ابراهيم العلوش – الرقة بوست
لم يستطع البعثيون إيقاف الزمن، ولم يستطيعوا تطويع الشمس لتخضع لأوامر القائد الخالد، ولكنهم استطاعوا إيقاف الساعة في الرقة طوال خمسين سنة، وقد ظلت تلك الساعة متوقفة حتى استيلاء الدواعش عليها، حيث أنها صارت تدور إلى الخلف!
لقد نجحت جهود دزينة من محافظي الرقة، بالتعاون مع طوابير من المسؤولين، ومن لجان المبايعات والشراء، وبالاستعانة بأكداس من السجلات والمحاضر الرسمية، نجحوا في إيقاف ساعة الرقة، ومنعها من لحظ جريان الزمن، ومن تذكير الناس بمروره وبأهمية أعمالهم التي يمر عليها الوقت بلا انجاز!
تم بناء ساعة الرقة في الستينات، ووضعت في مكانها تحت نصب للعمال والفلاحين الذين يقفون وهم ينظرون باتجاه العاصمة، حيث ترقد القيادات القومية والقطرية، وقادة أجهزة الأمن، ولاحقاً حيث يرقد في معتقلاتها أبناؤهم الذين الصقت بهم مختلف أنواع التهم القاتلة!
ورغم أن البناء تم على شكل دوّار في ساحة المدينة، إلا أن ذلك الدوّار لم يقم بواجبه في تنظيم تقاطعات الطرق، وتخفيف مخاطر التصادم بين السيارات، فالتقاطع في مكان، وبناء الدوّار في مكان آخر! ناهيك عن أرضه المحدبة التي تثير الشعور بالانزلاق لدى المارة من متسوقين، ومن موردي المواد، ومن حاملات (سطول) و(جداري) الخاثر، والجبن، والحليب.. القادمات من القرى القريبة مع شروق الشمس.
كل محافظ جديد كان يطلق وعوده بحماسة وعنفوان، ويكون أول وعد له هو تشغيل ساعة الرقة.. فلا يُعقل أن تكون الرقة خارج الزمن الثوري الذي تقوده القيادات القومية والقطرية، ولا يعقل أن يسمع القائد –الضرورة، بأن الزمن متوقف في ساعة الرقة كل تلك السنوات والعقود التي سبقت مجيء المحافظ الجديد إلى هذه المدينة.
لكن المحافظ الجديد سرعان ما يتبسم بفرح وبغبطة، وهو يسمع رقم تكلفة الساعة السويسرية، التي يجب تركيبها لضبط الزمن في هذه المدينة النائية، والبائسة، حيث شاء القدر أن يُرفس إليها بدلاً من الذهاب إلى الوزارة، أو إلى قيادة أحد الأجهزة الأمنية التي تدرُّ ذهباً ودولارات امبريالية!
يبتسم المحافظ ويدلس المبلغ في جيبه مبقياً بعض الفُتات للجنة المبايعات، لتدبر حطاماً من الآلات التي تستطيع أن تشغل الساعة عدة أشهر، ريثما يعيد اغراق الناس بوعود جديدة، وبخطط سنويّة وخمسيّة، تمتد إلى يوم القيامة!
***
وبعد عشرين سنة من بناء دوار الساعة، أراد أحد المحافظين أن يبني دواراً جديداً، ليكون مكاناً لرفع تمثال القائد الخالد فيه، بعد أن عجزت عبقريته، وعبقريات مستشاريه عن ترقيع دوار الساعة الأعور، كما عجزوا عن تدوير الزمن في الساعة الواقفة بسخرية تثير الريبة بإنجازات الحركة التصحيحية (المباركة) حسب التعبير الإسلامي للأعياد- أو-التصحيح (المجيد) حسب النسخة المسيحية للأعياد!
لكن أحد الملاكين دفع مبلغ مائة ألف ليرة، ودحرج مكان تمثال القائد الخالد الى الغرب باتجاه المقصف سابقاً، و مبنى المحافظة لاحقاً، ومقر قيادات داعش أخيراً.. بعيداً عن أملاكه.
وصار المكان أيضاً أعور بتقاطعاته الخاطئة، التي أعيت منافقي الدوائر الرسمية وجلساء المحافظين عن ترقيعها.. وهو نفس الدوّار الذي تبوّل فيه حسون الطه على تمثال القائد البرونزي المحطم، متجاهلاً صفات القائد- الخالد، و القائد- الضرورة، وغير خائف من كراسيه الألمانية ولا من أقبيته السوداء!
ولا اعرف لماذا تخطر على بالي الحادثتين معاً كلما شاهدت فيديو تحطيم التمثال!
***
بعد نجاح البعثيين بإيقاف الزمن طوال نصف قرن، جاء الدواعش ووجدوا آلة الزمن المتوقفة، فأداروها إلى الخلف في محاولة مفجعة، للعودة إلى الزمن الأصولي المقدس، هاربين من الحاضر، ومن تحدياته، ومرارته التي ذاقوها سواء منهم الدواعش السوريين الذين كان البعض منهم معتقلين في أقبية وعنابر القائد- الضرورة، وتعلموا فيها أصول التعذيب والحقد، أو الأعضاء العراقيين الهاربين من بؤسهم، بعدما تم تقليعهم من أجهزة المخابرات بعد خلع صدام حسين-القائد الضرورة بنسخته البعثية العراقية- وتُركوا بلا مناصب وبلا تعذيب، وبلا قتل، بعد ادمان على سفك الدماء طال عقوداً!
ساعة الرقة أوقفت تدفق الزمن في ظلال البعث، وصارت تدور إلى الخلف في ظلال داعش، فهل سيأتي اليوم الذي تدور فيه هذه الساعة إلى المستقبل وإلى الفرح والبناء وإلى الحرية والخروج من أزمنة الاستعباد؟!
[…] الرقة وساعتها المتوقفة! […]