وظيفة “داعش”
معبد الحسون
كلُّ جهدٍ إنساني صناعي السمة، يجب أن ينتهي إلى دلالة موضوعية يحملُها وتُعَرِّف الغرضَ أو الغاية منه.. السيارة وظيفتُها التنقل عبر المسافات البعيدة، وخلاط الفواكه لا عمل له إلا طحن الفاكهة وإحالتها إلى سوائل للشرب، والغسالة للغسيل.. وليس لهذه المصنوعات من واحدية الوظيفة إلا مايتعرفُه الناس عنها وعن قدرتها التصنيعية..الأمر نفسُه لايقتصرُ على المصنوع فحسب، بل على كامل العضوية البيولوجية في هذا الكون؛ فالقلب هوالقلب لأنه لا يُعْرَفُ إلا بهذه الوظيفة، والكبد والمعدة والجلد والدماغ..الخ.. كلها لها وظيفة، سواءٌ أَحَسُنَ شرطُ تحقُقِها أم فشل ولم يحسُن، وبعد ذلك لا عمل لها آخر في هذه الحياة ولا وظيفة.. فما هي وظيفة “داعش” في هذا الكون؟ وياله من سؤال يندرج تحت السهل الصعب، والبديهي الممتنع..!
لاغَروَ أن الذين صنعوا “داعش” كانوا شركة بما تحمله الكلمة من معنى؛ شركة لها خبراء ومهندسون ومسوقون ومحاسبون وعملاء تسويق وزبائن.. العالم كله بات يدرك هذه الحقائق وإن كان مايزال حتى اليوم عازفاً عن التفكر والتأمل فيها، والتوسع في بحثها بما فيه الكفاية، والعالم كله يعلم أن داعش/السلعة المصنعة، قد كلّف إنتاجها الكثيرَ من الأموال والجهد والتعبئة، كأية صناعة عالمية ثقيلة كبرى.. فما هي حصائد الربح الصناعي وما الجدوى المالية المنتظرة من هكذا صناعة؟ أفلو كان معمل صناعة “داعش” قد أنتج جرارات أو سيارات أو طائرات أوحفارات بترول.. لو أنه عمل على خطوط إنتاج غير هذا الخط الإنتاجي السيء الصيت، أما كان أجدى وأضمن ربحاً له، وأسهل تسويقاً وأحسن سمعة وعاقبة مآل..؟ والجواب فيما أخمن هو: لا..
إن “داعش” ليست صنعة محلية حتى تقارن بمنتجات وطنية كالسيارات والجرارات، ودافعو الضرائب والأموال هنا ليسوا مواطني بلدٍ واحدٍ كي يعترضوا على سياسات حكوماتهم ويسقطوا حزبهم الحاكم عبر صناديق الإنتخاب؛ تذمراً من هذا التبديد المالي المُكْلِف، والترف والنزيف الإقتصادي الذي لا يرونه مفيداً، لا لخزينة الدولة ولا لأي مشروع تنموي يحتملُه عقلٌ مفكرٌ أو متأمل . “داعش” تمت صناعَتُها في مصانع رأسمالية عالمية متوحشة، لكنها ذكية ومخططة واستشرافية، وساهم في تلك الصناعة شركات قابضة وكتلُ مالٍ جبارة متحركة عبرالقارات، ممسكة بالسياسة العالمية وبالدولة العالمية الواحدة التي تسمى في المصطلح الدارج بـ( العلمنة)، فهي ليست مملوكة لدولة ولا لمؤسسة دولية، ولا يتدخل صندوق النقد الدولي أو هيئة الأمم المتحدة أو مجلس الأمن فيها، ولا شأن لكل مؤسسات الحضارة الحديثة وإدارات الحرب والسلام الدولية بها . إذن لا رأي للجمهور الذي يدفع الضرائب بها، فهي لا تُمَثِّلُ دولة سيادية بعينها، ولا تحمل ماركة مسجلة ولا بلد التصنيع، ولا تنتمي، رسمياً وظاهراً، إلى مجموعة الثمانية الكبار ولا العشرين الكبار، بل ولا المائة والخمسين الكبار والمتوسطين والصغار.. إنها صدورٌ خفيٌّ من إصدارات هذه الحضارة ورأسمالها العالمي، الذي يميزها ويطبعها بطابعه، وبما أنها مشروع تسوية مناطق عبر القارات، وتلدين تضاريس خشنة، وزحزحة أفكار وتأسيس تصورات جديدة بغية العمل والبناء عليها، وتطويحٍ بأديان وطوائف قديمة، وسلب عقائد وبُنى تصور ثقافية قادمة من عمق التاريخ، وما زالت تعيشُه واقعاً مجتمعياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً، ولعلها ماتزال ترتع وتحيا في حماية مجتمعاتها الراكدة منذ آلاف السنين، فإن أحد أبرز أهداف الهيمنة الدولية تقتضي تطويف وتعويم كل ماهو راسبٌ ساكنٌ في قاع تلك المجتمعات المجهولة، وبعد ذلك يتم تجريف التاريخ والجغرافيا لصالح (كارتيلات) المال وكتله الكبرى، وإعادة إنتاج تلك الحمولة الراسبة في قاع التاريخ وقلب المجتمعات القديمة، وشفط كل ماهو متنحٍ وكامنٌ فيها.. إنها مشروع خلخلة بنى متصورة في الخيال المباشر،(وفي المخيال غيرالمباشر)، عن الإسلام وعن الشرق القديم، والثقافة الموجهة للتفكير والتصورات المقولبة للعادات والأفكار(لصالح دينٍ جديد ومعتقد عالمي جديد لا يُدرى ماهو)، خاصة في منطقة الشرق الأوسط، بحيث يتم طحن كل هذا القديم وإعادة إنتاجه وضخه في السوق العالمية مجدداً .
“داعش” إذن ملك التاريخ الحديث والمستقبلي، وملك الرأسمالية العالمية قبل كل شيء، وبطاقة التعريف بها صور الفيديو المذهلة اللامعقولة، وأخبار الميديا الإعلامية العالمية(الحقيقية والمفبركة)، والتي تكاد المُخَيّلة أن تعتقد للحظة أنها تبث أنباء معارك وحياة بشر وطبائع سلوكيات من كواكب المجموعة الشمسية أو ما هو أبعد منها قليلاً . لسنا اليوم في عصر شمشون الجبار ولا آخيل ولا الهكسوس ولا الإسكندر.. لاوجود للغرائبيات والسحر والغوامض التي تصنعها السينما للمتعة وإثارة الخيال في عالم اليوم الرصين والعقلاني، ولم تعد بابل وطيبة موجودتين، والقسطنطينية لاوجود لها إلا في بطون التاريخ والمتاحف، فهي بالتأكيد ليست اسطنبول الحديثة.. فكيف لو تم تداخل عالم الغرائبيات والغوامض مع السياسة والحدث اليومي المباشر وكأن ذاك اللامتوقع وغير المألوف قد استحال عادياً ويومياً وطبيعياً ومألوفاً؟ كيف ستصطدم الحضارة ببعضها بعد داعش؟ وكيف تتفاهم وتتحاور؟ وكيف سيُخْرِجُ الشرقُ من معطفه تلك الروحانية التي باهى بها العالم قروناً؟ وأين سيوضع الإسلام الذي أخرج للعالم ابن خلدون والجبرتي والخوارزمي والبيروني والشافعي وأبا حنيفة والآداب الرفيعة والطب والفلك والجغرافيا والفلسفة وعشرات العبقريات التي أنتجها.. والذي خلّف من الكتب والمعارف مايكفي لرصف كل محيطات العالم وتبليط بحاره بصفحات المعرفة.. كيف سيُنْظَرُ إلى ذلك الإسلام بعد داعش؟ ومن المستفيد من الصنعة والسلعة؟ وماذا لو قيل لنا بعد: هذا هو شرقكم.. وهذا إسلامكم.. وهذا بؤسكم وفقركم الوجودي والروحي.. وهذا ماأنتم عليه في الحقيقة.. بل هذا هو” أنتم أنفسكم”، في فذلكة النتيجة وخلاصة الحقيقة العارية.. لاشك أن المستفيد الوحيد هو المُصَنِّعُ الوحيد: قوة الرأسمال السياسي الدولي المتحكم بأقدار هذا العالم.. والذي وجّه رسالة قوية وخفية وسرية من خلال “داعش”، رسالة مُفادُها ومؤداها: كفّوا عن أن تتحدوني وأن تصروا على ما أنتم عليه، وهَلموا إلى ما أريدكم أن تكونوا وما سوف تصبحون عليه في المستقبل .
فهل وصلت الرسالة إلى الأفهام..؟