من يطالب في أوروبا بمرور الإسلام بفترة التنوير فعليه أولا رؤية مفهوم التنوير الأوروبي بطريقة نقدية، هذا ما يدعو إليه أستاذ الدراسات الإسلامية أولريش رودولف، مؤكدا في تحليله الفكري التالي على أن الحط من قدر الثقافات الأخرى ومساهماتها الحضارية ما زال قائما، وهو ما يعبر عنه أوربيون بمطالبة المسلمين بالتزام مبادئ “تنويرنا” الأوروبية، أو حين يزعمون في نوع من تفخيم الذات بأن “الإسلام” عاجز عن التنوير

إن النقاش الدائر اليوم حول الإسلام ينتهي دائما إلى المطالبة بضرورة مرور المسلمين (أخيرا) بمرحلة التنوير. وترتبط بهذا المطلب فرضيتان: الأولى تشخيصية، ترى أن العديد من مشاكل العالم الإسلامي لها علاقة بواقع أنه لم يعش فترة التنوير. والفرضية الثانية علاجية، وتفيد بأن “استدراك” التنوير سيسمح عاجلا أم آجلا بإيجاد حلول للمشاكل المطروحة.

لا ريب أننا أمام فرضيتين سطحيتين، فكلتاهما تقومان على تصور للتاريخ أحادي البعد، يعتمد النموذج التحقيبي الغربي (القرون الوسطى، النهضة، الإصلاح، الحروب الدينية، التنوير…إلخ). لكننا لن نتمكن على الرغم من ذلك من رد مطلب التنوير.

إن المطلب الذي يرتبط بمفهوم “التنوير”، يتخذ طابعا قطعيا.  فهو لا يتأسس على اعتبارات تاريخية، بل يصدُق مبدئيا على كل البشر. وينضاف إلى ذلك أن العديد من المسلمين في العصر الراهن يدافعون عن الفكرة نفسها، لأنهم يأملون، عبر ذلك، في التحرر من بنيات التفكير المتكلسة التي تقوم على أمثلة للماضي، وعبر ذلك على خطاب أسطوري وليس على خطاب عقلاني.

الطموح إلى الحرية والاستقلالية ليس خصوصية غربية

يتوجب علينا في هذا النقاش أن نحذر من تحويل  التنوير نفسه إلى أسطورة. إن هذا بالضبط ما يحدث لما نتعامل معه بشكل مطلق ونعتقد أنه قادر على حل كل المشاكل، وأن بإمكانه أن يفتح الباب أوتوماتيكيا للتقدم الثقافي والاجتماعي. فحتى التنوير يخضع لشروط ومحددات، وهو ما يتوجب مناقشته، حتى يحترم النقاش الدائر حول التنوير شروطه النقدية ولا يتحول إلى مجرد حذلقة مدرسية.

وبهذا المعنى فإنه من الضروري التفكير بدقة في شروط تطبيق مفهوم التنوير على العالم الإسلامي، وهو ما تحاوله الأفكار الثلاث التالية:

إن أول مشكل يعترضنا في النقاش الحالي حول التنوير يكمن في  أن “التنوير”، أي الطموح الإنساني إلى الحرية والاستقلالية، يتم ربطه حصرا بالقرن الثامن عشر الأوروبي. لكنا نعرف بأن أوروبا شهدت مراحل ومبادرات تنويرية متعددة.

وإلى ذلك ينتمي عصر النهضة ولربما أيضا القرن الـ 13 (إذا ما أخذنا بأطروحة مؤرخ الفلسفة كورت فلاش)، والسفسطائية اليونانية وخصوصا فلسفة أفلاطون وآرسطو التي لم تكن تهدف إلى شيء آخر سوى إلى الحرية العقلية للإنسان، ولهذا تم النظر إليها من طرف الكثيرين ومن بينهم الفيلسوف الألماني يورغن ميتِلشتراس كفلسفات تنويرية.

قطعة خشبية مرسوم عليها علماء فلك عرب ومعهم أجهزة قياس تقنية -  مدينة البندقية عام 1513. Foto: picture-alliance

العصر الذهبي للإسلام: عرفت العلوم بمختلف اتجاهاتها تطورا كبير في العصر العباسي (749 – 1258 ) ميلادية، وتحولت بغداد، عاصمة الخلافة العباسية، إلى مركز للبحث والتأهيل العلميين.

وتنضاف إلى ذلك تيارات مشابهة في دوائر ثقافية أخرى، ولا ريب أنها موجودة في العالم الإسلامي أيضا. وهناك يمكننا  -وفقا للطريقة التي نفهم بها مفهوم التنوير-وصف العديد من المفكرين بالتنويريين: فيلسوف مثل أبو نصر الفارابي وابن سينا وابن رشد بسبب دفاعهم عن استقلالية العقل وأبو حامد الغزالي بسبب نقده للعقل، أبو بكر الرازي نظرا لمنافحته عن دين يتوافق مع العقل، ويمكن أن نضيف إلى هذه القائمة بعض المفكرين السياسيين في الحقبة العثمانية مثل حسن كافي الأقحصاري بسبب نقدهم للسلطة. إن هناك كُتّاباً مسلمين نافحوا في وضوح عن طموح الإنسان إلى الحرية والاستقلالية، والذين يتوجب اليوم اكتشافهم من طرف المسلمين وغير المسلمين.

لا أحد قد يزعم اليوم بأن نتائج التنوير في أوروبا كانت إيجابية فقط

لكن يتوجب التأكيد في الآن نفسه، وهذه نقطة أساسية بالنسبة للنقاش الدائر، بأن الاعتراف بمظاهر تنويرية عديدة لا يهدف البتة إلى التقليل من أهمية مرحلة التنوير الأوروبية في القرن الثامن عشر. بل العكس هو الصحيح: فبما أنه يتم فهم التنوير كمفهوم كوني، فإنه من الممكن أن نؤكد صلاحية كل تمظهر فردي من تمظهراته وأن نطالب المسلمين بالدخول في حوار فكري معه.

قد يبدو الأمر بالنسبة للمسلمين اليوم تعجيزيا، لكنه يتوافق مع موقف انتشر لوقت طويل داخل العالم الإسلامي. إن خلفية ذلك تعود إلى تحد اجتماعي مختلف، ارتبط بالسؤال: كيف يتوجب على المسلمين التعامل مع الإرث الثقافي لليونان القديمة؟ إن جوابهم عن هذا السؤال تميز بوعي كبير.

وفي هذا السياق كتب أبو يوسف الكندي منذ القرن التاسع بأن علينا أن لا نشعر بالخجل من الاعتراف بالحق وتبنيه، بغض النظر عن أصله، وحتى لو وصلَنا من أجناس وشعوب بعيدة. وبهذا المعنى قام العرب بترجمة العديد من النصوص الفلسفية اليونانية، وخصوصا كتب آرسطو إلى العربية.

لكن الأهم في الأمر هو الموقف الذي اتخذه العرب إزاء العلم “الأجنبي”. فلم يتم النظر إليه كخصوصية ثقافية لقومية أو دين معينين، ولكن كإرث  كوني للإنسانية. ولهذا السبب تمكن سعيد الأندلسي في القرن الحادي عشر من إنجاز شجرة نسب للشعوب التي ساهمت في تطور الأبحاث العلمية.

العلم والعقل والرشد وفقا للمقياس الكوني

وإلى ذلك ينتمي الهنود والإيرانيون وشعوب بلاد الرافدين واليونان والرومان والمصريون والعرب وسكان إسبانيا، الذين تمثل ذكاؤهم في التعاون الذي كان قائما في الأندلس بين المسلمين واليهود والمسيحيين. وهذا يعني أن سعيد الأندلسي كان يعترف بأن مجال صلاحية العلم والعقل والرشد كوني وغير مرتبط بشعب محدد.

ثالثا: أن دعوات التنوير قد تنصدم بسوء الفهم، وهو أمر له علاقة بالطريقة التي تتم بها الدعوات. وهذا يعيدنا إلى نقطة أشرنا إليها في البداية: إن المطالب التي يرفعها النقاش الحالي باتجاه المسلمين تقوم في الأغلب الأعم على صورة أسطورية للتنوير. إنه أمر يثير الدهشة، بالنظر إلى أن التنوير فيما يتعلق بأوروبا نفسها لا يتم النظر إليه منذ زمن بذلك التعظيم.

فلا أحد قد يزعم اليوم بأن التنوير لم تكن له سوى نتائج إيجابية في أوروبا، وليس فقط ما شهده التاريخ الأوروبي  في القرنين المنصرمين شاهد ضد تعظيم حقبة التنوير ولكن أيضا الاعتراضات النقدية التي ما برحنا نسمعها منذ “جدل التنوير” لماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو.

لكن ماذا عن النظرة إلى الشعوب غير الأوروبية؟ كيف نظر رجالات التنوير إلى المجتمعات والثقافات الأخرى؟ وما هي النتائج التي تترتب عن ذلك بالنسبة للمعنيين بالأمر؟ هنا تظهر بعض الانشقاقات في تصورات بعض المفكرين المشهورين، يتوجب التعبير عنها بشكل واضح.

إن أوائل التنويريين لم تكن لهم علاقات صعبة مع التقاليد الثقافية غير الأوروبية. كانوا يقدرون فيلسوفا عربيا مثل أبو بكر بن طفيل ودرسوا كتبا من ثقافات مختلفة.

وفي هذا السياق كتب غوتفريد فيلهلم ليبنيتز في بداية القرن الثامن عشر قائلا: “إذا ما انتهينا من قراءة اللاتين واليونان والعبرانيين والعرب، فإن الدور سيأتي على الصينيين بالنسبة لنقادنا الطامحين إلى المعرفة، ودون الحديث هنا عن بعض كتب الفرس والأرمن والأقباط والبراهما، والتي سنكتشفها مع الزمن، حتى لا نغفل أي لحظة من لحظات التنوير”.

تفخيم الذات الأوروبية بالقول إن الإسلام عاجز عن التنوير

لكن، لاحقا، سيصبح الاعتراف بتقاليد فلسفية أخرى مشكلة. فإمانوئيل  كانط ركز على فلسفته، التي لم تمثل بالنسبة له هدفا بل مقياس كل معرفة عقلية.  وهو ما قاد عند من تبعه من الفلاسفة إلى أن يتخذوا تاريخ الفلسفة في مجموعه طابعا غائيا، وهو ما لا يمكن أن نغفله عند هيغل.

صَبِيّ يتعلم القرآن في طرابلس. Foto: MAHMUD TURKIA/AFP/Getty Images

عمد الأوروبيون خلال مرحلة التنوير إلى الحط من التقاليد الفكرية للعالم الإسلامي، وهو أمر ما زالت تبعاته قائمة إلى يومنا هذا، ومن تمظهراتها، مطالبة بعض الأوروبيين المسلمين بنقل تجربة التنوير الأوروبية، أو حين يرددون في تفخيم للذات بأن “الإسلام عاجز عن التنوير”.

فبالنسبة له لا توجد إلا فلسفة واحدة يتوافق تاريخها مع تعبير العقل عن نفسه، وتقود في النهاية إلى نظامه الفلسفي الخاص به. وأمامها لا يمكن للأطروحات الفكرية الأخرى أن تمتلك سوى “صلاحية مؤقتة” كما يكتب هيغل، وخصوصا الفلسفة المشرقية (وإليها تنتمي الفلسفات الصينية والهندية أيضا) ولكن أيضا العرب، الذين رغم دور الوسيط الذي لعبوه بين الفلسفة اليونانية والسكولائية اللاتينية، إلا أنهم “لم يقدموا شيئا خاصا” بهم، بحسب تعبير تلك الأطروحات.

ومثل هذه الأحكام رافقت الأبحاث الأوروبية حتى القرن العشرين. ولم تتعلق فقط بالبحث المتعلق بتاريخ الفلسفة، ولكنها تعبر عن موقف مبدئي، تطور بتطور حركة التنوير. فكلما قطع التنويريون شوطا أكبر في التعبير عن مفاهيمهم الخاصة عبَّروا بشكل نقدي أو منقوص عن أشكال التفكير في الثقافات الأخرى.

وحتى نستشهد بما جاء في “جدل التنوير”: فإن التنويري الأوروبي المكتمل سيعبر عن نفسه بشكل بطولي في حكم تبخيسي، يصدره على كل أولئك الذين لا يتوافق تفكيركهم مع شكل تفكيره.

إنه أمر يتوجب التفكير به، إذا ما طلب المرء مناقشة المسلمين حول مفهوم التنوير. إن هذا الحط من قدر الثقافات الأخرى ومساهماتها الحضارية، ما زال قائما إلى يومنا هذا، وهو ما تعبر عنه مطالبة بعض الأوروبيين من المسلمين بالتزام مبادئ “تنويرنا”، أو حين يزعمون في نوع من تفخيم الذات بأن “الإسلام” عاجز عن التنوير.

أولريش رودولف

ترجمة: وفاء حسين