورية السورية تخفي بالرغم من ذلك نقاط ضعف هيكلية والتي برزت بشكل واضح خلال الصراع مع “الدولة الاسلامية في العراق والشام”.
فجبهة تحرير سوريا الاسلامية ، في تشرين الثاني، ليست هي نفسها التي حقّقت تلك الانتصارات مع مطلع العام: ذلك لأنها قد فقدت، خلال الصيف، مكوّنها الحمصي “كتائب الفاروق” التي انهارت بسبب التأثير المزدوج للصراعات الداخلية والهزائم العسكرية؛ أماّ في حلب، فإن مقتل عبد القادر صالح القائد العسكري للواء التوحيد والذي كان يحظى باحترام كبير، قد أضعف بشكل دائم تماسك اللواء؛ وفي ادلب، فقد سبّبت الهزائم التي تعرّضت لها “صقور الشام” في مواجهاتها مع قوات النظام، المزيد من الانقسامات التي أدّت إلى انشقاق “لواء داوود” القوي وانضمامه إلى “الدولة الاسلامية في العراق والشام”. إن ضعف هذه الوحدات المقاتلة يتوافق مع تقوية “أحرار الشام” و”جيش الاسلام” حيث كان اتحادهما يعود بشكل كبير إلى التكوينات الاجتماعية التي ينحدران منها: الشبكات الجهادية القديمة بالنسبة للجماعة الأولى، وحلقات التعليم الديني شبه السرّية بالنسبة للثانية. إن هذه الأصول المختلفة تماماً قد شكّلت أيضاً عائقاً كبيراً في تقارب هذين القطبين المسيطرين من “الجبهة الاسلامية” الأمر الذي أدّى سريعاً إلى إفراغ التحالف من أي مضمون.[23]
إن تقوية الفصيلين الرئيسيين للجبهة الاسلامية كان واضحاً بقدر ما كانا ينموان في ظروف صعبة للغاية. فجيش الاسلام فرض نفسه بكونه الفصيل المهيمن في منطقة الغوطة الشرقية، وهي من ضواحي دمشق الواقعة تحت حصار النظام منذ ربيع 2013. أماّ “أحرار الشام” فكانت تشهد هي الأخرى عامها الصعب في 2014: فبعد أن فقدت مواردها النفطية في المناطق الشرقية خلال حربها ضدّ “الدولة الاسلامية في العراق والشام”، ثم معاناتها من الاجراءات التي اتّخذتها السلطات الكويتية بحقّ بعض الجهات الممولة لها، وأخيراً القضاء على عدد من قياداتها بتفجير غامض في شهر ايلول أودى بحياة حوالي أربعين من كبار المسؤولين (من بينهم قائد أحرار الشام حسّان عبود) وذلك إثناء اجتماع كان منعقداً بمحافظة ادلب. ولكن ونظراً لبنية قيادتها المؤسساتية البعيدة عن الشخصنة، تمكّنت هذه الحركة من استعادت قواها بسرعة مذهلة متفادية بذلك الانقسامات بل استطاعت أن تستأنف توسّعها بعد فترة قصيرة: فقد استطاعت أحرار الشام أن تبتلع بعض شركائها القدامى في الجبهة الاسلامية السورية (لواء الحقّ في حمص والجبهة الاسلامية الكردية) ومن ثم حصولها في نيسان من عام 2015 على انضمام صقور الشام إليها، وكان هذا الفصيل أحد ركائز جبهة تحرير سوريا الاسلامية السابقة. وبفضل الدعم اللوجستي الذي حصلت عليه من قطر وتركيا، تمكّنت أحرار الشام من أن تفرض نفسها أيضاً كحجر الزاوية لجيش الفتح الذي ضاعف من انتصاراته في ادلب. ونتيجة لثقتهما بقوتهما فقد أطلق الفصيلان، جيش الاسلام وأحرار الشام، بنفس الوقت حملة اعلامية تهدف إلى طمأنة أصحاب القرار في الغرب بخصوص أيديولوجيتهما[24].
وفي هذا الخصوص، لم يعد يتبقى لنا سوى أن نشير إلى التطور الأخير لـ “جبهة الأصالة والتنمية”. لقد عانت هذه الجبهة أكثر من باقي التحالفات، من صعود “الدولة الاسلامية”، بسبب كون مركز ثقلها يقع في محافظة دير الزور والتي تسيطر عليها اليوم المنظمة الجهادية دون منازع. بل واستمر صراع كتائب الجبهة، تحت اسم “جيش أسود الشرقية”[25]، مع الوحدات المحلية للدولة الاسلامية، خلال عبورها الصحراء متّجهة نحو الغرب كي تلجأ أخيرا إلى جبال القلمون[26]. كما أن منظمة “الكفن الأبيض”، وهي منظمة سرّية صغيرة تنتمي إلى الجبهة المذكورة، قامت بتنفيذ مجموعة من الاغتيالات ضدّ كوادر “الدولة الاسلامية” في محافظة دير الزور[27]. أماّ في المنطقة الشمالية الغربية، فقد استمرّت هذه الجبهة بالعمل كجهة فاعلة محدودة التأثير ووفية لخطّها السياسي المعتدل حيث رأيناها تتحالف خصوصاً مع الوحدات غير الاسلامية التي تنتمي إلى الجيش السوري الحرّ[28].

الخاتمة:
لقد شهد عام 2012 ظهور أربعة تحالفات ثائرة والتي تمثّل على التوالي بعض الجهات السلفية الفاعلة والمميّزة: “جبهة النصرة” التي هي في الأصل ليست سوى غطاءً للجهادية المتشدّدة “للدولة الاسلامية في العراق”؛ ثم “الجبهة الاسلامية السورية” التي ولدت من التقاء الجهاديين المعتدلين من أحرار الشام مع المجموعة الأكثر ثورية للسلفية الحركية الكويتية؛ بينما حملت “جبهة تحرير سوريا الاسلامية ” آمال السلفيين الحركيين الأكثر اعتدالاً والمنتمين للتيار السروري؛ وأخيراً “جبهة الأصالة والتنمية” التي أُنشئت بتشجيع من السلفيين العلميين الموالين للسعودية.
يجب أن تتعامل المشاريع العابرة للحدود الوطنية، مع الوقائع المحلية والتي يمكن تصنيفها ضمن فئتين: الفئة الأولى تتعلق بالبنية التحتية الاجتماعية حيث تنبثق منها الوحدات الثورية التي تعتمد عليها تلك المشاريع. فمصطلح “الحتمية” هو المناسب تماماً في هذا الصدد: فبعد أربعة أعوام على اندلاع الصراع، نجد بأن المجموعات التي تتصدر المشهد (الدولة الاسلامية- جبهة النصرة- أحرار الشام) هي التي، قبل عام 2011، تشكّلت حول شبكات صاغتها تجربة طويلة ومشتركة من النضال المسلح أو في السجون. ومن ثم يأتي “جيش الاسلام” الذي ينحدر من حركة دعوية. أمّا المجموعات التي ليس لها مثل تلك الخلفيات، فقد تشكّلت وفقاً لعلاقات أسرية ومحلّية (صقور الشام- كتائب الفاروق- لواء التوحيد) ليظهروا فيما بعد أنهم أكثر عرضة لديناميات التشظّي بالرغم من كونهم قد استفادوا أيضاً من التمويل الخارجي السخي.
أمّا الفئة الثانية من الوقائع الاجتماعية التي واجهت الشبكات العابرة للحدود، تكمن في كون المنظمات التي أنشأتها في سورية كانت تميل إلى أن تتجذر في الديناميات المحلية على حساب النقاء الايديولوجي. فإذا لم تشكّل هذه النزعة مشكلة كبيرة بالنسبة للشبكات الحركية العلمية التي تتّسم بمرونة سياسية نسبية، فإنها قد سبّبت قلقاً لدعاة الجهاد العالمي. فإزاء فكرة رائجة ترى بأن النزعة المحلية هي التي ستنتصر في آخر المطاف، يجب الاعتراف أن دعاة العالمية الجهاد قد أظهروا قدرة على فرض أجندتهم، التي عفا الزمان عليها. فمن عملية “السورنة” التي شرعت فيها النصرة بنهاية عام 2012، فإنه لم يتبق منها الشيء الكثير وخاصة بعد ابتلاع “الدولة الاسلامية في العراق والشام” للعناصر الأكثر تشدّداً في العام التالي، “انضباط” البقية من قبل القيادة المركزية للقاعدة.
الهوامش:

[1] ما لم ينصّ على خلاف ذلك، فإن المعلومات الواردة في هذا المقال، مأخوذة من فقرتي الخاصة بعنوان: “السلفيون في حرب سوريا: آليات التفتيت وإعادة التشكيل”
[2] أي جعلها سورية، المترجم
[3] موقع “كلنا من أجل سوريا” 20 أيار 2013
[4] إشارة إلى عنوان كتاب ذو شعبية لدى الجهاديين “إدارة التوحّش” لأبو بكر ناجي
[5] جيل كيبل، جان بيير ميليلي: “القاعدة في النصوص”، باريس 2008
[6] كول بنزل، “من دول الورق إلى الخلافة: أيديولوجيا الدولة الاسلامية” معهد بروكينغز، 2015
[7] “لن تقوم الساعة قبل أن يهاجم الروم (دابق) فيخرج لهم جيش مسلم من المدينة يضمّ خيرا أهل الأرض يومئذ فيتصدوا لهم”
[8] كول بنزل، مصدر سابق
[9] المصدر السابق
[10] ايلي الشيش: “الأزمة المذهبية في صفوف السلفية الجهادية وظهور التكفيرية الجديدة”
[11] كيلي اورتن: “نظام صدام حسين أنتج الدولة الاسلامية”
[12] ليس هناك ما يدلّ بأن هذه الوجوه كانت بعثية عن قناعة: فالحزب الحاكم العراقي، كما هو حال نظيره السوري، قد تحوّل منذ زمن بعيد من حزب طليعي إلى أداة سيطرة ووصاية، أي منفصل تماماً عن أيديولوجيته الاصلية وخصوصاً طابعه “العلماني” الذي شكّك به صدام حسين نفسه خلال تحوّله السياسي نحو الأسلمة في أعوام التسعينات (حملة الايمان)، ومن جهة أخرى فقَدَ البعث مصداقيته تماماً، بعد عام 2003، بمن فيهم البعثيون السنة العراقيون حتى ممن كانوا ممثلين حقيقيين للحرس القديم كعزة الدوري، والذين يعتقدون بأنه من الحكمة العمل من خلف غطاء منظمة اسلامية صوفية “جيش رجال الطريقة النقشبندية”
[13] في النظام البعثي، فإن مصطلح “الداخل” يشير إلى كل ما ينحصر ضمن حدود الدولة العراقية. أمّا في حالة “الدولة الاسلامية” فالأمر يخصّ مجتمعات سنّية عراقية وسورية، أي مجموعات سكانية تأمل المنظمة الحصول على مبايعتها أي توسيع هيمنتها العسكرية في مدى قصير.
[14] كنعان مكّية: “جمهورية الخوف: سياسات العراق الحديث”، 1998
[15] راجع بهذا الخصوص تحليل الوثائق الشخصية لحجي بكر من قبل كريستوف رويتر بمجلة ديرشبيغل، 18 نيسان 2015
[16] سلسلة تغريدات القحطاني على تويتر، 5 آذار 2014
[17] جريدة the National، أبو ظبي، 13 كانون الأول 2014
[18] صحيفة نيويورك تايمز، 21 تموز 2015
[19] ماكسويل مارتن، “السلطة القضائية لتنظيم القاعدة في سوريا”، تشرين الثاني 2014
[20] صحيفة السفير، 9 شباك 2015
[21] قناة الجزيرة، 28 أيار 2015
[22] آرون لاند: “حملات التطهير الداخلية في جبهة النصرة”، 7 آب 2015
[23] مقابلة مع الناطق باسم جيش الاسلام، اسلام علوش
[24] آرون لاند: “عمليات الاندماج الاسلامية في سوريا: أحرار الشام تبتلع صقور الشام”، 23 آذار 2015
[25] مقابلة مع زهران علوش 25 أيار 2015
[26] زمان الوصل، 4 آب 2014
[27] الدرر الشامية، 27 تموز 2014
[28] على سبيل المثال، ففي آب 2015 شاركت الفرقة 60 التابعة لجبهة الأصالة والتنمية بإنشاء “جيش النصر” في حماة.
معهد العالم للدراسات

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »
best microsoft windows 10 home license key key windows 10 professional key windows 11 key windows 10 activate windows 10 windows 10 pro product key AI trading Best automated trading strategies Algorithmic Trading Protocol change crypto crypto swap exchange crypto mcafee anti-virus norton antivirus Nest Camera Best Wireless Home Security Systems norton antivirus Cloud file storage Online data storage