الأثنين. نوفمبر 17th, 2025

اللاوعي في فلسفة ((كارل يونغ)) ـ (الجزء الأول)

الرقة بوست ـ بعيداً عم السياسة

اللاوعي في فلسفة ((كارل يونغ)) ـ (الجزء الثاني)

بقلم العالم البولندي: (بوغسواف ياشينسكي)
وبهذه الصورة يكون هذا النموذج ذاكرة لطبقات الإرتقاء evolution الماضية ، لكن من أجل أن يقدر على النشاط بصورة فعلية والتأثيرعلى نفس الفرد وبث طاقة معيّنة ينبغي أن يملأ بالمضمون ( الحياتي ). حينها يصبح جسدا له كينونته. وهنا يشرح يونغ مشكلة تفسيرية دقيقة وهي : هل بقدرة نماذج اولية معينة أن تجذب مضامينا بشكل ما ؟ فإذا كانت قادرة ينبغي النظر الى حياة الفرد بشكل مغاير.
في مثل هذه الحالة يتحول النموذج الأولي الى وجود فعلي وقائم يمنح ذاته القدرة المناسبة. وهكذا لن يكون مجرد أثر لتجارب الجنس البشري السابقة بصنع أشكال السلوك بل وجودا معينا وفوق طبيعي . وعلى الرغم من أنه غير واع فهو يؤثر بصورة فعلية في النفس من خلال مضامين معينة مسجلة فيه. و بذلك فالنموذج الأولي هو ، على السواء ، إستعداد disposition وميل الى شيء أو أنه ( شيء )، وجود معين فوق شخصي. وبهذه الصورة المقتضبة يكون بالإمكان إلقاء الضوء على تطور مفاهيم يونغ في موضوع النماذج الأولية.
يكتب يونغ أنه إذا ( مليء) النموذج الأولي بمضمون الحياة ، يتحول حينها الى رمز معين ، وهذه المرتبة هي أحد مفاتيح اليونغية. وفي الوعي الدارج يحصل الخلط بين الرمز والإشارة في حين أن يونغ يقوم بتفرقة دقيقة بين هذين المفهومين. فالإشارة تخص الواقع المعروف ( المدلول هو واضح من خلال الدال ) في حين أن الرمز يتوجه صوب الواقع غير المعروف حيث المدلول هو خارج نطاق الكلام والمنطق العقلي. بإختصار يكون الرمز جسرا الى السماء / أنظر إستعراضات نظريات الرمز في المؤلف الرائع لجلبير ديران G.Durand ( المخيلة الرمزية ) / وبإنتباه شديد يصف يونغ فكرة الرمز. فهو يدرك بأنه يكشف عن مسلك للإتصال بوجود يفوق الحياة بل الحياة الشارطة ، وهنا نرى مرة أخرى ، الإختلاف الأساسي بين نظريته و التحليل النفسي لدى فرويد. لايكون اللاوعي ، عند يونغ ، شيئا شريرا ، أي عكس ما هو في مفهوم فرويد ، كذلك فليس الرمز ، وكما أراد فرويد ، مظهرا لتفكير أوطأ بل على العكس : إنه شيء مهم وجوهري ومرغوب فيه. فبفضله نتمكن من أن نعيش الإتصال باللاوعي الجماعي والبدء بعملية التفرد.
إلا أن الفارق التفسيري بين فرويد ويونغ والذي يخص وظيفة الرمز ودوره الفعلي في حياة الفرد النفسية هو شيء هامشي كانت تربته الخلافات الشفهية حسب، تكون عاقبته المباشرة مفهوما آخر للثقافة مغايرا. فلدى فرويد تكون ظاهرة الثقافة المعقدة و ذات الطابع الخاص ، قد سيقت ، في واقع الحال ، صوب المحددات determinants الفيزيولوجية و الطبيعية في حين أن هذه الظاهرة تكون لدى يونغ مدركة ( بكسر الراء ) لقضايا الروح. فهنا يتم منح خصوصيات الثقافة وظيفة تجاوز transcendent صوب اللاوعي. أو ليس من المحتمل أن الإنسان قد تأنسن وسما ومنحت الحياة معناها الصحيح بفضل هذه المفاهيم ؟.
كان يونغ يقسّم الرموز الى فردية تملك دلالتها عند شخص معين هو في طريقه صوب تحقيق الفردية ، وأخرى جماعية توفر المعرفة لكل المجموع البشري. وأنا كنت قد إستخدمت عن عمد ، فيما يخص الرموز الجماعية ، مجاز المرآة التي ينظر الجنس البشري الى ذاته فيها. إنه مجاز مستعار من هيغل وكان قد إستخدمه في ( الأستيتيكا ). وبإعتقادي يكون ممكنا أن نلاحظ هنا أحوال تماثل معينة : الروح الهيغلي المطلق الذي نلقى تعبيره في أعمال الفن يقوم بوظيفة هي مشابهة لعمل اللاوعي الجماعي اليونغي.
وكان يونغ قد كرس مكانا كبيرا للفن في تأملاته، ونحن نفهم الاسباب إذا تذكرنا مفهومه عن الرمز . ونجد تأملاته الرائعة المكرسة للشخصية الخالقة أي سرّ الكاتب الذي يجرّ ال ( هو ) الخلقي ( بفتح الخاء ) وراءه ، ذلك الظل الحياتي لعدم التكيّف الأبدي ، ما زالت تثير الإهتمام والقلق في الوقت نفسه. ويجد يونغ أن الفن إما أن يكون رمزيا وإما بسيكولوجيا. فالأول يتميز بالميل الى التعبير الخارجي
ومادته هي الرؤى المتوجهة صوب اللاوعي الجماعي ، أما الثاني ( ويسميه يونغ بالعرضي symptomatic ) فيتميز بالأسلوب الإستبطاني في تشكيل المادة النفسية ، إذ يستمد الإلهام بالدرجة الرئيسية من حياة الإنسان الواعية ، وهنا نقدر على الكلام عن ( الجمال ) و ( الجمالية ) و ( الشكل الفني ).
إن الفن الرمزي يهدم هذه القوانين أو لايكون هدفه الحفاظ عليها. إلا أنه خلاق ، فبين جميع الوظائف التي يؤديها الفن تلقى الوظيفة الرمزية لدى يونغ التقدير حيث يرى أن المهمة هي التعرف من خلال الرموز. فمهمة الفن هي تطوير الجانب الإنفعالي في الشخصية. أما مهمته كمانح للذائقة والمتعة والمذاق فتكون آخر الوظائف.
إن هذه المقولات التي تنبع ، عضويا ، من كامل مفهوم يونغ ، تكون مهمة للأستيتيكا المعاصرة. والملاحظ أن كبار معلمي الإنسانية أمثال غاندي وتولستوي قد عاملوا بهذا الشكل الظاهرة الفنية أي مجال تكوين الشخصية. وقال المهاتما غاندي : بالنسبة لي لايقدّم الجانب الخارجي أيّ قيمة على الإطلاق عدا حالة واحدة وهي حين يقوم بمساعدة الداخل. وفي كل فن حقيقي يتم التعبيرعن النفس.
بإعتقادي أن يونغ وتولستوي قادران على تكرار هذا الراي.
وليس الفنان وحده يتوجه صوب اللاوعي الجماعي حين يخلق عمله. فالمتلقي لايكرر بشكل ما ، عملية الإلتزام النفسي ذاتها ، إذ أنه يتلقى الفن حدسيا قبل كل شيء، و يرى فيه النماذج الأولية للاوعي الجماعي. ويقف كلاهما امامه عند التعامل مع العمل الفني الرمزي وليس كفرد بل كممثل للبشرية كلها. فالأنا الفردية تختفي كي تفسح المكان لنشاط اللاوعي بنماذجه الأولية. ولايخبر الفن الرمزي عن النفس ( كما هو الحال في الفن البسيكولوجي ) بل يستفزها من أجل أن تتسامى فيما بعد.
أكيد أن يونغ قد قدّم بنظريته الشهادة على الفلسفة الحديثة ، حين تكلم عن الإنسان الذي يكون بدوره الإشكالية الأهم في الفكر الحديث.

By

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *