Views: 150 مفرخة الجحيم وتوائمه المتوالدة – الرقة بوست-Raqqa Post

مفرخة الجحيم وتوائمه المتوالدة

أتذكر اليوم، وأنا أفتش عن مثال دقيق مُسعِفٍ، يصف ما يجري على الأرض السورية، حالة كنا نعيشُها باستمرار في سجن تدمر العسكري، كواحدة من أنواع العذاب المتعدد الطرائق الذي يُمارس على السجناء وابتكاراته المتنوعة المتعددة، وذلك التجديد والابتكار المقصود كان له هدفٌ معين وغاية واحدة: يجب أن يُعذب السجينُ بشكل دائم ومتواصل، ولكن لا يجب أن يعتادَ عذابَه أو يتكيف معه ويتطبع به، حتى لا يفقد التعذيب ميزته وتتناقص آلامُهُ بالاعتياد والتكرار.. الفكرة إذن، ديناميكياً، صحيحة ومجربة ولها أبعاد نفسية وبيولوجية حصيلة تجارب وخبرات.

التعذيب النوعي الجديد كان مبتكراً وفريداً ومزدوج الغايات: كنا نؤمر بالخروج إلى الساحة الرئيسية للمهجع تحت مسمى “الخروج الى التنفس”، ثم يُطلب منا أن نقرفص جلوساً على رُكبنا، وأعيننا مغمضة ومخفوضة إلى الأرض، وبدلاً من أن يبدأ السجانُ ـ كعادته كل يوم ـ بحمل الكرباج وجلد كلِّ واحدٍ منا على حِدة، حتى ينتهي من الجميع، يجلس السجان على كرسيه بجانبنا، ويشرع في التدخين أو في سماع أغانيه من مُسَجّل أو ترانزيستور بيده، ثم يطلب من أول سجين في الصف أن يحمل الكرباج وأن يجلد السجين الثاني بكل قوته مائة جلدة على رأسه مثلاً أو على وجهه وعينيه، فإذا انتهت المائة جلدة سَلَّم الكرباج إلى المجلود ليبدأ بجلد الثالث، ثم يسلم الثالث للرابع، وهكذا حتى ينتهي المهجع كله من جلد بعضه بالتسلسل وبالتساوي.. بالطبع كان نصيب من يتحايل أو يخفف قبضته أو يتوانى في تنفيذ المهمة بالحذافير والدقة المأمور بها، أن يكون له استحقاق آخر وعقوبة اخرى، قد تضاعف عذابه خمسين ضعفاً، وبطرق مختلفة ومتنوعة فيما لو تبين أنه يتهرب أو يَضعُف أثناء تنفيذ المهمة..

هذا المثال الخصب والحي سوف يملي علي أن أسقطَه حرفياً على مايحدث اليوم في سوريا، وسوف أفترض بأن السجان هو أمريكا أو إسرائيل، أو ربما قوة وسلطة تفوقهما وتعلو عليهما، قوة الرأسمال العالمي الذي يمسك العالم أجمع، دولاً وحكوماتٍ وشعوباً، والذي يخطط لمصالحه ومراميه البعيدة في دوائره الخاصة ربما لخمسين عاماً أو لقرن قادمٍ من الزمن.. أما توائم السجناء الذين يَجلدون بعضهم بالتتابع وبالتسلسل المطلوب، فهم جميع من يقيم في هذا الشرق الأوسط من شعوب وحكومات ودولٍ وأقوام وطوائف،(ماعدا إسرائيل بالطبع)، لافرق بين كبيرها وصغيرها، ولا فرق فيها بين سوريا ومصر، ولابين روسيا وإيران وتركيا، ولا بين دول مجلس التعاون الخليجي وإفغانستان، ولا بين السنة والشيعة، ولا بين داعش وحزب الله، ولا بين فتح الشام والبكك ،ولا بين العرب والأكراد ولا المسيحيين والعلويين.. المهمة المزدوجة بدأت، وكلفة تنفيذها التي قد تقتضي سنوات طويلة ربما تصل إلى ربع قرن أو أكثر، سوف يدفعها السجناء، عفواً.. أقصد الدول الغنية والحليفة والمشاركة، فكلٌ له نصيبٌ من التنفيذ، وحصة مفروضة عليه من الإنفاقات، غالباً ما يتحمل النفط الخليجي عبء معظمها قبل أن يأتي الدور عليه وعلى شعوبه..

كل مافي الأمر إذن، أن سوريا ليست أكثر من كونها السجين الأول، أو المجلود الاول.. فإذا رأت إدارة “ترامب” أن تسلم الملف السوري لروسيا، فلا يعني هذا أن روسيا قد أصبحت شريكاً أساسياً أو فرعياً للولايات المتحدة، ولاهي بالتأكيد دائرة تسيير علاقات أو منظمة حكومية خاضعة للأمريكان.. وإذا كانت تتضامن مع نظام الأسد ضد الإرهابيين(حتى الآن لا نعلم من هم المقصودون بالإرهابين حسب الولايات المتحدة أو روسيا)، ثم تمولُ داعش سراً،(وهذا ماصرح به ترامب ضد كلينتون أثناء حملته الإنتخابية ولست أنا من يدعيه)، ثم لا تقترب من داعش أو تفعل شيئاً يستحق الإهتمام إزاءها خلال السنوات الثلاث الماضية، وإذا كانت تمول الـ(بكك) علناً، وتلعب لعبة قمار أخوية الطابع مع إيران، في شأن ملفها النووي، فـ(يزغل) هذا في اللعب قليلاً ويغش الآخر غشاً أبيضَ صافي النوايا، ويحتج ذاك عليه بمنتهى المودة المطلوبة لمتعة اللعب، وإذا بات جزءاً من قواعد اللعبة أن تدعم تشكيلاً عسكرياً للثوار (المعتدلين)، وأن تعمل على تفشيله بعد أسابيع أو أشهر، وإذا كان الأخوان المسلمون في مصر(فترة سقوط مبارك ونجاح مرسي)، هم أصدقاء وأعداء في نفس الوقت وضمن خطة واحدة.. وإذا كان حزب الله المقاوم والممانع لإسرائيل، والحشد الشعبي في العراق، وجميع القوى الإسلامية المسلحة على الأرض السورية والنظام والـ(بكك)، جميعهم أعداء بعض، لكنهم لايطلقون الرصاص إلا على المدنيين السوريين، ولا يهجرون أحداً في النهاية، أو يجرفون بيوت أحد غيرهم، فإن هذا يعني بكل صراحة ووضوح، أن الجميع قطع شطرنج، وظيفته على الرقعة محددة ومرسومة سلفاً، ونهايته فوق الرقعة أيضاً محددة ومرسومة سلفاً، وكل ما في الأمر أن المسألة مسألة وقت زمني، وبرنامج تنفيذي يسير قُدُماً نحو غاياته النهائية..

روسيا تخسر جنودها وتنفق ملياراتها على الأرض السورية، وإيران تخسر جنودها وملياراتها أيضاً على الارض السورية دون معنى، والخليج أنفق حتى الآن عشرات المليارات من أمواله على الملف السوري، بالطبع ليس لأنه مهتم بالسوريين لكونهم أهلاً ومسلمين وأخوة في العروبة، فأهل الخليج حتى اليوم لم يحتضنوا لاجئاً سورياً واحداً، ولم ينفقوا على الثورة السورية إلا لضرورات الفتنة وإفساد الثورة والثوار، ولم يطعموا أسرة سورية واحدة جائعة إلا بقدر ما تقتضيه أحياناً ضرورات بديهيات التلميع والاستعراض الإعلامي على شاشتي العربية والجزيرة، والأكراد ينزفون أبناءهم يومياً وهم واثقون كل الثقة أنهم باتوا مضحوكاً عليهم مثل غيرهم، بسرديات الحكم الذاتي وأسطورة الإستقلال وخرافات الحقوق التي يظنون أنهم أصبحوا يحصلون عليها في غمرة الفوضى، ومن خلال الخراب الكبير الشامل، ونظام الأسد والعلوية السياسية بشقيها العلوي والسني، ورديفها اليساري الطفيلي، وبعض الحركات القومية الشائخة الخرفة، باتت متأكدة اليوم أكثر من غيرها أنه لم يعد ثمة بلدٌ لتحكمه، ولا متاحٌ لها بعد اليوم أن(تمون)في هذا البلد على تغيير عناصر حاجز، أو نقل رئيس فرع أمني إلى فرع آخر إلا بأوامرعليا ليس بشار الأسد وسلطاته من ضمنها، ومع ذلك هي مازالت على عهدها في الحديث عن الإستقلال والقرار الوطني والسيادة، وكما التاجر المصاب بالسرطان وهومدنف على فراش الموت، يستقبل مودعيه ومشيعيه في ساعاته الأخيرة وهو يخطط بعدُ للمبيعات، ويرسل الايميلات والفاكسات، ويتزود بأسعار المناقصات وشروط البضائع والصفقات.

سوريا لم تعد دولة ولن تعود إلا في شروط أقرب إلى استقطاب فعل تاريخي معجز وغير متوقع الحدوث، والخليج وتركيا ومصر وباقي ماتبقى من بلاد الشام، وحتى إيران وروسيا ،كما أرى، جميعاً تسير نحو الكوارث التالية، وهي تستعد ـ أولا تستعد، لافرق ـ للنار الكبرى التي ستشتعل فيها أسوة بسوريا، ومن يعتقد من السوريين أن ما جرى ويجري على أرضهم وعلى شعبهم لأنهم مكروهون أكثر من غيرهم في نظر الآخرين فهو واهم، فذلك الوحش الذي يفتك لا يحب أحداً ولا يبغض أحداً، ولا هو متعاطف مع الشيعة ضد السنة ولا مع حزب الله والـ(بكك) ضد داعش، ولا هو يكره السوريين ويحب الأردنيين مثلاً، أويستلذ بعذابات السوريين وتهجيرهم وقتلهم واعتقالهم، بينما مبادئه وعواطفه ومقتضى خطته لن تسمح بأن يجري على اللبنانيين مستقبلاً ما جرى على سوريا وشعبها، وليست طهران وأنقرة وموسكو والقاهرة والرياض بأعز مكانة على قلبه، ولا هي بأحصنَ موضعاً من حلب، فالحريق لا يملك ميزة التفريق بين طاولة وكرسي، ولا بين كتاب مدرسي وكتاب مقدس، وقطع الشطرنج لا تملك الإرادة لكي يتبادل فيها الحصان والبيدق أدوارهما، أو يتعاون الشاه مع القلعة ويشتركا في مهمة واحدة.

للأسف، ليست هذه نظرة متشائمة للأمور، ولاهي نظرية مؤامرة كما قد يحسب كثيرون، لكنها الحقيقة والواقع الذي لا يريد أن يراه أحد لشدة قسوته وفظاعته التي تبعث على النكران، وهي المفرخة الجهنمية التي تفرخ توائم الموت والتدمير الذاتي، وهي ماتزال ـ وستظل لزمن طويل ـ تتناسل وتتوالد حتى يأتي عليها حينٌ من الدهر، يوماً ما، لاتكون فيه بلاد هذه المنطقة وشعوبها شيئاً مذكوراً.

معبد الحسون            17/12/2016

“خاص- الرقة بوست”


Posted

in

by

Tags:

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Translate »
best microsoft windows 10 home license key key windows 10 professional key windows 11 key windows 10 activate windows 10 windows 10 pro product key AI trading Best automated trading strategies Algorithmic Trading Protocol change crypto crypto swap exchange crypto mcafee anti-virus norton antivirus Nest Camera Best Wireless Home Security Systems norton antivirus Cloud file storage Online data storage