الرقة بوست – خاص
عروة المهاوش
كان أقصى ما يتمناه البقاء في فراشه الدافئ حتى تشرق الشمس، لكن عمله في رعاية الأغنام كانت تمنع هذا الحلم الصبياني، ينهض من فراشه متثاقلاً في مشيته وعينه ترقب إخوته النائمين، أصوات أنفاسهم وحرارتها تبعث نوعاً من الدفء في المكان، يتحامل على نفسه، وصوت والدته وهي تحضر له زوادته من الطعام والشراب، ينخر رأسه المتعب أصلاً قبل القيام بأي عمل.
حين وصوله أعلى التلة مع أغنامه يكون إخوته قد تناولوا إفطارهم وارتدوا ثياب المدرسة النظيفة قاصدين مدرستهم، التي تقع في وسط القرية. اهتمامه بالحمار والكلب الذي يرافقه يبدو واضحاً وجلياً، فحماره يحمله مسافات بعيدة وزوادته من الطعام والشراب أيضاً، بينما مهمة كلبه حماية الأغنام حين يغفو تحت ظل شجرة بعد أن ينال منه التعب.
حين كان يزور إخوته في المدينة بعد أن أصبحوا بمرحلة التعليم الثانوي، كان يقف مشدوهاً أمام حركة السيارات والناس وزحمة السير في مدينة الرقة، أعجبه شارع تل أبيض كثيراً، ففيه كل ما يحتاجه المرء من متطلبات الحياة، والأهم من ذلك أنه رأى وللمرة الأولى هذا الكم الهائل من التنوع في الملبس بين سكان المدينة والريف من جهة، وبين قريته وقرىً أخرى من جهة ثانية.
اهتم كثيراً بجراره الذي اشتراه والده بالتقسيط، وبات يعمل عليه ليلاً ونهاراً في أرضه وأرض أقربائه بأجر معين، كي يستطيع دفع ما تبقى من ثمنه، صوت الموليا بمكبر الصوت الضخم يملأ الفضاء الواسع، بينما عقله يشرد طوال الوقت بتلك الحسناء التي ابتسمت له في شارع تل أبيض، ولم يتمكن من معرفة القرية التي تعيش فيها. صورتها كانت لا تفارق مخيلته أبداً، فهو يراها دوماً تتراقص أمامه حين يحرث الأرض، بينما صوت المزمار والطبل والدبكات والعرس عالقة في رأسه، ويتيه في عالم واسع من الصور والخيال، يغرز محراثه بقوة في الأرض وقدمه تضغط على دواسة المازوت.
وفي وقت راحته، وبعد تناول وجبته، يستلقي جثة هامدة هدّها التعب، والتفكير، والديون المترتبة، ومصاريف إخوته في المدينة، ومهر العروس، وتبديل الدولاب المهترئ في جرّاره.
لم يكن يسمع عن الربيع العربي، ولا عن ثورة تونس وما تلاها من ثورات، فهي لا تعنيه في شيء ما دام يعمل ويأكل وعنزته تلد فيما رفوف المطبخ تمتلئ بالسمن العربي واللبن والجبن، لكن وجه أبيه هذا المساء كان قلقاً، لم تتوقف لديه نوبة السعال فيما سيجارته مشتعلة بيده، كانت أمه تجلس قبالة أبيه، تصب له الشاي، وتجهز له لفافة التبغ التالية، كان يشعر أن هناك أمراً ما، لكنه لن يتدخل ويسأل عمّا يُقلقه، ففي النهاية سوف يناديه ويخبره كل شيء، يحاول التظاهر أنه نائم، مطلقاً صوتاً يشبه الشخير، يبعد صورة وجه أبيه ويستبدلها بصورة فتاة أحلامه التي لا يعرف عنها شيئاً سوى لون شالها الذي كانت تلقيه على رأسها ويتدلى طرفاه على أكتافها.
قبيل شروق الشمس أخبره والده أنه ينوي النزول إلى المدينة كي يرى إخوته، فقلبه غير مطمئن من الأخبار التي ترد من هناك عن تنظيم مظاهرات وعن إرهابيين ومندسين بين صفوف الناس تنادي بالحرية، وأية حرية تطلبون أكثر من المتاح لكم؟!! لسان حاله يقول بأن أجهزة الأمن والشرطة وفروع المخابرات ستجهز على كل من تسول له نفسه أن يرفع صوته، وكيف لا فمخفر القرية وعناصره ورئيسه لهم الصدارة بكل المجالس، وأصغرهم رتبة يحظى باحترام الجميع، في الطريق نحو المدينة لم يجرؤ أحد من الركاب على التحدث بما يجري في المدن السورية، فلا أحد يثق بالآخر لو كان أخوه ابن أمه وأبيه، استقل تكسي أجرة، أعطى العنوان للسائق فيما كان قلبه يرتجف خوفاً، وهو يرى للمرة الأولى الحواجز العسكرية والسواتر الترابية، وهذه المرة أيضاً لم يجرؤ على سؤال سائق التكسي خوفاً من أن يكون رجل أمن أو مخبراً لهم، نحن في حالنا وليس لنا علاقة بما يحدث فأنتم أغلى ما عندي، وأخوكم يواصل العمل ليلاً ونهاراً كي يؤمن لكم مصاريف الجامعة والدراسة، وقد فاته موعد الزواج لأجلكما، أرجوكما ليس لنا علاقة.
في الصباح كان كل شيء قد تغير في المدينة، تحررت من رجس النظام، وعلت الأصوات مرحبة بالجيش الحر وخرج الأولاد على نصيحة والدهم ليلاً، هتفوا أمام باب المنزل “الله أكبر” وأكملوا المسير مع المتظاهرين، فيما سارع والدهم لمغادرة المدينة نحو قريته نادباً حظه السيء.
الطريق نحو القرية مكتظة+
بسيارات تحمل رشاشات كبيرة، والتكبير يملأ الأجواء فيما عناصر الجيش الحر تهلل فرحاً بالتحرير، وبنظرة خاطفة كادت أن توقف قلبه وكأنه رأى ابنه البكر يحمل بندقية كلاشينكوف بيدٍ واحدة ويطلق النار ابتهاجاً.
حين وصل كان الجرار يتوسط البيت ومحركه بارد، تتشابه درجة برودته بتلك الرعشة التي سرت بجسده، فسقط أرضاً مغشياً عليه وعينه كانت ترقب الدولاب المهترئ.
ناشط وصحفي سوري
اترك تعليقاً