الإستعانة بـ”داعش” في الحرب على”داعش”
الرقة بوست
نحن السوريين اليوم منقسمون: بين نظامٍ يجدُ نفسَهُ مُتَدرِّعاً الدرعَ الفاصلَ والحاسمَ بين موتِه وحياتِه بروسيا وإيران، وبين قوى مناوئة له ومعارضة ـ على اختلاف مواقعها ومسمياتها ـ وقد التجأت إلى أصدقائها الإفتراضيين. لايمكن اليوم إيجاد الشعرة الفاصلة بين كل طرف ومقدار وحجم العلاقة التبادلية والتشاركية بين مجموع هذه الأطراف، ولامقدار الولاء الذي يُضمرُه كلُّ طرفٍ للآخر، لا الداخل السوري، ولا الخارج الدولي والإقليمي، فمصطلحات “العدو والصديق” باتت كنائية تشبيهية تعمل على تقريب الأفكار وتصويب المواقع وتسديد البوصلات المتراقصة الإبرة والتوجه بشكل لحظي، فلا العدوُ عدوٌّ في حقيقته المفحوصة ولا الصديقُ صديقٌّ كذلك.. قد تكون هذه المعادلة جديدة، لا سابقة لها، لا في الثورات ولا في الحروب ولا في العلاقات الدولية.
المهم في الأمر أن السوريين باتوا يفكرون بصوت عالٍ(وليس همساً كما كان الحالُ عليه قبل سنتين أو ثلاثٍ خلونَ)، وأنهم شبهُ مُجمعِين على أن “داعش” هي إحدى الصناعات الدولية التي ترتبت من أجل إعادة تسوية وتكوين هذا الشرق الأوسط البائس والسيء الحظ عبر تاريخه الطويل.. بهذا المعنى لاتفترُ الأقوالُ يومياً عن الترديد بأن داعش صُنِعت ومُولت أمريكياً وأوربياً وخليجياً وتركياً وروسياً وإيرانياً، وأن هذه الحقيقة باتت بحكم المُسَلَّمة التي لم يعد ينكرها أحدٌ، ولا يُكلفُ نفسَه بدحضها أحدٌ، كما كان يرددُ قبل سنة أو سنتين.. الجميع يصمتُ صمتَ الإقرار، والجميعُ يُقرّ إقرارَ الصامت..حتى داعش نفسها لم تعد تنفي وتغتاظ كما كان عليه الحال في السابق، ولم تعدْ تهدد وتتوعد من يُلمح تلميحاً إلى هذه الحقيقة.. دعْكَ من بعض الأغبياء هنا وهناك، ودعْكَ أيضاً من تصريحات الرسميين(أصحاب الياقات المُنشّاة)، ومن بعض الصحافة الرصينة المتأدبة في ألفاظها أكثر مما يحتمله شرف المهنة في عصر فجور كل المهن والمصالح، دعك من هؤلاء، ولنطرح الأسئلة كما يجب أن تُطرح، ولنجبْ عليها بما يحتمله الجواب دون كثيرِ تنطعٍ وفضولٍ لغوية لا لزوم لها..
إذا كان هذا المجتمع الدولي والإقليمي كله(داعش)، فكيف نحارب “به” و”معه” داعش إذن..؟ هل نستعينُ على داعش بداعش؟ وهل نحارب داعش بداعش؟ ماهذه الدوامة؟ وبتعبير الجنرال ـ بطل(ماركيز) في رواية{الجنرال في متاهة} ـ في آخر جملة يهتف بها الجنرال المختنق من الغيظ والضياع والحيرة المبهمة: ـ يإلهي.. كيف يمكننا الخروج من هذه المتاهة..؟
الجواب على هذا السؤال بسيط، بل هو في غاية البساطة: نعم.. نحن نستعينُ على داعش بداعش. ونحارب داعش بداعش..(والذين يمولون ويدعمون داعش هم أنفسهم من يمولون ويدعمون محاربيها)، وفضُّ الإشتباك في عقدة المسألة وفذلكتها التي تشبه حقيقة تقع خارج العقل لا داخله، وما فوق معادلة المنطق الأرسطي الإستقرائي والشكلاني الذي يُلزِمُهُ وعاءُ اللغة والألفاظ بالنتيجة، أن داعش((ليست تنظيماً))كما يُرَدَّدُ على أسماعنا ليل نهار.. بل هي(شكل من أشكال العلاقات الدولية المتشابكة بعد الحرب الباردة)، وهي(نوع من تجسيد وتجلٍ للدبلوماسية الظلامية التي يُمنَع الإفصاحُ عنها صراحة)، وشكل من أشكال الدبلوماسيات القذرة التي تجري خارج كل ماهو رسمي: السفارات وقصور المؤتمرات وأمام الكاميرات والتلفزة والبرلمانات.. إن الدول الحديثة تقوم أساساً على موارد بلادها وتنميتها وما يدفعُهُ دافعو الضرائب من شعبها.. لذلك من غيراللا ئق أن تصارح شعبها بالجانب الخفي السري من طوايا وخفايا سياسات سوف تبدو غير أخلاقية وسيئة وغير معتادة في الأسماع والأبصار، فضلاً عن كونها مخالفة للقانون الدولي ولقيم المجتمعات وأديانها وأعرافها.. لذلك كانت داعش(معصرة القذارات التي تنتج زيتاً نقياً شفافَ البريق)، ووعاءً حاضناً لهذه السلوكيات التي تشبه التخفي للتفرج على الصور الفضائحية (الممتعة) بالنسبة لأناس رصينين رسميين، غير مألوفٍ ظهوراتُهُم إلا بسمتٍ خاص وطبيعة رسمية.
داعش هي اللارسمي الدولي الذي يقع خلف الرسمي وفي خفائه، وهي القسم المعتم من السياسة الحادثة بعيداً عن الكلام المنافق والكثير غير المجدي والذي لا طائل من ورائه.. فضلاً عن أن الفشل في هذا الخفاء وهذا الملعب المظلم لا يُرتبُ لا نتائج إنتخابية ولا التزامات محاسبة أمام الشعوب دافعة الضرائب والإنفاقات ولا يدونُه التاريخ كوصمة عار وانكسار أخلاقي تلحق سُبّتُهُ الشعوبَ والحكومات التي تمارسه في غرفٍ سريةٍ، فهي كالابن السري غير الشرعي، الذي يكدح ويتعب ويقدم ثمرة عمله إلى أبيه دون أن يطالب ذلك الأب بالإعتراف به علناً أمام الملأ، ولا الأب ملزمٌ أن يصرحَ بأبوتِه لهذا النسل السري المفيد، والكثير الفوائد والقليل الكلفة.