إبراهيم العلوش
نحن مواليد السبعينات وما قبلها، من منا ينسى العقيد عزيز قائد ما يسمى مفرزة الأمن العسكري بالرقة، والذي لم تنجُ من وحشيته عائلة رقاوية واحدة، سواء كان أحد أفراد العائلة معارضاً، أو غير معارض، أو حتى لو كان مخبراً؟!
لابد لكل رقاوي من التصنيف وفق جدول العقيد عزيز، الذي ابتكره علي دوبا في تصنيف الشعب السوري كله: عميل اسرائيلي، بعث عراقي، يمين عفن، يمين قذر، مجرم اخونجي، يسار منحرف، حيادي، حيادي إيجابي، صعودا في جدول التصنيف إلى المؤيدين، بعثي سلبي، بعثي نشيط… حتى الوصول إلى فئات المخبرين الذين كانوا يتورطون بالقذارة باسم مندوبين أو كتاب تقارير دوريّة وغير دوريّة!
كان العقيد عزيز كما يشهد الكثيرون من ضحاياه الذين يعدون بالآلاف، كائن هلامي ينوس بين كونه بشراً، أو مجرد كائن بدائي من نوع الخفاشيات، أو من ماصات الدماء، تم تأهيله لهدر كرامة مدينة كاملة بحضرها وبريفييها، بمثقفيها وبمتدينيها، يالكبار وبالصغار مهما كان منبتهم ومهما كانت مكانتهم .
وعبر ربع قرن من التلذذ بفنون الاستدعاء، والإذلال، والاعتقال، والتعذيب الذي كان يمارسه بنفسه- أحياناً- حيث كان يمتلك في مكتبه كرباجاً فاخراً، طالما ذاقت جلود بعض أبناء الرقة لسعاته، أو كان يتلذذ بوضعهم في الكرسي الألماني بنفسه، وبكل ما امتلكت تلك النفس من حقد ومن سادية، لا تمتلكها حتى الكلاب المكلوبة!
من مزايا العقيد عزيز أنه دائم الكَلَب طوال ساعات اليوم والأسبوع (24/7)، ومتقد القريحة على التحقير، والتنظير في مزايا القيادة الحكيمة، وتوجهاتها الوطنية التعذيبية التي تأخذ مصلحة الوطن، وقائد الوطن، بعين الاعتبار وتجعل من المواطن مجرد بقرة حلوب للرشاوي، والهدايا، والتبجيل المذل.
وكان يتحول إلى الاستدعاء، ومن ثم إلى الاعتقال إذا انتهى سيل العطايا الواجبة للقيادتين القومية والقطرية، أو إذا خف مديح سيد الوطن الذي حول القيادتين، وبلد القيادتين إلى سجن كبير لا تتردد فيه إلا أنّات التعذيب، والإذلال والخوف في كل جنباته.
فالعقيد عزيز كان يقود، ويدير شبكة من المخبرين، الذين وصل عددهم في أواخر أيامه إلى ثلاثين ألف مخبر، كما صرح لخلصائه. لكن آلة الاذلال سرعان مالطمته وتخلصت منه بقرف، تماماً مثلما تتخلص البلدية من كلب مكلوب فطنت إليه فجأة، بعدما كان يعضّ الناس بنواجذه المسمومة طوال سنين سوداء أحرقت جزءاً طويلاً من تاريخ الرقة، وأنبتت نفوساً رباها على الحقد والشر في جيش من المخبرين الذين عملوا مع كل الجهات اللاحقة بما فيها داعش، التي تستبطن نهج العقيد عزيز وطرق اذلاله.
الكثيرون من عناصر وقادة داعش الرقاويين، هم ممن اعتقلهم العقيد عزيز، وعذّبهم، وتعلموا على يديه فنون الحقد المستعر طوال الساعات والأيام، فقد تخرجوا كضحايا، ولكنهم يتقنون فنون جلاديهم التي برعوا فيها، ونفذوها على أبناء الرقة من المعتقلين لدى داعش بكل الوحشية اللّازمة، لإنجاز ما تتطلبه أنفسهم السوداء من سادية، ووحشية أذهلت العالم وسحقت آلافاً من النفوس التي كانت تتوق إلى الحرية!
فأحد معتقلي العقيد عزيز، هو الداعشي أبو علي الشرعي، الذي قتل أكثر من أربعمائة من أهل الرقة ومن النازحين إليها، إذ كان يذبح بيديه، ويقتلع العيون بتلذذ بدائي فاق معلمه العقيد عزيز، وجعله مجرد جلاد متخلف أمام موجة التعذيب الجديدة من الاستبداد السارق للدين، وقد لامته لجنة تحقيق داخلية في داعش، إبان تنحيته مؤقتاً، بقتل مئة وعشرين شهيداً بلا سند شرعي من أصل الأربعمائة الذين يفاخر جلساؤه بقتلهم!! ولعل هؤلاء الجلساء كانوا نفس جلساء العقيد عزيز سابقاً!
وبعدها أعيد أبو علي الشرعي إلى منصب أخطر من منصبه السابق فصار مسؤول النقطة 11 ، نقطة الموت الداعشية، التي ورثت مفرزة الأمن العسكري بالرقة، وطوّرت وحشيتها بتقنيات مخابرات البعث العراقي التي بنت داعش وهندستها، بالإضافة إلى الوحشية المصبوغة بصباغ الدّين، وقد غاب فيها الكثيرون من أحبتنا، وأبنائنا الذين لم نعد نعرف عنهم شيئاً، ولم نعد نسمع عنهم خبراً.
وقد صاح تلميذ آخر للعقيد عزيز، والذي أصبح أحد جلادي داعش، في المعتقلين مرة في سجن المحافظة الداعشي، وهو يهيم في نشوة التعذيب:
“ماشفتم شي.. من اللي شفناه عند المخابرات العسكرية والجوية”!!!
وتخرّج على يدي العقيد عزيز البعض من المعارضين، الذين نسوا قيم الحرية والكرامة، وتجاهلوا الأهداف النبيلة التي سجنوا من أجلها، لينصرفوا إلى تقليد العقيد عزيز في طرق الحديث والاستزلام، وفي طرق الاتهام والتخوين، الذي تطور على أيديهم حتى كاد أن يوازي الطرق الداعشية!
وتورط بعضهم بالكثير من الفساد المالي، وقاموا باستغلال تضحيات الشهداء، والمعتقلين والناشطين الحقيقيين، والتسلق لدى المنظمات الدولية التي تدّر الدولارات، سواء في الائتلاف أو في الحكومة المؤقتة، أو في المنظمات الورقية المشبوهة بالنهب والسلب، أو الادّعاء بخدمة السوريين وتحفيظهم القرآن بفواتير خيالية!
العقيد عزيز بذرة سوداء راسخة في نفوس الكثير من ضحاياه، ونبتة خبيثة تنمو بين أضلع الكثيرين منا، ومالم نمتلك النزاهة، والشجاعة، والقدرة على الحسم في القضاء على هذه النبتة الشريرة، فستتكاثر في دواخلنا، وتنتشر أكثر فأكثر في محيطنا، وقد نوّرثها لأبنائنا لتحرق مستقبلهم، ومستقبل مدينتنا الرقة، وتجعله رماداً وسخاماً فوق مالحقها من ضيم.. تماماً كما فعل مجرمو التعذيب بسورية منذ الثمانينات حيث جعلوها محرقة دائمة الاشتعال، ودخانها الأسود يتعالى إلى السماء، مترافقاً برائحة نتنة، حولت بلادنا إلى مجرد خراب تسرح فيه الأحقاد، والانتقامات المتبادلة، في عودة سوداء لأيام داحس والغبراء!