الأثنين. نوفمبر 17th, 2025
الرقة بوست

                                                               القتلُ.. والقتلُ مُصَوَّراً

مدير التحرير

أفترضُ بدايةً أنّ جريمةَ القتل “العادية”؛ (وأعني بالعادية تلك الجريمةَ التي لم يحْفِلْ مُرْتَكبها بتوثيقها من خلال الصورة)، ذاتُ فارقٍ نوعي تختلف في بنيتها الجرمية عن نظيرتها الجريمة الثانية التي تم توثيقها عن سابق إصرار وعمد بالتصوير، وفي مسوغات هذه الجريمة الأخيرة، لا فارقَ ذا أهمية أن تكون الصورة ثابتة أو فيلمية على شكل(فيديو).. هنا لابدّ أن نُثبِتَ مضطرين، حُكمَ قيمة على الجريمة من النوع الأول، بأنها لا تقومُ إلا بكيانين مترابطين سببياً، ومُستَقلَّيْن من حيث الموضوع: فالجريمة نفسُها هي كيانٌ حيٌ في الطبيعة، وأسبابها التي أنتجتها هي كيانٌ آخرٌ يمتلك كامل الإستقلال عنها.. وهذا ما يجعلُ حكمَ القيمة على الجريمة يعلو ويهبط في مضمونه، مختلفاً باختلاف أسبابها، والتي يبدأ خَطُّها التصاعدي من القتل الخطأ، ثم القتل الاعتباطي غير المقصود، والقتل ذي الدوافع المختلفة وصولاً إلى القتل العمد المُخَطَطِ له.. وهي في كل هذه المراحل ومستتبعاتها القانونية والأخلاقية، إنما تختلف اختلافاً بَيِّنَاً وجوهرياً عن سياق النوع الثاني؛ وأعني به القتل المترافق مع سبق توثيقي بالتصوير والفيديو.. ذلك لأن هذا النوع الثاني من الجرائم، هو حالة من جريمة “طقوسية”؛ جريمة تكادُ تُكَوِّنُ لنفسِها ديناً خاصاً بها، وما القتلُ في هذه الحالة إلا “شعيرة” من شعائر ذلك الدين النفسي الطابع، المغلق وغير المكتشف بوضوح حتى في وعي مرتكبه.. وتتفارق هذه الجريمة عن سياق الجرائم من النوع الأول في خاصتين أساسيتين:

الأولى: إن هذا النوع من الجرائم، عادةً لايمنحُهُ الدافع الجرمي قيمة خاصة مستقلة، قيمة استتباعية أو سببية، بل أحياناً يمكنُ أن يُمَارَسَ دون سبب أو دافع، وغالباً لا يملكُ القاتلُ أيةَ فكرةٍ أو معرفة مسبقة بالمقتول، ولا يحملُ حقداً خاصاً أو ضغينة معينة لضحيته، وربما كانت المعرفة المسبقة والأسباب الحاثة على القتل هي تفاصيلَ صغيرةً معدومة الأهمية في نظر القاتل، فالعلاقة العاطفية بينهما تشبه علاقة صياد الطرائد بمقتل طريدته، أو صياد الأسماك بموت سمكته..

الثانية: إن قيمة الجريمة وثقلَ أهميتها، لا يكمنُ في فعل القتل نفسه، بل في صورته التوثيقية، والحرص على أن يبقى للصورة مفعول الأثر التأبيدي.. فالصورة(أو شريط الفيديو)، ومن حيثُ هو استعراض طقسي(أمام الله أو أمام الناس، لا فرق)، يدخل في الأبد الخاص والديمومة اللانهائية التي يريدها القاتل.. وهنا يمكن وصف الجريمة نفسها بأنها حادثة لاقيمة لها من وجهة نظر القاتل، وقد تحولت إلى فعل رمزي يَثقُلُ محتواه أو قيمة مضمونه بما يستطيع أن يختزنَ من رمزيته الصِرفة، وكلُّ مضمونهِ ينصرفُ إلى قيمة طقسيته الجاذبة.

العلاقة إذن بين القاتل وجريمته هي علاقة(إسقاطية)، تسعى لاستحضار مضامين غائبة في طبقات اللاوعي العميق، ولو أن (الصورة المُوثِّقة للفعل) لم تحدث أو تَحْضُر أو تتيسر في لحظة الجريمة، لتحولت الجريمة إلى فعل عابرلا تأثير له ولا قيمة في نظر مرتكبه، شأنه شأن أي سلوك اعتيادي يتبخر من الذاكرة بعد دقائق، بل إن القاتل، وحتى لو قُيِّضَ له ارتكابَ مائتي جريمة افتراضاً في اليوم، دون أن توثقها الأفلام والصور، فإنها ستمر معدومة الأثر أوالرجع الطقسي، والذي هو قريب من عبادة غامضة يتوجه بها القاتل بإسقاطاته العبادية نحو تلك الرمزية المذخورة في الخافية أو اللا شعورالعميق، دون معرفة الجهة التي يتوجه إليها بتلك العبادة.

يُحيلنا هذا النزوع الطقوسي الدموي الذي يشابه الإحتفالات في الأعياد إلى الحقبة الطوطمية من عمر الإنسان، والتي يقدرها العلماء بآلاف السنين الغابرة في التاريخ، وربما لاتزال لها شواهدُ وآثارٌ حية حتى يومنا هذا، حيث كانت أولى استشعارات التعبد البدائي تتجه بالإنسان/القبيلة، إلى الإحتفال في موسم خاص متعين كل سنة بتمجيد وبذل كل أشكال القداسة لحيوان مقدس أو نبات ما، وحيث يتم في نهاية الإحتفال ذبح الحيوان على مشهد من جميع أفراد القبيلة، والذبح المشاهَد من قبل الجميع هو معنى توثيق اللحظة المجيدة وتأبيدها بدلاً من تصويرها في العصر الحاضر، وتلطيخ أجساد المحتفلين بدمائه ثم الشروع في أكله والتبرك بمناولة لحمه للجميع{للتوسع في الموضوع يراجع كتاب” الطوطم والتابو” لفرويد}.

هذه النسخة الإحتفالية الطوطمية الطابع للقتل، والإشادة بذلك القتل وتخليده عن طريق تأبيد ذكراه بالتصوير، مع مايرافق ذلك التصوير من زهو وخيلاء، هو عكس وتوجيه للطاقة النفسية الإنسانية نحو الداخل اللاشعوري العميق، والتماهي مع رموز ذلك القاع اللاشعوري المليء برموز الخافية الباطنية، وانفصالٌ بالكلية عن الوعي وعالم المحسوسات المتمايزة العاقلة.. نحن نتعرف بالتجربة الملاحظة على عالم الطفل؛ بوصفه أكثر الكائنات تماسَّاً برمزية مدركات البدائيين، وتحرراً من الواقع الكابت والكابح والمليء بالمحظورات، وكيف أن الطفل حين يستظهر لحظة مجد خاصة به، يشعر من خلالها بالنشوة والإعتزاز، ويسعى جاهداً لتوثيقها والتوكيد على خلودها من خلال لفت أنظار المحيطين به.. كأن يصعد فوق سور المنزل أو يتدلى من شجرة أو ينجح في سواقة دراجته لأول مرة، وكيف يصيح بوالديه: ” ماما .. بابا انظرا إلى ما أفعل”، فاذا علمنا بأن الطفل يدمج سلوكه بوعيه الباطن دون أن يمايز ذلك الوعي أو يهتم كثيراً للقوى والقيم الإجتماعية المانعة والمحذرة والمستهجنة، فإنه بهذه الميزة يتصرف كالبدائي تماماً، إذ لم تكن الأقوام الهمجية والمتوحشة في غور التاريخ وعمقه البعيد، تسلك في استلهاماتها إزاء الطبيعة أكثر مما يسلكه الأطفال اليوم.. وبهذا المعنى، فإن توثيق القتل عبر تصويره ماهو أكثر من نزعة للتحرر من العقل والمجتمع وأعباء الحضارة، واحتجاج ضد الإنسانية  المنظمة والعاقلة، والعود الى تلك اللحظة الجنينية الساكنة التي تختلط فيها معاني الموجودات المتمايزة حتى تفقد ذلك التمايز وتتحلل من عبئه المتصل والمحكوم بالوعي مباشرة ـ كالحلم تماماً ـ فلايبقى لشيء معنى، ولايبقى للأخلاق فرادة وتميز إنساني خاص، بحيث تصبح الغرائبيات هي طبعة الحياة النموذجية، وسواها من قيم العقل والمعرفة والأخلاق قيم مقتحمة ومقلقة لذلك السكون البدائي الحيواني الخام.

By

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *