الخميس. نوفمبر 13th, 2025

عمر قدور

ما بعد حلب ليس كما قبلها. هذا كلام لا ينتمي إلى الإنشاء، ولا يدخل في باب الانفعالات. صحيح أن سقوط حلب لن يكون الأول، فمثال حمص لا يزال ماثلاً في الأذهان، وأيضاً مثالا القصير ويبرود، إلا أن ما هو مفهوم الآن هو حجم التقاطع الذي تمثله المدينة على الصعيدين الدولي والإقليمي. فحلب هي النافذة ذات الثقل الأكبر على تركيا، وفي حال محاصرتها مع ريفها سيكون ذلك توطئة لقطع خطوط الإمدادات عبر تركيا نهائياً، بخاصة أن المعركة القادمة في إدلب وريفها مغطّاة دولياً بسبب التواجد الأكثر عدداً لجبهة النصرة هناك. بدءاً من حلب يحضر المثال على التعاطي الدولي المرتقب، فالمسؤولون الأميركيون تحديداً برّروا انقضاض الروس وقوات الأسد على حلب بتواجد النصرة، على رغم أن التواجد محدود بالمئات، وعلى رغم أن التواجد جاء متأخراً بسبب عدم قدرة الفصائل المعتدلة، بما فيها المدعومة أمريكياً، على تغطية الجبهات بالسلاح قبل المقاتلين.
ليست المسألة استخدام حلب كورقة ضغط على المعارضة لإعادتها إلى النظام، فالنهج الدولي يستهدف إعادتها هي وغيرها إما بتسوية بائسة في المفاوضات أو تحت كثافة النيران والدمار. المطلوب وفق التفاهم الأمريكي الروسي إبقاء النظام، ولن يمر هذا التفاهم إلا بمجازر كبيرة جداً، أو بتنازلات لا تقدر عليها المعارضة، وفي حال قدمتها ستكون بمثابة صك هزيمة تام.
هذا النهج هو استكمال لنهج دولي في العديد من مناطق النزاع، أقربها جغرافياً وزمنياً تجربة ما بعد إسقاط صدام في العراق، وتسليم العراق إلى الوصاية الإيرانية على النحو الذي أدى إلى بروز داعش. إن أول كذبة كبرى على المستوى الدولي هي إلصاق وصمة الإرهاب بالقضية السورية. فالعالم هنا لا يفعل سوى إلصاق عاره بالسوريين الذين لا يتحملون أدنى مسؤولية عن الإرهاب الدولي الذي وقعوا ضحيته خلال السنوات الثلاث الأخيرة خصوصاً، أي بدءاً من تفاقم مسرحية داعش في العراق وتمددها إلى سوريا.
خريطة المقاتلين الأجانب في سوريا توضح خريطة السياسات الدولية المولّدة للإرهاب، هناك حوالي خمسة آلاف داعشي أوروبي، وهناك عدد مماثل من الجمهوريات السوفيتية السابقة، في طليعتهم المقاتلون الشيشان الذين تعرضت جمهوريتهم ضمن الاتحاد الروسي لأقسى عمليات الدمار والإبادة بقيادة بوتين نفسه. أيضاً هناك تنظيم القاعدة، متمثلاً بالنصرة، الذي يؤكد وجوده الحالي عدم نجاعة الحرب الدولية عليه، على رغم العمليات العسكرية التي لا تتوقف في أفغانستان وباكستان. أي نحن أمام سياق عمره عقود من السياسات الخاطئة، وفي العموم يجري تبريرها ثقافياً بالعنف الذي يختص به الإسلام. وعندما تحضر ساحة كالساحة السورية الآن يجري إلصاق ملف الإرهاب بها، مع أن هذه الساحة تكون بمثابة تصريف لقوى الإرهاب المتجمعة سلفاً.
الإرهاب السوري، أو الإرهاب المتأتي بسبب السياسات الدولية المتبعة حيال سوريا، لم يأت بعد. ربما هناك إرهاصات له، وربما صرنا قريبين جداً من اكتمال المظلومية السورية المولدة له، لكن نضجه التام سيكون رهناً بتصفية القضية السورية تماماً وبفقدان الأمل لدى الشريحة الأعظم من السوريين، مثلما سيكون رهناً بجيل ينشأ الآن محروماً من أدنى الحقوق، جيل عاش أو رأى حرب الإبادة المدعومة بالصمت والتواطؤ الدوليين.
بهذا المعنى، معركة حلب الحالية إذ تؤسس لتصفية القضية السورية ستكون مدخلاً نموذجياً للتوجه إلى الإرهاب، وستؤسس له على قاعدة التشارك الدولي في منع التغيير سلمياً وعسكرياً بحيث لا يبقى من إمكانية “للمقاومة” سوى تلك التي لا تبتغي تحقيق جدوى سياسية مباشرة بقدر ما تبتغي الانتقام من المنظومة التي منعت التغيير.
أولى النتائج المباشرة لتصفية القضية السورية، وهذا في حد ذاته ليس شراً على السوريين، سيكون في عودة المقاتلين الأجانب إلى بلدانهم أو إلى نقاط انتشار أخرى، وقسم كبير من هؤلاء لن يتقاعد من معركته. لكن الأهم أن السياسات الدولية قد تؤدي غرضها من حيث دخول السوريين بقوة على خط المنظمات الجهادية، وقبل ذلك من حيث اكتساب المنظمات الجهادية مشروعية أكبر بسبب المظلومية السورية، وأيضاً بسبب ما سيُنظر إليه على أنه اصطفاف دولي إلى جانب المحور الشيعي في المنطقة، مع التنويه بأن العامل الطائفي المستعر سيكون له أثر أكبر في تعزيز المظلومية. فالغرب لم يعد استعمارياً وكافراً “كما يراه الجهاديون”، لقد أصبح فوق ذلك ينتقي ضحاياه على أساس مذهبي.
كل ما قيل عن نأي إدارة أوباما عن سياسة سلفه جورج بوش سيسقط وفق هذا المعيار. بل لن تعدو سياسته كونها استكمالاً لسياسة سلفه بأدوات وأساليب أخرى، سمتها الأساسية الانتهازية المتعينة بدفع أقل ما يمكن من الأثمان على الصعيدين البشري والعسكري مع رعاية لا يمكن الزعم بأنها غبية لتأجيج عناصر الصراع واستدامته. ثم أن تكرار السياسات والأخطاء ذاتها لا يمكن رده إلى محض الصدفة، أو إلى موهبة استثنائية في عدم التعلم من تجارب الماضي. على كل حال ليست هذه هي الفرادة الأمريكية وفق الترويج الأميركي نفسه.
في مواجهة هذه السياسات الدولية يلزم فهم عام يتعدى الجغرافية السورية، ويلزم تحرك عام يتعدى أيضاً إمكانيات السوريين بوصفهم متضررين من الدرجة الأولى حالياً. المنطقة والعالم كله سيدفعان الثمن آجلاً أو عاجلاً، ومن الخطأ تصديق البروباغندا الدولية حول القضاء على الإرهاب في سوريا وكأن سوريا منبع له، أو في الحد الأقصى ساحة للمعركة الأخيرة الفاصلة. ما لم يوجد مثل هذا التضامن مع السوريين أولاً، ومع الضحايا المحتملين تالياً، سيبقى العنوان الأمثل لهذا العالم: إلى الإرهاب سِرْ.

المدن

By

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *