الثلاثاء. نوفمبر 11th, 2025

مازن عزي

تنظيم “القاعدة”، بتبريره السماح لـ”جبهة النصرة” فك الارتباط معه، وما تبع ذلك من إعلان أمير “النصرة” أبو الفاتح الجولاني تشكيل تكوين جديد باسم “جبهة فتح الشام”، خطا خطوة علنية أولى، من تبني العدمية باتجاه السياسة. فلأول مرة منذ تأسيس “القاعدة”، يظهر أن التنظيم راغب في دخول منظومة العلاقات السياسية في العالم؛ انتقال من الخروج على النظام العالمي، إلى قبول باشتراطاته.

ورغم الرد الأميركي السريع، وعلى غير العادة، من قبل ثلاث جهات رسمية، حملت تشكيكاً بإعادة التموضع بين “النصرة” و”القاعدة”، إلا أن العلاقة الجديدة بين “القاعدة” و”النصرة” قد تُعيد إلى الأذهان، العلاقة بين “الحرس الثوري” الإيراني و”حزب الله”. فـ”الحرس” تمكن من تحويل “حزب الله” من منظمة إرهابية إلى لاعب سياسي في لبنان، وجيش إقليمي يقاتل “الإرهاب السنّي” في المشرق. كما أن تهديد صواريخ “حزب الله” لإسرائيل، استخدمته إيران، كورقة تفاوض مع الغرب في إطار انجاز الاتفاق النووي، وإنهاء عزلة إيران الدولية.

فما الذي يمنع “القاعدة” من تحويل “النصرة” إلى شريك في مقاتلة “الإرهاب الداعشي”؟ فـ”النصرة” هي الأقدر على استقطاب المجتمعات السنّية لمواجهة “الدولة الإسلامية” وسط الـ”براغماتية” الجديدة التي تشهرها “القاعدة”. فإعلان “فك الارتباط” يُشير إلى أن “القاعدة” ترغب في الاستثمار بـ”جبهة فتح الشام” لانجاز تحولها من متخارجة مع المنظومة الدولية، إلى عضو فيها.

التحول الذي طرأ على تفكير قيادة “القاعدة”، وحرصها على استمرارية “الجهاد” في الشام، هو حصيلة مخاض طويل من النكسات التي عاشتها “القاعدة” بعد هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001. وتكشف مراسلات زعيم التنظيم السابق، أسامة بن لادن، مع فروع “القاعدة” في العالم، استياءه المتواصل من تعجيل تلك الفروع إعلان انتمائها لـ”القاعدة” وتأسيس إمارات في مناطق سيطرتها. فابن لادن كان دائماً في موقع المتخوف من تنفير المجتمعات المحلية، والغلو في تفسير وتطبيق حدود الشريعة الإسلامية. الأمر الذي اتضح في مراسلاته مع فروع “القاعدة” في اليمن والعراق بشكل رئيس. عصيان أبو مصعب الزرقاوي، لإرادة بن لادن في عدم استهداف شيعة العراق، ولاحقاً رفض أبو عمر البغدادي الرد على مراسلات زعيم “القاعدة” أيمن الظواهري، كان مصدر احباط للشيخ المعزول في جبال أفغانستان، وفي الوقت ذاته بداية لتضعضع “القاعدة”، ونهاية مركزيتها.

مع بروز “قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين”، بعدما بايع الزرقاوي، بن لادن، ثم تحولها بعد خلافهما إلى “مجلس شورى المُجاهدين” الذي اضمحلّ نفوذه في أواخر العام 2008، بدا أن رأي المركز كان أكثر صواباً من وكيله المحلي، بعد مشاركة الصحوات السنّية في القضاء على التنظيم في المدن العراقية الكبرى.

الثورة السورية وما أحدثته من إعادة خلط لأوراق السلفية الجهادية، كانت فرصة لا تعوض لأبي بكر البغدادي في استعادة الأنفاس. إلا أن إعلان “الدولة الإسلامية” شكّل فعلياً نهاية العلاقة الشكلية المتبقية مع تنظيم “القاعدة” التي ترى في إقامة “الدولة” تحدياً صريحاً من الفرع للمركز، واجتهاداً مغلوطاً ينتقص من شرعيتها. الخلاف تواصل وامتد بين الطرفين، وانقلب حرباً علنية، مع رفض الجولاني أمير “النصرة”، مبايعة البغدادي “خليفة المسلمين”، مطلع العام 2014، وطلبه التحكيم والفصل بين التنظيمين، من زعيم “القاعدة” أيمن الظواهري.

الظواهري ورث تنظيماً مفككاً عن بن لادن، كما ورث خيباته من فرع “القاعدة” في العراق، وأظهر مقداراً من التردد والضعف في مواجهة القضايا الإشكالية. ومع كل ضعفه، طلب الظواهري من البغدادي الإلتزام بالعراق، معتبراً “جبهة النصرة” الابن البار لـ”القاعدة”، على عكس ابنها العاق “الدولة الإسلامية”.

إعلان “الدولة الإسلامية” وبعدها “الخلافة” كان بداية التحول في تفكير قيادة “القاعدة”؛ فما أُجبِرَت على ابتلاعه غصباً، بدا وإنها قادرة على تقيؤه. وهكذا بدأت الحرب بين “الدولة” والنصرة” في سوريا، على الأرض، وبغرض كسب الحاضنة السنّية.

كما أن خلافاً عقائدياً بدأ يتبلور بين “القاعدة” عموماً وبين “الدولة الإسلامية”. وشكّل ذلك مصدر تحدٍّ خطير لـ”القاعدة”، مع ازدياد وهج “الدولة” واستقطابها المهاجرين من أنحاء الأرض، ومبايعة فروع “القاعدة” في العالم لـ”الدولة” و”الخليفة”. صعود “الدولة” على يمين “القاعدة” مثّل نقطة الضعف الرئيسة لها، وسحب من تحت أقدامها صيتها بين أنصار “السلفية الجهادية”. وظلت “الدولة” مصدر التهديد لـ”النصرة”، نتيجة وجود صقور في “النصرة”، ظلوا مشدودين إلى “الدولة”. الإنشقاقات توالت في “النصرة”، وبايعت جماعات منها، “الدولة”، خلال العامين الماضيين، وانقلب إخوة المنهج أعداء، في الكثير من الحالات.

وتحمل “الدولة الإسلامية” تناقضاً تأسيسياً أولياً: ففي حين تعلن ذاتها “دولة” لها جغرافية وهيكيلة إدارات وأجهزة، إلا أنها تُعلي من لحظة خلاصية تتمثل في نهاية العالم: “القيامة”. تناقض بين السعي “الدنيوي” في الأرض، وبين النزوع إلى “الماورائي” عبر استعجال “يوم الحساب”. الإقامة في البرزخ بين الحياة والموت، هو الحلّ الذي تُقدّمه “الدولة الإسلامية” لمريديها؛ فالعالم على وشك النهاية، وعبور هذا الخط الواهي، هو انتقال من دار الفناء إلى دار البقاء. هنا تنتفي السياسة لصالح العقيدة، ويكاد يصعبُ العثور على مبررات سياسية للعمليات الإرهابية التي تتبناها “الدولة الإسلامية” في أصقاع الأرض. وإقامة “الخلافة” في هذا السياق كانت تحقيقاً لشرط “نبوئي” يربط نهاية الأزمان بعودتها، وهو أحد أهم الخلافات العقائدية مع قيادة “القاعدة” السابقة والحالية.

التناقض التأسيسي لدى “الدولة”، حمل للمنظمة الأم “القاعدة”، فرصة للتمايز، عبر “جبهة النصرة”. استدارة من العدمية إلى السياسة. من رفضها المنظومة العالمية، إلى إعلان الرغبة بالدخول فيها. فعرضت “النصرة”، على لسان ناطقها الرسمي أبو عمار الشامي، قبل أيام، عدم الرغبة في استهداف الغرب، والتركيز على “الجهاد الشامي” المحلي. بالنسبة إلى “جبهة النصرة”، العدو على الأرض، لا خلف البحار.

ونقطة الضعف لدى “النصرة” أمام “الدولة”، في احتكار “الدولة” مشروعية “السلفية الجهادية” لمجابهة العالم، كانت قد تحولت إلى فرصة لـ”القاعدة” في سوريا، اعتمدته في إعلان فك الارتباط، بالانتقال من “جهاد النخبة” إلى “جهاد الأمة”. وكانت “القاعدة” قد دعمت عبر “جبهة النصرة”، تمكين المجتمعات السنيّة السورية، والتدرج في فرض الشريعة، والدخول في تحالفات مع بقية الفصائل الإسلامية ولو أن بعضها غير منتمٍ لتيار “الجهادية السلفية”. تجربة ليست بالوردية، في ظل غلو قياديي “النصرة” وتطرفهم، ورفضهم في معظم الحالات الاستماع للمجتمعات السنية السورية، وحروب إلغائهم لفصائل الجيش الحر المدعومة غربياً.

الخلاف بين “الدولة” و”القاعدة” ساهم في إعادة تموضع الأخيرة، وبحثها عن فرصة للاستمرار من خلال “النصرة”. ومع إعلان التوافق الروسي-الأميركي، على استهداف “النصرة”، جاءت اللحظة الحاسمة، التضحية الكبيرة: فك الارتباط.

اللافت كان في الكلمة الصوتية لنائب الظواهري، أبو الخير، الذي اقتبس مقطعاً للظواهري يدعم فيه مجاهدي الشام “في مواجهة عدوكم العلماني الطائفي الذي تدعمه القوى العلمانية الرافضية الصفوية روسيا والصين وتتواطأ معه الحملة الصليبية المعاصرة”. إغفال صريح لذكر أميركا بالاسم، كمؤشر ترسله “القاعدة” عن رغبتها في التنازل.

ولكن، ألا يُمكن أن يكون فك الارتباط، نكوصاً عن التناقض التأسيسي لـ”الدولة”، وعودة من خط الموت إلى الحياة، كاعتذار ضمني عن تأخر ظهور “المهدي” وتأجيل “المعركة الختامية”.. أو ربما تقديم “القاعدة” ذاتها كأضحية مقابل نجاة “النصرة”، كأن يُضحي إبراهيم بذاته فداء ابنه، عسى كبش “الدولة” يظهر من الصحراء؟

المدن

By

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *