أديب البردويل
ان مقولة العلمانية في ظل ما يحدث في الواقع العربي , أصبحت ذات حضور قوي ليس بسبب واقع التخلف العربي المزمن فحسب , بل بفعل قوة حضورنقيضها ، وذلك عبر منظمات ذات ايديولوجيات مظلمة , وقد استطاعت هذه الآيديولوجيات ان تفرض وجودها نتيجة تغول الاستبداد العربي الحاكم منذ قرون ، والذي تلبس قسمٌ منه شعار العلمانية بهتاناً واحتيالاً , بدليل أنه كان ومازال يتحالف مع ميليشيات وايديولوجيات الظلام هذه , وهو كثيراً ما احتاجها ويحتاجها لقمع حراك الناس ومطالبهم بحريتهم كما هو الحال في سوريا .
اثارت العلمانية وما زالت خلافاً يظهر في الإختلاف اللُغوي الناتج عن خلاف ٍمفهوميّ ٍ لها . هناك مـن يعرفّها : بالعـِلمانية ـ بكسر العين ـ وهناك مـن يفهمها بفتح العين : الـعـَلمانيّة .
هذا الخلاف ليس فقط بين من يُسمَون بالعلمانيين من جهة ، ومن يُسمَون بالإسلاميين الذين يَرفضونها بكلتي التسميتين من جهة اخرى ، بل الخلاف قائمٌ بين فرق العلمانية نفسها .
عندما يجتاح ضموراستيعاب مثل هذه المفاهيم ساحة العقل والثقافة العربية , يُشير إلى تجنب هذا العقل مهمة الفكر والقضايا الإنسانية ، وهذا ما يؤكّد انعدام الوعي الدنيوي {الكوني} في العقل السياسي والفكري العربي : الرسمي والنخبوي .
لقد كُتب الكثير حول العَلمانية , وهي بالاساس ليست مؤطرة في نظرية فلسفية او علمية او فكرية , حيث هي ، باعتقادي ، سلوكٌ فكريٌّ استمد دَرَبَتَه ودربه من التجارب الانسانية وما أنجزته معرفياً وجسدته واقعاً اجتماعياً , لقد تحللت في سلوكيات الناس العامة اليومية والبسيطة حيث نقلت المجتمع برمته الى الأمام .
المعنى اللفظي للعلمانية مترجم من secularism المشتقة من الكلمة اللاتينية saeculum والتي تعني العالم أو الدنيا , إذن علينا أن نقرأها بفتح العين بعد ان فهمناها بأنها مركبة من كلمتبن : العالم الإنساني . وأما العِلم بالإنكليزية هو : (SCIENCE) .
لكن لنفترض أنها تعني العلم ، فماذا يضيرنا ذلك .. ؟
أليست المعرفة هي العلم بالأشياء والإنسان والحياة ..؟ عندما نقول : نعلم ذلك ، ألا نعني بهذا أن تلك المعلومة أو المفهومة ، أو المقولة ، نعرفها ..؟
لكنني ساتعاطى معها لُغوياً ومفهومياً كـعـَلمانيّة ، بفتح العين ، لأنها وان كانت من هذا او ذاك , فهي ناتجة من الـمعرفة الكونية ، أي المعرفة البشرية علوم ٍ طبيعية تخص المادة , وعلوم إنسانية من ثقافات وفكر وأدب وموسيقى وفن .
أمّا أن كونها كانت ولم تزل أجوبةً وطريقاً لـمجتمعات غربية سبقتنا إليها , واخترقت مكوناتـِها المتخلفة آنذاك كضرورة لاتساق تقدمها الإجتماعي وضبط إيقاع أطره النظرية ، وهي قد حملت واجابت بقدرة فائقة على متطلبات ذلك التقدم الذي مابرح يبهرنا إلى اليوم . أقول : حين تكون هي كذلك , هذا لا يعني أبداً بأنها نتاج مجتمع بعينه ومرهونة به وله ، أو حــلٌّ محصورٌ في مشكلة بذاتها ، أو أنها مشروطة بطبع بشري او عرق دون آخر ، فهي الأجوبة الحرة والملتزمة بمعاناة الإنسان أينما كان , لا شيء ولا أحد بستطيع احتكار طبيعتها الإنسانية الشاملة , إنها معرفة انتجها الانسان خلال تجاربه العملية والفكرية تلبية لمستلزمات تطور واقعه وحل مشاكله ، انها دربة هدفت وتـهـدف إلـى معالـجة أحــوال المجتمع ، نـجدها في السؤال وفي الـجواب ، فـي الـحاجة الـمادية والروحية ، إنها تجارب الإنسان المتراكمة ، وهي السياسة بمفهومها الحديث حيث : فن تحريك البشر والاشياء . ولأنها حرة هي تمتلك قدرة تناول هموم الـمجتمع كله ودون استثناء ، جـماعات وأفراد ، تعطي الـحرية للكل ، وتـحمي الجميع من الجميع ، تـمنح الروح أن تكون ماتشاء ، وتكفر بكل أنواع الاعتقال الجسدي والذهني ، تعلّم الـجسد أن يـحب ويـحترم نفسه ، وتحترم روح وحيوية الفرد بإيمانه المعتقدي المنسجم مع اهمية انتمائه الاجتماعي.
تدعـو الكل للتدخل فـي شؤون الكل ، ولا يـحقّ لأحــد مهما كان أن يهيمن علـى / أو يلغي غيره , حيث تؤكد على أن الدولة هي الـجميع , وهي مثالهم المتجسد بالـحق والقانون والواجب وحب الوطن ، هي الأخلاق حين تشحذ معانيها من قيم الله الـمتجذّرة فـي النفوس خيـراً وجـمالاً وإنسانية ، نرتقي بـحبه العظيم وتكريمه لنا بالعقل والـحرية .
لكـن هذه الإجتهادات بالتفسير المتواضع لتلك المفاهيم ، سوف لا يفيدنا بشيء طالما متبنوها خارج المجتمع , لا يعرفهم ولا يعرفونه , غرباء عته بلغتهم وتقديم انفسهم له على طريقة الإستكبار والتعجرف الثقافي الذي لايقل تعالياً واضطهاداً عن قمع السلطة والمتسلطين عليه . ستبقى كل المفاهيم والأفكار مهما علا شأنها فارغة وقاحلة إن لم تعالج قضايا مجتمعي وحاجاته .
إذاً العَلمانية هي : نهاجية فكرية أصاغها تاريخ التقدم الانساني بمجمله في مكان ما , ولأن الفكر لا يتعرف على حدود جغرافية , فلا أحد قادر من ان يمنعها من التتنقل في جميع انحاء التاريخ البشري إلاّ تخلف هذه النخبة أو تلك عن فهمها وفهم متطلبات تقدم اهلهم . سوف لا تستطيع تجاوز الحدود الذهنية والنفسية والثقافية لمجتمع ما يحتاج دخولها اليه , الا اذا امتلكت مفتاح بابه , ومعجم لغته , تعرّفت عليه وعرّفتْه بحالها بكل هدوء وجدية وود .
علم التاريخ والإجتماع يؤكد : إن الأكثرية المجتمعية هـي الـمسؤولة تاريـخياً عـن إعادة حياكة المجتمع , وهضم الكسور القومية والدينية والمذهبية ديمقراطياً وحضارياً ، فهي الكتلة التي اصطفاها التاريخ لقيادته , لذلك هي مسؤولة عن تقدمه وعن تخلفه أيضاً .
ان ابتلاع الاكثرية للأقليات لا يعني أبدا إلغاءها قسراً , بل جعلها تتفاعل في مداره بأمان يدعو للتكامل والإنسجام , إن هذا الفعل التاريخي للأكثرية اي للأمة , كان ومازال واجباً حاضراً على الدوام , الا أن مجتمعاتنا , مع الأسف , لم تستطع بعد أن تقوم بهذا الواجب الوجودي , كي تنظف قاعها الإجتماعي من الفخاخ المؤقتة .
ان االحراك الاجتماعي الزوبعي والمؤهل لجدل كامل المجتمع حول ذات واحدة , سوف لن يكون ان لم تكن الأكثرية مركزاً متقدماً وجاذباً على كل الأصعدة . ان كثافة وجودها المناسب لحركة التاريخ هي من تعطيها خاصيّة الـجذب ،وعليها تتم عملية الـتمحور الإجتماعي .
بوضوح أكثر ، إن لم تكن الأكثرية متقدمة علـى الأقليـّات بـما يستلزمه التطور الـحضاري , سوف لـن تفقد خاصيـّة الـجذب لتكوين مجتمع جديد فحسب ؛ بل ستفقد دورها التاريـخي ، وسيبقى مـجتمعها فـي صراعات مدمرة , لأنها لا تنتمي إلـى مـخاض التقدم , والإنتقال من ألم الموت إلـى ألـم الولادة .
لهذا بل لأكثر على فرقنا العلمانية أن تكفّ عن التمتمة بألسنة غريبة عن العربية والإسلام ، وأن تدخل حارات أهلها وناسها ؛ فلاحل ولا أمل إن لم تخترق العقلانية آيديولوجيا وثقافة المجتمع المتمثل بالأكثرية {السنة} , وذلك بعد عقلنة الآيديولوجيا النخبوية . كما على الفرق الإسلاموية أن تخرج من قمقمها المظلم إلى نور الحياة ، وأن تُقلع عن تقديس ذاتها وما تؤمن به , وعن تكفير العالم لأنه مختلف عنها .
….يتبع ..