خلف الجربوع –
منذ ثلاث سنوات كتبت مقالاً، حول الفوضى الخلّاقة، وإدارة التوحش، حذرتُ فيه الجميع من مخاطر تجربة انتاج مسخ في منطقة رخوة «الرقة»، وجعلها بؤرة توحش، لكنها كانت صرخة تحذير لم يستمع أحد لها، لأن الاحتفال بالمولود الجديد طغى صخبه على كل الأصوات الأخرى.
واليوم بعد نضوج التجربة، والتسهيلات الكبيرة التي رافقت النمو السرطاني لهذا المخلوق المسخ، وتغذيته بالموارد بشكل مفرط، والسهولة في تصدر أخباره للميديا العالمية، وتعويمه كنجم، وكذلك في تنقل أولاده عبر الحدود الدولية، مما يوحي للوهلة الأولى بانفلات عقال المسخ وفقدان السيطرة عليه من قبل المشاركين في تصنيعه، لذلك يحاول أصحاب الأسهم الكبيرة السيطرة على حركته وإدارتها، وذلك بتطويقه مكانياً، عبر سلسلة من التدابير الأمنية والعسكرية، أو الاتفاقات البينية.
أعتقد أن الصعوبات الموضوعية تواجه محاولة بناء فهم، ورأي يمكن الركون إليه محفوف بمخاطر الانزلاق في نظرية المؤامرة، والاشتهائية في التحليل، بسبب صعوبة الوصول إلى معلومات وثيقة، وسرية وتعقيدات خطط التطويق والسيطرة، وآليات الإدارة، أو بسبب تناقض مصالح المساهمين الكبار، وبالتالي سيكون التحليل مجرد تفكيك وصفي للحالة. أعتقد أن المتتبع للمراحل التصنيعية للمخلوق الهجين، قد بدأت بشكل مبكر منذ الاحتلال الروسي لأفغانستان، في الدوائر الأمريكية والأوربية، وتطور بمساعدة إيرانية وسورية وروسية في مرحلة احتلال أمريكا للعراق، ومع انطلاقة ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي، اتفقت الدول المساهمة في التصنيع والتطوير على تجميع كل القطع وإنتاج المخلوق الجديد «المسخ» كي تحمي مصالحها المهددة بالخيارات الوطنية في المنطقة، ومن أجل توفير البيئة المناسبة لإعادة هيكلة الشرق الأوسط الجديد بما يخدم هذه المصالح واستقرارها، فكانت النواة الصلبة التي رُكبت عليها القطع مؤلفة من وكلاء (مجلس شورى) المصنعين للإشراف على جودة التركيب وأداء هذه القطع، وعلى رأسها مدير تنفيذي توافقي (الخليفة)، حيث اعتمدت العقيدة السلفية الجهادية، أيدلوجية دولة المخلوق المسخ وعقيدته القتالية، باعتبارها تمثل الإسلام «السني» المهزوم، الذي يهدف إلى الانتقام والثأر من الحداثة وممثليها.
وهذا تطلب من الشركاء دعم نشوء مدارات حارسة للثقب الأسود، كي تكبح جموحات بعض القادة الميدانيين المحليين لمجموعات تعتبر من الأدوات التنفيذية في تشكيلات القوة، التي تحت إمرة المسخ، ويمكننا الإشارة ببساطة إلى ثلاثة مدارات رئيسية (1- المدار الدولي – 2 –المدار الإقليمي – 3- المدار المحلي) على الرغم من تداخل هذه المدارات، وتصادم عناصرها في المدار الواحد، أو المدارات الأخرى، في حركة معقدة ومركبة تعكس صراعات، وتوافقات تدور في غرف التفاوض الدولي المغلقة، بحيث تؤدي القوى المُشكلة لهذه المدارات مهامها في ضبط وتقدير حركة المسخ، كي لا يتجاوز المرسوم إلا بهوامش يمكن إدارتها وإيجاد ما يناسبها في النسق العام لمشروع الشرق الأوسط الجديد أو الكبير، كمحصلة لنجاح الخطة الإستراتيجية في إعادة هيكلته، وتقاسم النفوذ والمصالح والأدوار في إدارته للمئة سنة القادمة، ومحصلة أيضاً لجميع العوامل المتوقعة، وغير المتوقعة التي تتداخل في النجاح، كعامل صعود اليمين في الدول الغربية وأمريكا، وتوظيفه كضرورة، على الرغم من الطروحات غير المتوقعة لهذا اليمين كتصريحات ترامب ضد المسلمين والملونين، وتيريزا ماي حول استخدام النووي، وبوتين حول قدسية الحرب ضد الإسلام «السني» وحماية المسيحية المشرقية.
لقد استطاع المساهمون الكبار في تمرير الرسائل المشفرة، عبر الميديا التي ترتبط برأس مال الشركات العابرة للقارات، في إعادة توكيد مفاهيم نمطية سابقة، معززة بقوة الصورة وسطوة تأثيرها على المتلقي، من خلال إصدارات هوليوودية، وتبني ميديا المسخ للأعمال الإجرامية الفردية أين ما وقعت، مما ساعد الميديا العالمية، وحكومات دول في تكريس هذه الأعمال، وسهل نقلها من التوصيف الجنائي المحض إلى التوصيف الجنائي الإرهابي، والذي يخدم تكريس مفهوم نمطي جديد يشيطن فريق إسلامي «السنة» من دون الفرق الأخرى التي ارتبط العنف الإرهابي بتاريخ نشوئها، واعتبار هذا الفريق «السنة» العدو الأول للحضارة المعاصرة ومنجزاتها، وأنه صاحب مشروع ظلامي قاتل للآخر المختلف، استدعى التاريخ كي ينتقم، ويبني إمبراطورية الشر.
لا شك أن الميديا قد جردت السوريين «السنة» من أحد أهم الأسلحة التي يمتلكها (الأغلبية الاجتماعية المعتدلة والضامنة لوحدة المجتمع السوري وأرضه)، هذا السلاح الذي كان وسيكون العامل الكابح والمانع لانزلاق «الأغلبية السنية» إلى داخل الثقب الأسود (دولة المسخ) كخيار مقاوم للفناء، مما أضعف تعدد خيارات «السنة» المقاومة للفناء، وحصرها في ثلاثة خيارات أحسنها مر، أولها خيار عبور الحدود الدولية والسير في طريق اللجوء وتعقيداته، والثاني الاستسلام غير المشروط من أجل ترتيب خارطة المصالح الدولية النهائية في الشرق الأوسط الجديد، والذي ستنسحب نتائجه، وتؤثر على خارطة المصالح للدول العظمى في مناطق جغرافية أخرى من العالم، والثالث النزوح الداخلي باتجاه الثقب الأسود، أو استدعاء ممثلي دولة المسخ للتوسع في مناطقهم.
لكن خارطة المصالح الدولية النهائية تواجه معوقات كثيرة في المنطقة، وحول العالم «روسيا على سبيل المثال تريد ترتيبات واتفاقات حول بؤر أخرى تتنازع مصالحها مع مصالح اللاعبين الآخرين، مقابل ترتيبات في المنطقة»، لذلك نجد الإرادات التي أنتجت المسخ السني في المنطقة في حالة صراع عنيف على الأرض، مترافقاً مع مفاوضات دائمة، ويومية لتقييم نتائج هذا الصراع على الترتيبات النهائية، وأن هذا الصراع قد تبلور في شكل دوائر نفوذ وتوجيه وإدارة القوى التنفيذية للمدارات الحارسة للثقب الأسود ومسخه، وكل منها يلعب بورقة الإرهاب، وسبل القضاء عليه على المستوى الإعلامي، وفي غرف التفاوض المغلقة تبرز ورقة المسخ كورقة ضغط على اللاعب (اللاعبين) الآخر، وقدرة هذا الطرف أو ذاك في توجيه ضربات المسخ وتمدده على مستوى العالم، مسلحاً بقدرته على التأثير بمقدار امتلاكه من أسهم من أصول شركة المسخ الدولية للقتل بوصفها شركة دولية مساهمة، (دولة محمولة على سيارات دفع رباعي).
لا شك أن الصراع على الأرض، لم يعد صراعاً بالوكالة كما بدايته، لأن الأصلاء يدركون أن خارطة المصالح يجب أن يثبتها جنودهم في المرحلة الأولى، إلى حين إعداد حراس جدد مدربين على الحماية بشكل فعّال، ومُسيطر على إداراتهم بشكل غير قابل للعكس، ولأن المدارات التي صنعوها، ودعموا حركتها كي تحرس الثقب الأسود والمسخ القابع فيه، لم تعد قادرة على ضبط حركة المسخ في تنقله، أو تمدده في جغرافية جديدة، واستحواذه على موارد جديدة بشرية كانت أم مادية، أو لأنه قد بدأ التخوف من أن يفكر بعض القادة الوكلاء بالاستقلال بسبب امتلاكهم للقوة، وقدرتهم على استخدامها.